بسم الله الرحمن الرحيم
يروي الشيخ أحمد القطان هذه القصة عن والده الذي ابتعد عن طريق الله كثيراً، بسبب تصرف شخص جاهل منتسب إلى الدين زوراً وبهتاناً، وقد ذكر الشيخ هذه القصة في درس له بعنوان: \"سلامة الصدر من الأحقاد\"، فقال: \" أصيب والدي - رحمه الله - بمرض في الغوص، حيث كانوا على ظهر سفينة فضربتهم صاعقة فقد كانوا داخلين في شط العرب يحملون التمور، وكانت هناك سفينة كويتية معطلة تحتاج إلى بعض التصليح، فطلب ربان هذه السفينة ـ المعطلة ـ من ربان السفينة الأخرى التي فيها والدي أن يساعده فيجر معه \"المحمل\" حتى يخرجه من المكان الضحل إلى المكان العميق، فوعده أن يساعده في وقت آخر بعد أن يستقي الماء، ثم يعود إليه ويجره إلى المكان العميق، إلا أنه كان مستعجلاً وكان محملاً بضاعة ثقيلة فلم يف بوعده إذ \"خطف\" بالليل خفية وترك صاحبه الذي عاهده، فلما خرج من الخليج العربي جاءت سحابة فوق السفينة فبرقت ورعدت ونزلت منها صاعقة على رأس الشراع فاحترق كله، وكان والدي ممن أصيب بهذه الصاعقة، فأصيب بمرض أشبه بالشلل، وكان التجار يلومون ربان السفينة ويقولون له: لو أنك ساعدت ذلك الرجل صاحب السفينة المعطلة لما حدث ما حدث..ولكن..قدر الله وما شاء فعل.
ثم عادوا بوالدي - رحمه الله - إلى بيته وقد أصبح مقعداً لا يستطيع المشي، وأكل ما عنده من مدخرات، حتى أصبح يخرج وهو يزحف إلى الشارع لعله يجد من يجود عليه ولو بكسرة خبز، ولما بلغت به الأمور هذه الحالة وامتد مرضه ما يقارب العشر سنوات وهو جالس في البيت بلا علاج، وصفوا له شيخاً من المنتسبين للدين يقرأ على الناس الآيات والأحاديث للاستشفاء، واستدعى والدي ذلك الشيخ الذي يسمونه \" الملا \" فجاء الملا، وكان أول سؤال وجهه إلى والدي ـ مع الأسف الشديد ـ: \" كم تدفع على هذه القراءة؟ \"، فقال والدي - رحمه الله -: \" أنا رجل فقير ومقعد وليس معي في جيبي إلا هذه النصف روبية وهي ثمن طعامي أنا ووالدتي \"، فقال الملا: هذه لا تكفي.. وطلب أكثر من ذلك.. فلما لم يعطه والدي ما يريد خرج ولم يقرأ عليه شيئا.. وهنا.. أحس والدي بامتعاض شديد، وتولد عنده رد فعل عنيف جعله يكره الدين ويكره من ينتسب إلى هذا الدين، وأصبحت هذه الحادثة دائماً على لسانه، لا سيما وأنه كان فصيحا وذكياً يقول الشعر ويضرب الأمثال.. فسلط تلك الفصاحة وذلك الذكاء للسخرية بالمتدينين بسبب ذلك الموقف الذي وقفه ذلك الملا.
ومرت الأيام، ويقدر الله - جل وعلا - أن يأتيه رجل فيقول له: لماذا لا تذهب إلى المستشفى \" الأمريكاني\" الذي يمدحه الناس ويثنون عليه، وفيه طبيب جيد اسمه سكيدر.. الخ، وهو مستشفى تابع لإرساليات التبشير النصرانية، فقال له والدي: \" ولكن كيف أستطيع الوصول إلى هذه المستشفى وهو بعيد عن بيتي وأنا لا أستطيع المشي \"، ولم تكن في ذلك الوقت مواصلات تنقلهم كما هو الآن إلا عند أناس يعدون على الأصابع ومن هؤلاء المعدودين ذلك المستشفى المذكور حيث كان يملك سيارة وعند الدكتور سكيدر سيارة أخرى..
وعند آذان الفجر زحف والدي - رحمه الله - على فخذيه من بيته إلى المستشفى \" الأمريكاني\" فما وصله ـ زحفا ـ إلا قبيل الظهر، وكان ذلك في فصل الصيف، يقول - رحمه الله -: \" فلما وصلت إلى جدار المستشفى لم تبق في قطرة ماء لا في فمي ولا في عيني ولا جسمي.. وأحسست أن الشمس تحرقني وأكاد أموت حتى إني لا أستطيع أن أتكلم أو أصرخ أو أنادي.. فدنوت من الجدار ونمت وبدأت أتشهد استعدادا للموت، ثم أغمي علي وظننت أني مت، فلما فتحت عيني إذا أنا في غرفة نظيفة وبجواري دواء، فسألت الناس الذين كانوا يعالجون في المستشفى: ماذا حدث؟ فقالوا: إن الناس قد أخبروا الطبيب بأن هناك رجلا قد أغمي عليه عند جدار المستشفى، فنظر من النافذة فرآه، فنزل مع الممرضين وحملوه ودخلوا به، ثم بعد ذلك قام بتشخيصه تشخيصا كاملا حتى عرف المرض وأعطاه حقنة ثم بعد ذلك أعطاه الدواء وحمله بسيارته الخاصة وأوصله إلى البيت.
ثم قال والدي - رحمه الله -: \" فلما وضعت يدي في جيبي وجدت بها خمس روبيات، فسألت: من الذي وضع هذه الروبيات في جيبي؟ فقالت الوالدة: وضعها الدكتور الذي أحضرك إلى هنا!!
الشاهد أن الوالد - رحمه الله - شفي من مرضه وقام يمشي، بعد أن ظل ذلك الطبيب يزوره في كل أسبوع مرة ويتلطف معه ويمسح عليه وينظفه ويعالجه إلى أن تحسنت صحته وقام يمشي، ثم بدأ يعمل ثم بعد ذلك تزوج، فلما رزقه الله بابنه الأول ـ وهو أنا ـ ظل ولاؤه لهذا الطبيب لدرجة أنني لما بلغت الخامسة من عمري وبدأت أعقل بعض الأمور، كان يأخذني كل أسبوع في زيارة مخصصة إلى ذلك الدكتور، ويلقنني منذ الصغر ويقول: \" انظر إلى هذا الرجل الذي أمامك.. إنه هو سبب شفاء والدك.. هذا الذي كان يعالجني في يوم من الأيام ويضع في جيبي خمس روبيات بينما يرفض \"الملا\" علاجي لأني لا أملك هذه الروبيات \".. ثم يأمرني بتقبيل يده، فأقوم أنا وأقبل يده، واستمرت هذه الزيارة المخصصة لذلك الدكتور إلى أن بلغت العاشرة من عمري.. في كل أسبوع زيارة وكأنها عبادة.. يدفعني إليه دفعا لكي أقبل يده.
وقد استمر والدي يسخر من المتدينين ويستهزئ بهم، فلما هداني الله إلى الطريق المستقيم وأعفيت لحيتي، بدأ يسخر ويستهزئ باللحية، فقلت في نفسي: \"إن من المستحيل أن أنزع صورة ذلك \"الملا\" وصورة ذلك الدكتور من رأسه إلا أن أحسن المعاملة معه أكثر من \"الملا\" وأكثر من الدكتور وبدون ذلك لن أستطيع \".. فظللت أنتظر الفرصة المناسبة لذلك طمعا في هداية والدي إلى أن جاءت الفرصة المنتظرة ومرض الوالد مرضا عضالا وأصبح طريح الفراش في المستشفى حتى إنه لا يستطيع الذهاب إلى مكان قضاء الحاجة إذا أراد ذلك وكنت أنا بجواره ليلا ونهارا فقلت في نفسي: هذه فرصة لا تقدر بثمن\".
وفي تلك الحال كان ـ رحمة الله عليه ـ يتفنن في مطالبه ليختبرني هل أطيعه أم لا، ومن ذلك أنه في جوف الليل كان يأمرني بأن أحضر له نوعا من أنواع الفاكهة لا يوجد في ذلك الوقت، فأذهب وأبحث في كل مكان حتى أجدها في تلك الساعة المتأخرة ثم أقدمها له فلا يأكلها.. فإذا أراد أن يقضي الحاجة لا يستطيع القيام فأضع يدي تحت مقعدته حتى يقضي حاجته في يدي ويتبول في يدي، وأظل واضعا يدي حتى ينتهي من قضاء الحاجة، وهو يتعجب من هذا السلوك.. ثم أذهب إلى دورة المياه وأنظف يدي مما أصابهما، وقد تكررت هذه الحادثة في كل عشر دقائق مرة نظرا لشدة المرض حتى أنني في النهاية لم أتمكن من غسل يدي كلما تبرز أو تبول لكثرة ذلك.. فلما رأى والدي هذا التصرف يتكرر مني أكثر من مرة أخذ يبكي.. فكان هذا البكاء فاتحة الخير والإيمان في قلبه، ثم قال لي: \" إنني ما عرفت قيمتك إلا في هذه اللحظة\".
ثم سألني: هل جميع هؤلاء الشباب المتدينين مثلك؟ قلت له: بل أحسن مني ولكنك لا تعرفهم، وكانوا يزورونه ويسلمون عليه، فبدأ يصلي ويصوم ويذكر الله ولا يفتر لسانه عن ذكر الله وقول لا إله إلا الله محمد رسول الله وأسبغ الله عليه هذا الدين.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد