بسم الله الرحمن الرحيم
خطوطه المتموجة تمتد أفقياً.. يعلوها فضاء فسيح يتقوس أعلى الجمجمة.. يتفرَّق شعره الأشيب كشجيرات السيال على حافتي الطريق!!.. حين تراه لأول وهلة ينتابك شعور بأن الواقف أمامك محتال كبير، لكنه يفتقر إلى الذكاء.. ثمة شبح ابتسامة مخنوقة على شفتيهº سرعان ما تكتشف أنها تعبير عن الذهول و عدم الاستيعاب!!.. يتدلى الشال القديم على كتفيه بفوضوية مثيرة للشفقة.
هكذا رأيته أول مرة حين قذف به الطريقي إلى دكاني الكائن في سوق الجملة.. رفعت بصري عن الدفتر المزدحم بالأرقام لأراه متصلبا أمامي.. الكيس الذي بيده اليسرى تزاحمت عليه البضائع.. بدأ يسألني عن أسعار البسكويت، بينما كانت يده اليمنى تعبث بعينات الصابون المرصوصة على الطاولة.. و كعادة الزبائن قضى وقتاً طويلاً في الملاحاة و المجادلة في الأسعار!!.. هكذا امتد التفاوض بيننا على نحو رتيب حتى انتهى بحزمة من المشترواتº حشرها حشراً في كيسه الوحيد، ثم مضى.
حين طاف بذاكرتي هذا اللقاء كانت يداي تقبضان بقوة على حافة العربة (البوكس) التي كنت أستقلها إلى (الحارة) حيث يقيم والداي!!.. تعلو السيارة و تهبط و هي تنهب الطريق مثيرة خلفها سحب الغبار.. صفان من البشر نجلس على الحافتين قبالة بعض و وجوهنا في وجوه بعضنا البعض، و لكن لا أحد يكترث بملامح الآخر.. ساهمون شاردون.. لكل منا عالمه الذي يجول فيه فكره.. تذكرت كيف جاءني في اليوم التالي ليشتري مزيداً من البضائعº قال حينها: إنه يريد أن يصبح زبوناً لي.. ثمة شيء في تقاطيعه لم يجعلني أرتاح إليه!.. و لكن في الوقت ذاته ليس ثمة بد من التعامل معه.. ثرثار على نحو غريب.. هذه الثرثرة امتدت لتجعله يكتشف زمالة عمل قديمة كانت تربطه بوالدي و عمي!! - هكذا قال لي! - و استطرد ليكشف عن سر الرهق الذي يعانيه: (كنت أعمل محاسبا في تلك المؤسسة! و لكنهم أحالوني إلى الصالح العام!!.. فقدت عملي، و لم يعطوني حقوقي كاملة.
مسح العرق المتحدر من جبينه بطرف كمه.
(... هكذا دفعت بي الظروف إلى هنا لأكابد رزقي من أجل أبنائي وتعليمهم.. انظر ماذا فعلوا بي؟!.. أسأل الله أن يأخذهم إليه!!).. سكَتَ قليلاً ثم واصل:
(... أهلك طبعاً أنصار.. و طبعاً لن يتوافقوا مع هؤلاء.. بالمناسبة أين والدك الآن؟.. أظنه بالمعاش؟!)..
أومَأتُ بالإيجاب دون أن أنطق بكلمةº أملا في أن أختصر تلك الثرثرة.. و لكنه واصل:
- قلت لي تخرجت من الجامعة قبل ثلاث سنوات؟!.. طبعاً هم لن يتيحوا لك فرصة للعمل.. الأفضل لك أن تهاجر!.
أحاول التشاغل عنه بالتبايع مع الزبائن الذين يتوافدون ويمضون و هو لا يزال في مكانهº مواصلا ثرثرته، غير عابئ بمن حوله!!.
- الاغتراب سيوفر لك فرصة أفضل، و ستتزوج، و ستبتني بيتك، و...، و... و... و... )
أخيراً تنفست الصعداء حينما رفع كيسه الممتلئ على كتفه، ثم ألقى تحية الوداع، و مضى.
استمر وضعي معه على هذا النحو حيناً من الزمانº فقد وجدت نفسي مضطرا للتعامل معه كزبونº فكان يأخذ البضائع بالدين، و يسدد ثمنها لاحقاً بعد أن يبيع.. استمر هذا الوضع زمناً، إلى أن جاء اليوم الذي لم أعثر فيه على أثر له!!.. بحثت عنه في كل السوق دون جدوىº فقد اختفى و لي عليه مبلغ محترم من المال!.. واصلت البحث عنه في كل مكان - داخل و خارج السوق، و في الأسواق المجاورة - إلى أن عثرت عليه أخيراً في أحد تلك الأسواق واقفاً ينادي على بضائعه التي تفترش الأرض أمامه!.
بنفس الثرثرة المعتادة روى لي قصة الأمراض المفاجئة التي دهمته هو و أبناءهº و أفقدته رأس مالهº حتى إنه لم يبق له شيء سوى هذا الفتات الذي لا يسد الرمق، و لا يأتي بعائد يذكر!.. كان صادقاً فيما قال - أو هكذا وقع في نفسي - و أخيراً عدت صفر اليدينº و لم أحصل منه على شيء سوى الوعود.. و في قرارة نفسي قررت ألاَّ أطالبه بالمبلغ بعد ذلك اليوم.
قطع عليَّ حبل تفكيري توقٌّف العربة المفاجيء حين مرَّ طفل شقي يجري أمامها كالصاروخ.. كادت السيارة أن تدهسه لولا لطف الله!.. انطلقت همهمات الركاب: (لا حول و لا قوة إلاّ بالله.. أولاد شياطين!.. هسع دا أهله طالقنوا كيف؟!).. استأنفت العربة طريقها بعد أن أفرغ السائق مخزونه من السباب على الطفل و (آباء أهله)!.. و استأنفت أنا حبل ذكرياتي!.. لكن ما الذي جعلني أستدعي تلك الذكريات التي مضت عليها سنوات خمس؟!.. إنه (الهمٌّ المزمن)º الذي يهجم عليَّ كلما أزمع على زيارة والديّ!!.. فثمة برنامج من الثرثرة الحتمية ينتظرني في محطة المواصلات، ومع اللحظة التي أضع فيها قدميَّ على الأرض يظهر لي هو بجثته الممتلئة، و شعره الأشعث، و شاله المتدلي بفوضية على كتفيه، ثم يبدأ في البرنامج الممل بالمدخل المعهود: (قلت لي الكلاب ديل كيف؟!).. و يواصل الثرثرة و إفراغ كل مخزونه من المعلومات السياسية التي تجمعت عنده خلال الأسبوع!..
لقد بدأ هذا البرنامج الممل مباشرة بعد اللحظة التي استيأست فيها من حصولي على ديني الذي عندهº و استعوضت الله في مالي.. و حمدت الله على أني قد استرحت منه و من ثرثرته المرهقة.. علمت أنه قد غادر السوق إلى غير رجعة و ترك العمل بالتجارة إلى عمل جديد.. و لم أكن أدري أن ذلك (العمل الجديد) هو قدري الجديد كذلك!!.. لم أكن أعلم ذلك حتى فوجئت به في نهاية اليوم حين حطّت قدماي على الأرض نزولاً من العربة التي أقلتني إلى الحارة.. كم كانت صدمتي حين وجدته يقف أمامي بنفس تلك الهيئة التي رأيته فيها أول مرة!!.. الشال البالي على كتفيه، و الصلعة تتوسط رأسهº مظهرة ضخامته.. بيده كراسة و قلم.. ينظم حركة المركبات في تلك المحطة الصغيرة التي تتجمع فيها السيارات المنهكة التي يتحرك بواسطتها أهل الحارة!!.. هكذا حشر نفسه في وظيفة جديدة، و حشرني في برنامجه منذ ذلك الحين!.. فهو ما أن يبصرني حتى يسرع إلى إيقافي، و يبدأ مباشرة في الثرثرة معي:
(قلت لي الكلاب ديل كيف؟!).. كان يهدر مني وقتاً ثميناً، كان أحياناً يحول بيني و بين الصعود إلى العربة التي عليها الدور لأنتظر الأخرى.. كل ذلك من أجل لا شيء سوى إشباع رغبة عارمة لديه في الثرثرة، و لإفراغ مخزونه من المعلومات السياسية!!.. و يمتد النقاش بيننا لينتهي دائماً إلى نقطة خلاف غير موضوعي، كما ينتهي دائماً بإضاعة وقتي، و تعويقي عن القيام بواجب مهم.
كان من لطف الله عليَّ أنه يعمل يوماً و يغيب يوماًº فكان في ذلك بعض الراحة.. و استمر هذا العناء يقاسمني أيامي حتى تزوجت و رحلت عن الحارة.. و صرت بعد ذلك أجتهد أن أبرمج زياراتي لأهلي في أيام غيابه من العمل.. و كثيراً ما كنت أنسى موعد عمله بسبب المشاغل، و في هذه الحالة أحاول التسلل خلسة دون أن يراني..
هذا اليوم كان استثنائياً على ما يبدو.. و على الطريق أمامنا كانت البيوت تتدافع مسرعة نحو العربة التي كانت تنهب الطريق نهباً.. تراءى لي منظر السوق الصغير حيث تتوقف السيارات.. تتناثر فيه رواكيب مصنوعة من أعواد القنا، و مسقوفة بقطع (الخيش).. هنا وهناك يقف بائعو الحلوى و السجائر خلف بضائعهم.. بائعات الشاي و البيض و الطعمية يجلسن على مقاعدهن الصغيرة (بنابر).. و يتحلّق حولهن الزبائن!!.. كانت هذه هي خلفية محطة المواصلات المتواضعةº حيث تتناثر السيارات القديمة هنا وهناك، و تتوسطها مظلة من الحصير تقف تحتها السيارة (صاحبة الدور) ليستقلها الركاب.
في وسط هذه التفاصيل تجولت ببصري متفقداً أثر ذلك الشخص المرهق.. عبثا حاولت و لم يقع بصري له على أثر، و لا حتى لشاله القديم!.. حمدت الله في سرِّيº فلأول مرة سأستطيع أن أعبر المكان دون أن أتعرض لذلك الحوار الممل و غير المجدي.. و في هذه المرة كنت على عجلة من أمري جداً، و هو بالطبع لن يستوعب شيئاً كهذا.. نزلت من العربة، و أسرعت الخطى و أنا اتلفَّت يميناً و يساراًº فربما تقذف به فجأة بطن أي دكان، أو ينفلق عنه ركن قصي مهمل لم أنتبه له!.. لم أتنفس الصعداء إلا حينما عبرت المحطة و تجاوزت السوق تماماً!.. أخيراً أفلت.. تسارعت خطاي نحو دارنا و في رأسي أن أضع أكياسي، و أجلس قليلاًº أتفقد أحوال أهلي، ثم أعود من توّي لأدرك موعداً تبقت لي منه سويعات قليلة..
دفعت الباب الحديدي القديم، و دلفت إلى الداخل، و ألقيت التحية على والدتي و إخوتي، و جلست قليلاً أسألهم عن أحوالهم، ثم سألت عن والدي فأخبرتني أمي أنه موجود بالصالون و معه ضيفº فاستأذنتهم لأسلم على أبي.
دخلت الصالون.. و قبل أن ألقي التحية.. بل و قبل أن أستوعب الموقف رفع أبي صوته قائلا:
- هذا هو عبد الله!.. ابن حلال و الله!..
تابعº وهو ممسك بكفيº موجهاً الحديث إلى ضيفه:
- ألم أقل لك: لا بد أنه سيأتي اليوم؟!..
ثم التفت إليَّ قائلاً:
- صاحبك هذا هنا منذ ساعة، و كان يسأل عنك بشدة!!.. و الآن اسمحوا لي أن أترككم.. فلديَّ مشكلة عاجلة جداً عليَّ أن أحلها..
ثم التفت إلى الضيف:
- البيت بيتك!..
و خرج من توِّه دون أن يلتفت.. أما أنا فقد تجمد في وجهي كل تعبير!.. و جهادا تمكنت من رسم شبح ابتسامة باهتة على شفتي و أنا أمد يدي آليا - إلى (الضيف).. أما هو فقد نهض من كرسيِّه، و كشَّر عن ابتسامة بلهاء!!.. و قبض على يدي الممدودة إليه، و هزَّها بقوة:
- أين أنت؟!.. ليك مدة!!.
ميكانيكيا رددت عليه!!.. و لست أدرى ماذا قلت؟!..
جلس على كرسيه، و أعادت تقاطيع وجهه ترتيب تعابيرهاº لتتناسب مع الشعور بالظفر!.. مدَّ يده إلى رأسه ليعدل وضع القلنسوة على صلعته الكبيرة، ثم خلف رجله على الأخرى، ومال بوجهه إليَّ:
- (قلت لي الكلاب ديل كيف؟!).
- (......... )
تعطلت بديهتي عن الرَّد..فقد كان يشغلني إحساس طاغٍ,، و تشكل داخلي مشهد انهيار هرم من علب الصلصة كنت قد بذلت جهداً كبيراً في رصِّه على أحد أرفف الدكان!!.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد