ليلة لا تنسى


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

كانت دقات الساعة توقظ سكون الليل من حولها وتزيد من أرقها وضيقها فتنهض من الفراش وتتجه إلى شرفة الحجرة لتنظر منها نظرة عابرة وتلتفت تقلب عينيها في أركان الحجرة دون هدف ثم تجلس على أحد المقاعد وتعود لتنظر إلى عقارب الساعة من جديد التي تقترب من الثانية بعد منتصف الليل، وتقذفها الذكريات إلى شاطئ بعيد، لقد تعودت في الماضي أن يوقظها في مثل هذا الوقت من الليل ليصليا معاً ركعتين تهجداً لله··· كما كانت سعادتها حين تجمعهما نسمات السحر الندية وهي تقف خلفه تستمتع بترتيله الرائع لآيات القرآن الكريم فيزيد ذلك من قربهما وتراحمهما ولكن ما أبعد اليوم من البارحة··· لقد كانت حياتهما تسير في هدوء وسكينة وإن خلت من بعض الرفاهية والكماليات، ولكنها كانت أسعد الناس بوده ووفاقه معها حتى كانت تلك الليلة الرهيبة التي لن تنساها أبداً حين فزعت هي وزوجها إلى صوت صراخ ولدهما الصغير وهو يتلوى من ألم يمزق أحشاءه فهرعا به إلى أقرب مستشفى وكانت مستشفى خاص ولكن موظف الاستقبال يرفض أن يسمح لهما بالدخول قبل دفع مبلغ التأمين حسب قوانين المستشفى.

الزوج: ولكنه مبلغ كبير وهو ليس معي الآن، والطفل يتلوى أمامك من شدة الألم وصراخه يكاد يعلو على حديثنا، وأخشى أن يكون التهاب بالزائدة الدودية ويحدث له مكروه قبل وصولنا إلى المستشفى الحكومي فالوقت متأخر ونحن في منطقة نائية.

ولكن الموظف يصر قائلاً: آسف يا سيدي فهذه تعليمات الإدارة ولا ذنب لي.

ويثور الزوج ويهدد بتحميل إدارة المستشفى مسؤولية ما قد يحدث لولده، وأمام ثورة الأب وتوسلات الأم يسمح لهما الموظف بالدخول على أن يذهب الأب لتدبير المبلغ المطلوب في الحال، وبالفعل يذهب الزوج ليقترض المبلغ من أحد الجيران ويعود مسرعاً، لقد انتهى الموقف بسلام، ولكن تلك الليلة كانت السبب في تغيير مجرى حياتهما بشكل مذهل، فقد أخذ الزوج يبحث جاهداً حتى استطاع الحصول على عمل في الخارج بعد أن كان يرفض تلك الفكرة تماماً، وأصبحت لا تراه إلا في إجازته السنوية التي تظل تحسب وتعد لها طوال الأيام لتسعد وأطفالها بوجوده أياماً قلائل، لا تلبث أن تمر مسرعة ويعود يحزم حقائبه ويرحل من جديد، قد تكون الحياة الآن أكثر سهولة، أكثر رفاهية، ولكنها تخلو من سعادتها القديمة، بالأنس بقربه ومعايشته لها بعد أن أصبحت حياتها سلسلة من الانتظار لا تنتهي، وها هي إجازته السنوية قد أوشكت على الانتهاء، وها هي تنتظره من جديد وهو لم يرجع إلى المنزل حتى هذه الساعة المتأخرة من الليل، ويقطع أفكارها صوت باب الحجرة الذي ينفتح أخيراً ليدخل منه الزوج منهكاً ويلقي - عليها السلام - وهو يلقي بجسده على أقرب كرسي.

الزوجة: وعليكم السلام ورحمة الله، تأخرت كثيراً يا أحمد لقد قتلني القلق عليك.

أحمد: عفواً يا عائشة فلدي أعمال كثيرة لابد من إنجازها قبل السفر.

عائشة بحزن: إذن مازلت مصراً على السفر مرة أخرى.

أحمد: عائشة أرجوك لقد تحدثنا في هذا الموضوع حتى مللته.

عائشة متوسلة: ناشدتك الله يا أحمد أن تفكر في هذا الأمر مرة أخرى، من أجلي، من أجل أبنائك، من أجل كل شيء جميل فقدناه في تلك السنوات الطويلة وأنت بعيد عنَّا··· إننا في أشد الحاجة إليك.

أحمد: تقولين ذلك لأنك لا ينقصك شيء، ولكن لو رجعنا إلى الحاجة وضيق ذات اليد مرة أخرى لتغير موقفك.

الزوجة مقاطعة حديثه: أنت تعلم علم اليقين أن هذه ليست الحقيقة وتعلم أنني لم أكن راضية عن فكرة السفر بعيداً عنا منذ البداية··· إن أجمل سنوات العمر تنقضي وكل منَّا في مكان وعالم منفصل عن الآخر وما المبرر لكل ذلك؟! ما الثمن؟!

الزوج: أنت لا تقدرين ما أتحمله من أجلكم أم تظنين أنني سعيد بالغربة والبعد عنكم، إنني أعمل ليل نهار وأضحي براحتي وبكل متعة من أجلكم.

الزوجة: ولِمَ كل ذلك؟

الزوج بانفعال: لأنني في ليلة ما كدت أفقد ولدي لأنني لا أملك المال أم تراك قد نسيت؟ لإن نسيت أنت فإنني لن أنسى، لن أنسى حين شعرت للمرة الأولى بالعجز والضآلة··· لقد أقسمت ألا أشعر بهذا الشعور المميت مرة أخرى وعاهدت نفسي ألا أعرضكم لذلك ثانية مهما كلفني ذلك وأن أحقق لكم الحياة الكريمة والأمان.

 

الزوجة: الأمان بالله يا أحمد والمال لا يغير قدر أنت من علمتني ذلك··· منذ متى كانت قيمة الإنسان بمقدار ما يملك، كيف تحولت نظرتك للأشياء إلى هذا المنطق··· كأنك تبدلت يا أبا أبنائي.

الزوج مقاطعاً حديثها: أرجوك يا عائشة إنني منهك من التعب فدعيني أخلد إلى النوم الآن.

عائشة بيأس: حسناً لك ما تشاء.

وفي الصباح تستيقظ عائشة على صوت الزوج يناديها غاضباً فتنهض فزعة متسائلة ماذا هناك.

الزوج: كيف تجرئين على فعل ذلك، هذا فعل صبياني أهوج.

عائشة: أنا لا أفهم شيئاً أرجوك أفهمني ما حدث بهدوء.

الزوج: لقد وجدت جواز سفري ممزقاً وصورتي غير موجودة به، فمن يفعل ذلك غيرك أنت، إلا انني صممت على السفر تقدمين على هذا التصرف الصبياني غير المسؤول؟ وهل تعتقدين أنك سوف ترغمينني على عدم السفر بذلك؟!

عائشة باكية: أقسم أني لم أفعل ذلك.

وتدخل الطفلة ياسمين أصغر الأبناء قائلة في خجل: أبي إن أمي ليس لها ذنب فأنا التي فعلت ذلك؟

الأب يهدأ قليلاً ويقترب من الطفلة قائلاً: ولماذا فعلت ذلك يا صغيرتي؟!

الطفلة: عفواً يا أبي فلم أكن أقصد أن أمزقه فقط أردت أن أنزع صورتك من داخله فتمزق دون قصد مني.

الأب: وما الذي دفعك لنزع الصورة؟!

وتنطلق الصغيرة ببراءة الأطفال تقول: إنك يا أبي تسافر طويلاً ولا نراك إلا أياماً قلائل، لذلك فأنا أحياناً أنسى ملامح وجهك وهذا يحزنني جداً لأن كل صديقاتي يعرفن آبائهن جيداً كما أنني أحبك كثيراً ولا أريد أن أنساك أبداً فهل تسمح لي أن أحتفظ بالصورة معي.

ويصمت الأب لبرهة ثم يقول بحزن: نعم يا صغيرتي لك ذلك، فتحتضنه الطفلة وتقبله ثم تخرج وهي سعيدة، ويبقى الأب واجماً وتقترب منه عائشة وتربت على كتفيه قائلة: لا عليك يا أحمد إنها طفلة صغيرة لا تعي شيئاً ويمكن استخراج جواز سفر آخر بسهولة، فينظر إليها أحمد ثم يأخذ جواز سفره الممزق ويخرج دون أن ينطق بكلمة··· وبعد فترة قصيرة يعود إلى البيت مرة أخرى فتستقبله الزوجة قائلة: لماذا عدت سريعاً هكذا؟

الزوج: كان يجب أن أعود يا عائشة، لأن الأب الذي تنسى ابنته ملامحه لطول غيابه عنها ليس أباً، لذلك كان يجب أن أعود ليس إلى البيت فقط، بل إلى كل معنى جميل قتلته فينا برودة الغربة والتنائي، هناك بعض المواقف القاسية التي عندما يتعرض لها لإنسان تفقده توازنه وتترك أثرها في نفسه، بل إنها أحياناً تغير ملامح شخصيته، ولكن يجب أن يكون لديه الجرأة والشجاعة للرجوع مرة أخرى إلى نهجه القديم، إن ما حدث لنا كان بمثابة ريح عاصف غير مجري سفينتنا واتجاهها ولكني لم أتغيَّر يا عائشة·· لم أتغيَّر أبداً··· وأعتقد أني بعون الله أستطيع تناسي تلك الليلة وكل أثر لها لذلك فقد قررت عدم السفر.

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply