أم سعيد الداعية التي استجاب الله لدعائها والدة الشيخ سعيد الزياني


 
 
 
بسم الله الرحمن الرحيم 

الحمد لله وحده والصلاة على من لا نبي بعده، نبينا محمد وعلى آله وصحبه إلى يوم الدين.

كانت أم سعيد امرأة متميزة في مجتمعها - قبل أن تكون أم فنان وإعلامي مشهور ثم أم داعية بعد توبته فقد كانت امرأة مثقفة، منهومة بقراءة الكتب ولها مكتبة كبيرة في بيتها، كانت تقرأ مثلا :لـ سلامة موسى، برناردشو، ونجيب محفوظ وغيرهم، وكانت من المداومين (حتى لا أقول من المدمنين) على قراءة مجلة (العربي) الكويتية، التي كان رئيس تحريرها آنذاك: أحمد زكي، ومجلة (اللسان العربي) التي كانت تصدر شهريا في شكل كتاب عن (مكتب) التعريب في المغرب، لدرجة أنها كانت تجمع الأعداد وتضعها في الرفوف حسب الترتيب، ثم تجلدها مجموعات لكي تثري بها مكتبتها. وعلى ذكر (اللسان العربي) فقد كان ابناها الصغيران محمد وسعيد يلعبان أحيانا بهذه الكتب والمجلات فتجد بعض الأعداد ناقصة وليست في مكانها فتأتي إلى محمد قائلة بغضب: أين اللسان العربي؟ فلا يجد جوابا يحتج به فتضربه، ثم تذهب إلى سعيد فتسأله نفس السؤال وبنفس الغضب: أين اللسان العربي؟ فيُخرِج لسانه ثم يقول لها: هذا هو، فتقول له بغضب غَلَبَ عليه الضحك: ليس عن هذا أسألك، فيرد عليها قائلا: والله إنه لعربي وليس بأعجمي، فتضحك من قوله ولا تضربه، فيحتج محمد: لماذا ضربتني ولم تضربيه؟ فتقول: هو يعرف كيف يرد ويضحكني ويُذهب غضبي، وأنت لا تعرف كيف ترد.

كذلك مما كان يميز أم سعيد، أنها كانت تُجيد رياضة (الكاراتيه) حتى وصلت إلى الحزام البُنِّي والذي بعده مباشرة الحزام الأسود. ومرت الأيام والسنون، وأصبح ابنها سعيد من مشاهير الإعلام (راجع قصة توبة الداعية الشيخ سعيد الزياني وتحوله من فنان إلى داعية) ثم استقام ابنها محمد وتاب إلى الله وأثر على والدته التي التزمت بدين الله، وحوَّلت اهتمامها بالقراءة إلى دراسة الكتب الإسلامية والتفقه في دين الله - تعالى -فحفظت نصيبا من كتاب الله - تعالى -لدرجة أنها كانت أحيانا تقرأ في قيام الليل بسورة البقرة في ركعة واحدة عن ظهر قلب. ثم أصبحت داعية إلى الله فهدى الله على يديها العشرات من النساء إذا لم أقل المئات، فكانت لها حلقة أسبوعية في بيتها تحدث فيها النساء وتعلمهن مما علمها الله، وكان دائما لديها في بيتها الفائض من لباس الحشمة (الجلباب الفضفاض والحجاب) فكلما دخلت بيتَها امرأة (متبرجة) خرجت متحجبة تائبة إلى الله. ولكن الهمَّ الذي لازمها وجعلها متواصلةَ الأحزان لا تفتر عن الدعاء والبكاء، هو ابنها سعيد الذي لم يكن قد تاب بعد إلى الله. فبعد محاولات منها لإقناعه بالتوبة دون جدوى، سافرت هي وابنها محمد مع رفقة صالحة إلى البقاع المقدسة، لتأدية فريضة الحج، فكانت في جميع المواطن في الذهاب والعودة وأثناء تأدية المناسك وبالأخص في عرفات تدعو بحُرقة وحزن وبكاء: يا رب: ابني سعيد، يا رب ابني سعيد، اللهم اهده واجعله داعيا إلى دينك. كانت تدعو بإلحاح وباستمرار، حتى تأثر النساء اللواتي كُنَّ معها في الرفقة. انتبهوا هنا إلى عِبرَةٍ, مهمة: كانت تسأل الله أن يكون ابنها داعيا إلى الله في الوقت الذي كان فيه متهاونا في الصلاة بل تاركا لها، والعبرة هنا أنه على الآباء والأمهات أن يسألوا الله لأبنائهم أعلى الدرجات والتوفيقَ لصالح الأعمالِ والأقوالِ وأحسنِها، (وَمَن أَحسَنُ قَولاً مِمَّن دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المُسلِمِينَ؟)

 

مباشرة بعد عودة أم سعيد من الحج، بدأت تتغير أحوال ابنها سعيد، إلى أن تاب إلى الله، وتفرغ لطلب العلم والدعوة إلى الله، استجابة لدعوة والدته، بعد أن كان تاركا للصلاة، ولم يكن يحفظ شيئا من كتاب الله، ففتح الله عليه بحفظ نصيب من القرءان والتفقه في دين الله - تعالى -، وجعل الله الأثر في دعوته (ارجع إلى تفاصيل قصة توبته). وبعد أن أقر الله عين أم سعيد بهداية أبنائها، واستجاب لدعائها، ابتلاها بمرض السرطان في الثدي، فامتنعت أن تذهب إلى الطبيب، بحجة أنها لا تقبل أن يكشف عليها رجل، إلى أن تفاحل المرض وأُدخلت المستشفى، وأُجريت لها عمليةُ بَترِ الثدي.

 

جاء ابنها سعيد ليعودها في المستشفى، فوجد أخاه محمدا الذي كان برفقة والدته إبان دخولها المستشفى، وجده متأثرا، وبمجرد ما التقى بأخيه قال له باكيا: أخي سعيد: لقد قطعوا لها الثدي الذي رضعناه، وحملتُه بِيَدَيَّ هاتين بعد أن قطعوه. بعدما عَادَ سعيد والدتَه الصابرةَ المُحتسبة، والتي أثرت بِصبرِها واحتسابها في الكثير من الأطباء والممرضات، وكذلك بدعوتها إلى الله حيث تحجبت الكثير من الممرضات اللواتي قُمنَ بتمريضها، التقى سعيد بالطبيب الذي أجرى لوالدته العملية، وكان طبيبا ملتزما بدين الله وصديقا لسعيد، فسأله عن حال أمه، فقال له الطبيب: لقد تأخرت والدتك كثيرا قبل أن تأتينا، مما جعل الداء يتسرب إلى الجسم كلِّه، ونحن فعلنا ما نستطيع، لقد تتبعت الداء عند تقطيع الثدي إلى أن وصلت إلى ظهرها، هذا الذي استطعت فعله (والباقي على الله). فسأله سعيد عن نسبة الأمل في أن تعيش؟ فقال له الطبيب: لا أُخفيك -وأنت مؤمن بقضاء الله وقدره- أن الأمل قليل جدا وهو بنسبة اثنين في المائة، ولكن الأمل في الله كبير. أم سعيد التي كانت تحمد الله على كل حال، راضية بقضاء الله، كان لها أمل في الشفاء، فقالت لابنها سعيد: خذني إلى مكة حتى أسأل الله هناك الشفاء، وأشرَبَ من زمزم وأدعوَ ربي وأسألَه الشفاء، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (زمزم لِمَا شُرِبَ لَهُ). أخذ سعيد أمه إلى مكة مع زوجته وابنته سمية (3 سنوات آنذاك) وابنه سلمان (سنتان آنذاك) وكانت زوجته حاملا بسفيان الذي يبلغ عند كتابة هذه القصة (14 سنة)، وَصَلُوا إلى مكة المكرمة في أواخر شهر شعبان، قضوا رمضان كاملا في مكة، يشهدون صلاة التراويح في الحرم، وسعيد يدفع العربة التي كانت تركبها والدته، حيث أنها كانت لا تستطيع أن تقوم على رجليها، وزوجته تتعب من الحمل الذي أثر على صحتها، مما كان يُذَكِّرُ سعيد بين الفينة والأخرى -وبالأخص عندما كان يشعر بالتعب- بأمه التي حملته وَهناً عَلَى وَهنٍ,، مما كان يزيده قوة ونشاطا في خدمة والدته، التي مهما فعل لن يستطيع أن يرد لها الجميل. خلال المدة كلِّها كانت أم سعيد تدعو بالبكاء الشديد والتضرع والافتقار والانكسار بأن يشفيها الله من هذا المرض الذي عجز عنه البشر، وكانت تدعو موقنة بالاستجابة.

وبعد انقضاء شهر رمضان بدأ يظهر تحسن على صحة أم سعيد، فَجِيءَ بها إلى مكة وهي تركب العربة، ورجعت تمشي على رجليها وقد شفاها الله، لدرجة أنه لم يبق أثر للمرض، وكأنه لم يكن بها شيء، وما ذلك على الله بعزيز، (وقال ربكم ادعوني أستجب لكم). استمرت على هذا الحال وهي في صحة جيدة قرابة إحدى عشرة سنة، وقد نذرت ما تبقَّى لها من عمرها في طاعة الله - تعالى -والدعوة إلى دينه. وبما أنها رأت استجابة دعائها في هداية ابنها ثم في شفائها، بدأت تطمع في أعلى درجات الجنة، فأصبح دعاؤها (اللهم إني أسألك شهادة في سبيلك وميتة في بلد رسولك). وفي صيف سنة 2001 م، كان الحر شديدا في المغرب على غير عادته، فقال لها ابنها سعيد الذي كان في زيارتها: إن شاء الله في الصيف القادم سأركب لك مكيفات للتبريد في البيت (حيث إن الطقس في المغرب عادة لا يتطلب تركيب مكيفات نظرا لاعتدال الجو هناك) فقالت له: الصيف القادم؟ وهل سأعيش يا ابني إلى أن يصل الصيف القادم؟ لا..لا..أحس يا ابني أن الأجل قد اقترب وأسأل الله أن يقبض روحي في مكة ويختم علي بخير، وبدأت تبكي. سبحان الله العظيم!! كانت تقول هذا الكلام وهي في مدينة الرباط بالمغرب وتبعد عن مكة بحوالي سبعة آلاف كيلومتر!! ولكن الله على كل شيء قدير، وهو القائل في الحديث القدسي الذي يرويه عنه النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أنا عند ظن عبدي بي). وبعد مرور شهور قليلة يأتي الخبر إلى سعيد وهو في قطر، بأن والدته مريضة وستدخل إلى المستشفى كي تُجرى لها عملية جراحية، سافر إليها بمجرد سماعه للخبر، فوجدها في المستشفى وهي على فراشها تدعو إلى الله وتذكر كل من يعودها أو يشرف على تمريضها، تذكرهم بالله، مما جعل الكثير من الممرضات والمريضات يلبسن الحجاب ويَتُبنَ إلى الله.

وخلال مقامها في المستشفى عادها برفقة ابنها الفنان المغربي المعروف عبد الهادي بلخياط الذي كان قد تاب على يد ابنها سعيد ثم رجع إلى الغناء مع محافظته على الصلوات وترك الكثير من المنكرات، فقالت له وهي على فراشها وتتحجب منه، لقد رأيتك في المنام وأنا أقول لك: يا عبد الهادي، (ألم يأن للذين ءامنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق.. ) كيف تعود إلى الموسيقى والغناء بعد أن ذقت حلاوة الإيمان ولذة مناجاة الله، فبكت وبكى عبد الهادي بلخياط الذي تأثر من كلامها. بعد ذلك قالت لابنها: يا بني إني أرى أن الأجل قد اقترب، خذني إلى مكة حتى أموت فيها. فقال لها ابنها: يا والدتي، مكة ليس فيها فقط الموت، بل فيها زمزم وفيها الشفاء واستجابة الدعاء. فقالت له نعم، فيها استجابة الدعاء وقد دعوت ربي كي أموت وأدفن فيها، فخذني إلى مكة. وبتوفيق الله - تعالى -أخذ سعيد والدته إلى مكة رفقة أخته التي كانت طول الوقت في خدمة أمها، بمجرد وصولهم مع بداية شهر ذي القعدة، اعتمروا، وبدأت تتردد على المسجد الحرام وهي على عربة تدفعها بها ابنتها، إلى أن وصل موسم الحج، فقالت لابنها الذي كان يسافر ثم يرجع إليها: يا بُنَيَّ، أريد أن يختم الله علي بحجة، فحاول ابنها إقناعها بأنها مريضة ولا تستطيع القيام بالمناسك وأن الله سيأجرها على نيتها وبالأخص أنها حجت مرارا، فأصرَّت على أن تحج، فيسر الله لها الحج، ولم يبق عليها من المناسك إلا طواف الإفاضة، وكانت تقول: أنا ليس علي طواف وداع، لأني لن أخرج من مكة وسأموت فيها بإذن الله، فحقق الله لها رغبتها وأعطاها سُؤلَهَا، وبعد مرور حوالي شهر على موسم الحج، اتصلت (غيثة) أخت سعيد بأخيها الذي كان موجودا بدولة الإمارات، فقالت له أَسرِع بالمجيء فإن أمي تُحتَضَر، فكانت تدخل في غيبوبة ثم تعود، وبمجرد ما تعود من الغيبوبة كانت تقول لابنتها، اعطني حجر التيمم وأعطني المسواك كي أصلي قبل أن يخرج علي وقت الصلاة، وقبل ثلاثة أيام من وفاتها، كانت في تمام وعيها، فجلست وغسلت لها ابنتها وألبستها (عباءة) جديدة تلبسها لأول مرة، عندما رآها ابنها وقد تحسن حالها قال لها ما رأيك يا والدتي أن تطوفي طواف الإفاضة حتى تُكملي حجك؟ فأخذها هو وأخته بالعربة، فطافت طواف الإفاضة وهي تدعو الله بالبكاء، وتدعو لأبنائها بالصلاح، ولم تنس كل من وصاها بالدعاء، بل كانت تدعو حتى للذين لم يطلبوا منها الدعاء، وبمجرد ما أتمت الطواف وصلَّت ركعتين خلف المقام وهي جالسة على العربة، أغمي عليها فأخذها ابنها وأخته إلى السكن الذي كان في برج قريب جدا من الحرم، وقبل خروجهم من المسجد الحرام وأثناء المرور أمام الكعبة ما بين الحجر الأسود والركن اليماني أفاقت ثم قالت لابنها وابنتها: أوقفاني هنا.. فأوقفاها، فتوجهت بوجهها إلى الكعبة ورفعت يديها وبدأت تدعو بالبكاء، ثم قالت: الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، سألتُ الله أن أموت في مكة فاستجاب لي، ما أحلاها من موتة.

ولم تكن تعلم عندما طلبت الوقوف في ذلك المكان أنه بعد ثلاثة أيام سيوضع جثمانها لكي يُصَلَّى عليها بالضبط في نفس المكان الذي وقفت فيه، كان ذلك اليوم يوم َ خميس، صلت صلاة صبح الجمعة على فراشها بالإيماء، ثم دخلت في غيبوبة، وكلما أفاقت طلبت كي تتيمم للصلاة وتلح على المسواك، وبمجرد ما تُكبر تكبيرة الإحرام تغيب مرة أخرى، وهكذا إلى مساء يوم الأحد، وعند وصول ابنها محمد، كانت ابنتها تقول لها: أمي.. أمي.. هذا أخي محمد قد وصل، ففتحت عينيها لآخر مرة كي ترى ابنها، فدمعت عيناها عند رؤيته ثم أغمضتهما إلى الأبد، بقيت تلك الليلة في غيبوبة تامة، إلى منتصف الليل، وكان أحد أصدقاء ابنها سعيد في زيارة له في غرفة مجاورة وكان طبيبا، وقبل أن ينصرف، طلب منه ابنها أن يطلع على وضع والدته، وبمجرد ما رآها الدكتور وهي ترمش عينيها بسرعة مفرطة قال لابنها: لا نوم الليلة، لقد بدأها النَّزعُ، فتوضأ وجلس عند رأسها وبدأ يقرأ سورة (يس)، فتوقف عن القراءة عندما رآها تحرك شفتيها، فبدأت تقول بصوت خافت: (اللهم هون علي سكرات الموت.. اللهم هون علي سكرات الموت.. ) تقولها مرارا، ثم هتف لها ابنها في أذنها قائلا: لا إله إلا الله.. لا إله إلا الله.. يكررها إلى أن حركت شفتيها مرة أخرى قائلة: بتقطع: لا.. إله.. إلا.. الله. بقيت تكررها حوالي أربع ساعات وابنها يقرأ سورة يس إلى آخرها ثم يبدؤها من أولها، فكان عندما يختم السورة ويريد أن يبدأها من أولها، كانت تقول: (أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم) وكأنها تطلب منه أن يعيد القراءة من هنا، فكان يفعل كلما أعادت قراءة الآية.

لاحظ ابنها سعيد أنها تحرك رجلها اليمنى بسرعة مفرطة، علم أن الروح بدأت تخرج من الجسم ابتداء من القدم، فبقيت تردد قول: لا إله إلا الله، إلى أن أذن الأذان الأول في المسجد الحرام في الرابعة صباحا والدقيقة الخامسة، وقد هدأت رجلها، وبلغت الروح إلى صدرها، أيقظ سعيد أخاه محمد الذي كان يظهر عليه التعب، وأيقظ أخته التي كانت متكئة برأسها على فراش والدتها، حتى أخذها النوم من كثرة التعب، أيقظهما وأخبرهما أن والدتهم تتلفظ أنفاسها الأخيرة. وليقضي الله أمرا كان مفعولا، ويستجيب الله لأم سعيد دعوة قديمة كانت منسية، تَذَكَّرَهَا محمد فيما بعد، وهي أنها سألت الله مرة قائلة: اللهم اقبض روحي في مكة وأبنائي ساجدون لك في بيتك الحرام، ليقضي الله هذا الأمر قال سعيد لأخيه محمد: اسبقني إلى الحرم، وسأبقى بجانب الوالدة إلى أن تقام الصلاة. بقيت تردد لا إله إلا الله دون توقف، إلى أن أقيمت الصلاة في الخامسة والدقيقة الخامسة، فجمع سعيد لوالدته ساقَيهَا اللذين كانا متفرقين بعد خروج الروح منهما، وقَبَّلَ رِجلَهَا لآخر مرة، وتركها في الغرغرة وبلغت الروح إلى الترقوتين، وأوصى أخته أن تذكرها بلا إله إلا الله إذا سكتت عن ترديدها، وقال لها إذا فاضت روحها فقولي إنا لله وإنا إليه راجعون، وادعي بخير فإن الملائكة تُؤَمِّنُ على دعائك، وسآتي مباشرة بعد الصلاة. فخرج سعيد لتأدية صلاة الصبح في المسجد الحرام، فإذا بإمام الحرم الشيخ سعود الشريم يقرأ: (كلا إذا بلغت التراقي * وقيل من راق * وظن أن الفراق * والتفت الساق بالساق * إلى ربك يومئذ المساق *) فذرفت عيناه بالدموع، أدرك الركعة الأولى مع الجماعة، وفي آخر سجدة في الصلاة، رفعت أم سعيد صوتها قائلة: لا إله إلا الله، ثم شخص بصرها إلى السماء وفاضت روحها، وإنا لله وإنا إليه راجعون، ماتت الأم الحنون التي كانت حزينة على أبنائها، بل كان حزنها على كل المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، وكانت تدعو لكل المسلمين، ماتت التي كانت تقوم الليل وتدعو لأبنائها، وكان سعيد الداعية كلما كانت خطبته ستنقل على أمواج قناة الشارقة الفضائية، يتصل بوالدته ويسألها الدعاء بأن يسدده الله في دعوته، ويجعل الأثر في كلامه، ويجعل كلامه حجة له لا عليه.

وأول خطبة خطبها الشيخ سعيد بعد وفاة والدته، كانت في افتتاح مسجد جديد بالشارقة، وهو مسجد (المغفرة) في شهر محرم 1423 هجرية، أبريل / نيسان 2002 م، وقبل أن يرتقي المنبر للخطبة، استحضر أنه أول مرة سيخطب الجمعة ووالدته ميتة، فقال في نفسه: ماتت التي كانت تدعو لي ثم فاضت عيناه، ثم تذكر أن الذي كان يستجيب لدعائها حيُّ لا يموت، وتذكر قول أبي بكر - رضي الله عنه - عند وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، فدعا الله قائلا: اللهم إني أتوسل إليك بِبِرِّي لوالدتي أن تفتح علي ما يُرضيك عني، (هذا من التوسل المشروع الذي لا خلاف فيه، وهو التوسل بصالح الأعمال، وبِرٌّ الوالدين من أهمِّها وأعظمِها) فكانت أول خطبة يبكي فيها الشيخ سعيد من بدايتها، بل أبكى المشاهدين الذين تابعوا الخطبة عن طريق القنوات الفضائية، حيث نُقلت مباشرة على قناة الشارقة وأعادت بثها قنوات أخرى، وكذلك أبكى كل الحاضرين في المسجد بما فيهم حاكم الشارقة الشيخ الدكتور سلطان القاسمي الذي عُرف بِرِقَّةِ القلب، والذي قال ذات مرة للشيخ صالح بن حميد إمام وخطيب المسجد الحرام وحاليا رئيس مجلس الشورى بالمملكة العربية السعودية عندما كان في زيارة للشارقة، قال له الشيخ سلطان: الشيخ سعيد، كلما دعا أبكاني. وعلى ذكر الشيخ صالح بن حميد، فإنه كان يتابع باهتمام بالغ أخبار أم سعيد خلال فترة مرضها، وكذلك الشيخ عبد الرحمن السديس إمام وخطيب المسجد الحرام، بالإضافة إلى أن أول من عزى الشيخ سعيد في والدته، هو الشيخ سعود الشريم، حيث كان ذلك مباشرة بعد صلاة الصبح التي توفيت أم سعيد في آخرها.

 

عندما خرجت أم سعيد من بيتها قاصدة مكة المكرمة كي تموت فيها، كان خروجها لله وفي الله، وربنا - عز وجل - هو القائل: (ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله). اللهم إنا نسألك شهادة في سبيلك وميتة في بلد رسولك.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply