موت أم [1]


 

بسم الله الرحمن الرحيم 

رجعتُ من الجَنازة بعد أن غبَّرت قدميَّ ساعةً في الطريق التي تُرابها ترابٌ وأشعة، وكانت في النعش لؤلؤةٌ آدميَّةٌ محطَّمة، هي زوجة صديق طَحطَحَتها الأمراضُ ففرَّقتها بين علل الموت، وكان قلبُها يحييها فأخذ يهلكها، حتى إذا دنا أن يقضيَ عليها - رحمها الله -، فقضى فيها قضاءَه، ومن ذا الذي مات له مريضٌ بالقلب ولم يره من قلبه في علَّته كالعصفور التي تَهتَلك تحت عيني ثعبانٍ, سلط عليها سمومَ عينيه!

كانت المسكينة في الخامسة والعشرين من سنِّها، أما قلبُها ففي الثمانين أو فوق ذلك، هي في سن الشباب وهو متهدِّمٌ في سن الموت.

وكانت فاضلةً تقيَّةً صالحة، لم تتعلم ولكنَّ علمَها التقوى والفضيلة، وأكملُ النساء عندي ليست هي التي ملأت عينيها من الكتب فهي تنظر إلى الحياة نظرات تَحِلٌّ مشاكلَ وتخلق مشاكل، ولكنها تلك التي تنظر إلى الدنيا بعين متلألئة بنور الإيمان تُقِرٌّ في كلِّ شيء معناه السماوي، فتؤمن بأحزانها وأفراحها معاً، وتأخذ ما تُعطى من يد خالقها رحمةً معروفة أو رحمةً مجهولة، هذه عندي تسمى امرأة، وتكون الزوجة، ومعناها الزوجة المُسعِدة، وتَصِيرُ الأمَّ، ومعناها التكملةُ الإلهيةُ لصغارها وزوجها ونفسِها.

ومهما تبلغ المرأة من العلم فالرجلُ أعظم منها بأنه رجل، ولكنَّ المرأةَ حقَّ المرأةِ هي تلك التي خُلقت لتكونَ للرجل مادةَ الفضيلة والصبر والإيمان، فتكون له وحياً وإلهاماً وعزاءً وقوة، أي زيادةً في سروره ونقصاً من آلامه.

ولن تكون المرأةُ في الحياة أعظمَ من الرجل إلا بشيء واحد، هو صفاتها التي تجعل رجُلَها أعظمَ منها.

ومشيتُ من البيت الذي ألبسته الميتةُ معنى القبر إلى القبر الذي ألبسَ الميتةَ معنى البيت، وأنا منذ مشيتُ في جنازة أمي - رحمها الله - لا أسير في هذا الطريق مع الأحياء، ولكن مع الموتى، فأتبعُ من الميتِ صديقاً ليس رجلاً ولا امرأة، لأنه من غير هذه الدنيا، وأمشي في ساعةٍ, ليست ستين دقيقةº لأنها خرجت من الزمن، ولا أرى الطريقَ من طرق الحياة، لأنني في صحبة ميت، وتصبحُ للأرضِ في رأيي جغرافيةٌ أخرى، عَمِيَ الناسُ عنها لشدةِ وضوحها، كالألوهية خفيت من شدةِ ما ظهرت.

يقولون: إن ثلاثة أرباع الأرض يغمرها البحر، أما أنا فأرى في تلك الساعة أن ثلاثة أرباع الأرض لا يغمرها البحر الذي وصفوا، ولكن خضمُّ آخرُ زخَّار مُتَضَرِّب، هو ذلك البحر الترابيٌّ العظيمُ المسمَّى (المقبرة).

يقولون: إن الحياةَ هي..هي ماذا -ويحكم- أيها المغرورون، أفلا ترون هذه الصلةَ الدائمةَ بين بطنِ الأم وبطن الأرض؟

لعمري كيف تجعلُ هذه الحياةُ للناس قلوباً مع قلوبهمº فيحسٌّ المرءُ بقلب، ويعمل بقلب آخر: يعتقد ضرر الكذبº فيكذب، ويعرف معرَّةَ الإثمº فيأثم، ويُوقن بعاقبة الخيانة ثم يخون، ويمضي في العمر منتهياً إلى ربه، ما في ذلك شك، ولكنه في الطريق لا يعمل إلا عملَ من قد فرَّ من ربِّه... ؟

هبَّت الريح في السَّحَرِ على روضةٍ, غناءَ فطابت لها، فعقدت عقدتَها أن تتخذ لها بيتاً في ذلك المكان الطيب لتقيمَ فيه، يا لها حكمةً من التدبير! تزعم الريحُ الإقامةَ على حين كلٌّ وجودها هو لحظةُ مرورها، وتحلُم بالقرار في البيت وهي لا تملك بطبيعتها أن تقف.

يا لها من حكمة سامية، لا يسكنها من المعنى إلا أسخف ما في الحُمق.

هَمَدَ الحيٌّ وانطفأت عيناه، ولكنه تحرك في تاريخه مما ضيَّقَ على نفسه أو وسَّع، وأصبح ينظر بعينٍ, من عمله إما مُبصِرةٍ, أو كالعمياء، فلو تكلم يصف الحياة الدنيا لقال: إن هذه النجومَ على الأرض مصابيحُ مأتمٍ, أقيمَ بليل وما أعجب أن يجلس أهلُ المأتم في المأتمº ليضحكوا، ويلعبوا.

ولو نطق الموتى لقالوا: أيها الأحياء، إن هذا الحاضرَ الذي يمر فيكونُ ماضيَكم في الدنيا هو بعينه الذي يكون مستقبلَكم في الآخرة، لا تزيدون فيه ولا تنقصون، وإن الدنيا تبدأ عندكم من الأعلى إلى الأدنى، من العظماء إلى الفقراء، ولكنها تنقلب في الآخرة، فتبدأ من الفقراء إلى العظماء، وأنتم ترسمونها بخطوطِ المطامع والحظوظ، ويرسمها الله بخطوط الحرمان والمجاهدة، إن التامَّ على الأرض من تمَّ بمتاعها ولذاتها، ولكنَّ التامَّ في السماء من تمَّ بنفسه وحدها.

يا أسفا! لن يقول الميتُ للحي شيئاً، ومن يدري؟ لعلنا ونحن نُلحِدُ للموتى، ونُنزلهم في قبورهم، يَرون بأرواحهم الخالدة أننا نحن موتاهم المساكين، وأننا مدفونون في القبر الذي يسمونه =الكرة الأرضية+! وهل الكرةُ الأرضيةُ من اللانهاية إلا حفرةٌ برجلِ نملة لتُدفَن فيها نملة.

الحياة... أتريد أن تعرفها على حقيقتها؟ هي المُبهماتُ الكثيرةُ التي ليس لها في الآخرة إلا تفسيرٌ واحد: حلالٌ أو حرام.

ورجعنا مع الصديق إلى بيته، وله خمسةُ أطفالٍ, صغارٍ, لو أنهم هم الذين انتُزِعوا من أمهم لترك كلٌّ واحد على قلبها مثل المِكوَاةِ المحميِّ عليها في النار إلى أن تحمَرَّ، ولكنَّ أمهم هي التي نُزعت منهم، فكان بقاؤهم في الحياة تخفيفاً لسكرةِ الموت عليها، وغَشِيَتها الغَشيةُ فماتت وهي تضحك، إذ تراهم نائمين تحت جناح الرحمة الإلهية الممدود، وقالت: إنها تسمع أحلامَهم، وكانوا هم عقلَها في ساعة الموت!

تبارك الذي جعل في قلب الأمِّ دنيا من خلقِهِ هو، ودنيا من خلقِ أولادها.

تبارك الذي أثاب الأمَّ ثوابَ ما تُعاني، فجعل فَرحَها صورةً كبيرةً من فرح صغارها.

وجاء أكبر الأطفال الخمسة، وكأنه ثمانيةُ أرطالٍ, من الحياةِ لا ثمانيةُ أعوام من العمر، جاء إلينا كما يجيء الفزع لقلوبٍ, مطمئنة، إذ كان في عينيه الباكيتين معنى فقد الأم.

وطغَت عليه الدموعُ، فتناول منديلَه، ومسحَها بيده الصغيرة، ولكنَّ روحَه اليتيمةَ تأبى إلا أن ترسمَ بهذه الدموعِ على وجههِ معانيَ يُتمها.

وظهر الانكسار في وجهه يُعبر ببلاغةٍ, أنه قد أحسَّ حقيقةَ ضعفِه وطفولتِه بإزاء المصيبة التي نزلت به، وجلسَ مستسلماً تترجم هيئتُه معانيَ هذه الكلمة: (رفقاً بي).

ثم تطير من عينيه نظرات في الهواء، كأنما يحسٌّ أنَّ أمَّه حوله في الجو ولكنه لا يراها.

ثم يُرخي عينيه في إغماضةٍ, خفيفةٍ,، كأنما يرجو أن يرى أمَّه في طَوِيَّتِه!

ولا يُصدق أنها ماتت، فإنَّ صوتَها حي في أذنيه لا يزال يسمعه من أمس!

ثم يعود إلى وجهه الانكسار والاستسلام، ويتململ في مجلسه، فينطقُ جسمُه كله بهذه الكلمة: (يا أمي).

أحسَّ - ولا ريب - أنه قد ضاع في الوجودº لأن الوجود كان أمَّه.

ولمس خشونةَ الدنيا منذ الساعة، بعد أن فقد الصدرَ الذي فيه وحده لين الحياةº لأن فيه قلبَ أمه وروحَها.

وشعر بالذل ينسابُ إلى قلبه الصغيرº لأن تلك التي كان يملك فيها حقَّ الرحمة قد أُخِذَت منه، وتركَته بلا حقٍّ, في أحد، وليس لأحد أُمَّان.

ولبِسَتهُ المسكنةُº لأن له شيئاً عزيزاً أصبح وراء الزمان فلن يصلَ إليه.

ولبسته المسكنةº لأنه صار وحده في المكان كما هو وحده في الزمان.

وارتسم على وجهه التعجب، كأنه يسأل نفسَه: (إذا لم تكن أمي هنا، فلماذا أنا هنا؟!).

ثم تَغَرغَرَت عيناه، فيُخرجُ منديلَه، ويمسح دمعَه بيده الصغيرة، ولكن روحَه اليتيمةَ تأبى إلا أن ترسمَ بهذه الدموعِ على وجهِه معانيَ يُتمِها.

ونهضَ الصغيرُ ولم ينطق بذاتِ شَفَةٍ,، نهضَ يحملُ رجولتَه التي بدأت منذ الساعة.

انتهت -أيها الطفل المسكين- أيامُك من الأم، هذه الأيام السعيدةُ التي كنت تعرفُ الغَدَ فيها قبل أن يأتيَ معرفتَك أمسِ الذي مضىº إذ يأتي الغدُ ومعك أمٌّك.

وبدأت -أيها الطفل المسكين- أيامُك من الزمن، وسيأتي كلٌّ غدٍ, محجَّباً مرهوباً، إذ يأتي لك وحدَك، ويأتي وأنت وحدك.

الأمّ... ؟ يا إلهي، أيٌّ صغيرٍ, على الأرض يجدُ كفايتَه من الروح إلا في الأم؟!

 

4/11/1426هـ

 

----------------------------------------

* هي زوج الأستاذ حسنين مخلوف، وانظر (عمله في الرسالة) من كتاب (حياة الرافعي).

[1] وحي القلم 2/151

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply