الضمير قد يصنع المزيفات !


بسم الله الرحمن الرحيم

 

ترددت وتعددت كلمة الضمير على ألسنة المسلمين وقد تكون عند البعض منهج حياته وتوجيه سلوكه حتى أُلقي على الضمير ثوب التقديس والتشريع وهكذا تَخَدع الألفاظ من حمَّلها غير ما تحتمل فيضعها في غير موضعها..... فالضمير قد يصنع المزيفات بل الموبقات! نسأل الله العافية

وقد وقفت على كلامٍ, نفيس لشيخ الأزهر السابق الشيخ د. عبد الحليم محمود - رحمه الله -  أرى لأهميته إيراده هنا.

قال: \"والأخلاق في جو الإسلام مرتبطة بالدين ارتباطا لا ينفصل، منه تنبع، وعلى أساسه تقوم، وعنه تصدر، إنها جزء من الدين الإسلامي، لا يتجزأ، مصدرها هو مصدره: إلهي رباني.

وبعض الناس في العصر الحديث يريد أن يجعل للأخلاق مصادر أخرى.

يريد بعضهم أن يجعل أساس الأخلاق الضمير، بيد أن ذلك خطأ بين، فالضمير يربى ويكون، وتربيته وتكوينه هما شكله، ونزعته واتجاهه، الذي يتكيف بحسب الثقافة والبيئة والعصر والوسط.

أين مثلا الضمير عند الأمريكي الأبيض بالنسبة للأمريكي الأسود، وأين ضمائر البيض في جنوب إفريقيا بالنسبة لأهل البلاد الأصليين، وأين ضمير المستعمر أينما كان بالنسبة للمستعمر؟ ؟

إن الضمير أحيانا يصنع كما تصنع المزيفات، وهو إذن مقياس للأخلاق خاطئ.

وإذا بحثنا في معاجم اللغة العربية عن معنى كلمة \" الضمير \" فإننا لا نجد من بين معانيها، المعنى الأخلاقي، الذي نفهمه من هذه الكلمة في العصر الحاضر ونستعملها فيه ونطلقها عليه، وهي لم ترد بهذا المعنى في القرآن، أو الحديث، أو في الشعر العربي القديم، إنه معنى محدث، أخذناه عن الغرب في العصور الحديثة.

ويقول صاحب كتاب المشكلة الأخلاقية الأستاذ الفرنسي أندريه كرسون:

\" ولما استعرضوا التاريخ والوقائع والمشاهدات، يستنيرون بها في أمر الضمير رأوا: أن الناس في كل العصور وفي جميع الأقطار يستشيرون ضمائرهم.

\" ولكنها لا تسمعهم جميعا لحنا واحدا إذ أن ما يظهر عدلا وخيرا لبعض النفوس المخلصة في عصر خاص، لا يظهر عدلا ولا خيرا لنفوس أخرى، هي أيضا مخلصة، ولكنها عاشت في عصر آخر، أو مكان آخر \".

ويقول: \" وكانت القوانين الرومانية القديمة، تجعل من المرأة والأطفال ملكا للزوج، كما لو كانوا أمتعة وأنعاما، لهذا كان للأب، من بين الحقوق الأخرى، الحق في أن يعرض ابنته المولودة حديثا، في السوق العام، إذا كانت له بنت أخرى، ولسنا بحاجة إلى أن نذهب بعيدا.

فها هم أولاء أسلافنا، كانوا يرون شرعية تطبيق العقوبة على مجرد ظن الجريمة، وكانوا بلا أدنى قلق يشاهدون الفرد مشنوقا من أجل اختلاس تافه \".

ويقول: \" ومن ناحية أخرى: فإنه لا شيء أغرب من مشاهدة بعض الالتزامات التي تقتضيها حياة بعض البدائيين، وليس من المجهول، ما يعد من المحرمات الدينية عندهم: مثل تحريم بعض أنواع اللحوم، أو بعض أنواع الأشربة، أو خروج النساء بدون حجاب.

وأمر الطقوس السائدة في البلاد \" الأوقيانوسية \" معروف مشهور: فهي تعتبر من الآثام، ما قد يظهر لنا طبيعيا، بل فوق ذلك ما يظهر ضروريا: إنها تحرم تناول الطعام تحت السقف، والمكث في المسكن إذا كان المرء مريضا، واستعمال الأيدي في التغذية، بعد فراغ المرء من حلق شعره، أو بعد فراغه من صنع زورق على أن الدلالة العميقة إنما هي مظاهر اختلاف الضمير في البيئة الواحدة، وفي الجماعة الواحدة، المتحضرة المتمدينة.

وهل الرأسمالي، الذي يدافع عن نظام الميراث، أقل إخلاصا من الشيوعي الذي يهاجمه؟

أم هل الديموقراطي، الذي يقرر ضرورة الانتخاب العام، أقل إخلاصا من الأرستوقراطي الذي يعلن عدم ملاءمة هذا النظام؟

وهل \" فيلانت \" عندما يبيح أنواعا من الكذب، أقل اقتناعا برأيه من \" ألسست \" عندما يحرمها؟

إن \" شارلوت كردي \" عندما قضت على حياة \" مارا \" كانت ترى - ولا شك - أنها تقوم بعمل أخلاقي عظيم بلا مراء، فهل المواطنون الذين ساقوها إلى المقصلة كانوا أقل إيمانا منها بالقيمة الأخلاقية لعملهم هذا؟ \" ا هـ

هذه الأمثلة التي ذكرها الأستاذ \" أندريه كرسون \": إنما هي قطرة من بحر، مما يمكن أن يبرهن به، على اختلاف الضمير، بحسب اختلاف الزمن، أو اختلاف الثقافات في البيئة الواحدة، وهناك أمثلة لا تحصى إذا ما قارنا ضمائر العرب في العصر الجاهلي، بضمائرهم في العصر الإسلامي، أو ضمائر الوثنيين في مكة بضمائر المسلمين فيها عند نشأة الإسلام، أو إذا ما قارنا ضمائر المتفرنجين في مصر في العصر الحاضر بضمائر المحافظين فيها.

والنتيجة لكل هذه المقارنات هي: أن اتخاذ الضمير كأساس للأخلاق، أو كمقياس لها إنما هو مجرد حماقة وعبث.

لقد نظر فضيلة الإمام الأكبر الشيخ محمود شلتوت شيخ الأزهر الأسبق إلى الضمير، وإلى أحكامه نظرة فاحصة دقيقة. وانتهى فيه إلى الحق، فوضعه في موضعه الصادق.

لقد كتب في كتابه تفسير القرآن الكريم ص 225 تحت عنوان: \" إرضاء الضمير \" مقياس غير منضبط، ما يلي: \" وهناك فريق من الناس يرون أن أساس الفضيلة هو تلبية الضمير فيما يعتقدونه خيرا للمجتمع، ويرون أن هذا كاف في سعادة الإنسان، وأن الضمير كفيل بتقدير الخير ومعرفته دون رجوع إلى الله وما يرسم لعباده من شرع وخلق، وأنهم بهذا ليسوا في حاجة إلى الوحي، وأن الوحي إذا كان فإنما يحتاج إليه لإرشاد من ليسوا من أرباب الضمائر الحية المتيقظة، وقد فات هؤلاء أن فهم ما ينفع الهيئة الاجتماعية وما لا ينفعها كثيرا ما تختلف فيه الأنظار والآراء، وقلما نجد في تاريخ هذه النظرية - قديمة وحديثة - اتفاقا على نفع جزئية معينة، أو ضرر الخير والفضيلة، وقد عدل كثير من الفلاسفة عن آرائهم الأولى، واستحدثوا آراء أخرى جديدة، ولهذا تعترك في عصرنا الحاضر المذاهب الاجتماعية من ديمقراطية وفاشية ونازية وشيوعية واشتراكية، بل يتنازع أرباب المذهب الواحد، بل يتناقض الفرد الواحد مع نفسه ورأسه في وقتين مختلفتين، وكل هؤلاء يتحاكمون إلى الضمير، أو يتحاكمون إلى الإدراك البشري في معرفة الفضيلة، وهو تحاكم ـ كما ترى ـ إلى أساس غير ثابت ولا منضبط ولا مأمون العاقبة، وهو في الوقت ذاته سير بالنفس وبالعالم في طريق محفوفة بالمخاطر تهدد العالم في أمنه واستقراره، وتشعل فيما بين جوانبه نار الحروب والتدمير، ولا سبيل إلى الاستقرار في هذا العالم وسلامته من أثر الآراء المشتجرة إلا بالرجوع إلى أساس ثابت منضبط صادر عن عليم بطيات النفوس. ونزعات البشرية، يبصرهم ذلك الأساس بالخير والفضيلة التي ارتسمت في لوح الوجود الحق الذي لا يكتنهه إلا خالق الوجود ومدبر الكون على ما يعلم فيه من سنن وشئون، وليس ذلك المبصر إلا وحي العليم الحكيم: \" إِنَّ هَذَا القُرآنَ يَهدِي لِلَّتِي هِيَ أَقوَمُ وَيُبَشِّرُ المُؤمِنِينَ الَّذِينَ يَعمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُم أَجرًا كَبِيرًا \" سورة الإسراء الآية 9 ا هـ.

وبعض الناس يريد أن يرجع بالأخلاق الفاضلة أو الخير الذي دعا الله - سبحانه - إليه إلى المصلحة العامة، ولكن المصلحة العامة كلمة غير محددة. وكل من يتحدث باسم المصلحة العامة: إنما يتحدث باسم فكرته هو سواء أكانت هذه الفكرة منحرفة أم ليست منحرفة.

والمصلحة العامة إذن كأساس للأخلاق: إنما هي أساس غير مضمون.

وبعض الناس يريد أن يرجع بالأخلاق إلى المصلحة الشخصية أو إلى اللذة أو إلى المنفعة.

وكل هذا وارد الغرب الأوربي، أو الغرب الأمريكي عندما انحرف هذا الغرب وألحد.

أما وارد الشرق الإسلامي، أو بتعبير أدق، وارد الإسلام الإلهي، فإن مقياس الأخلاق فيه: إنما هو المبادئ الدينية، إنما هو آيات القرآن، وإنما هو الفضائل التي أو حاها الله، - سبحانه وتعالى -، هذه الفضائل التي حددها القرآن في أسلوب عربي مبين، وركزها القرآن والسنة على أسس من الإيمان قوية ثابتة \" انتهى

نسأل الله الثبات في الدنيا والآخرة

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply