بسم الله الرحمن الرحيم
عنوان عجيب، فكيف يتحسر من فاز؟ أليس قد نال مراده؟ وبلغ ما أمل، لكن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: \" ليس يتحسر أهل الجنة على شيء إلا ساعة مرت بهم لم يذكروا الله - عز وجل - فيها \". (1)
عجيب أمركم أهل الجنان: تتحسرون لا لأنكم عصيتم الله في الدنيا، بل لأنكم تركتم فيها ساعة فلم تملأ بذكر الله، بينما يبكي غيركم لفوات لذاته، ويتحسر لفراق شهواته، فشتان بين الفريقين.
ويجمع الأوزاعي تلاميذه ليشرح لهم حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيقول: \" ليس ساعة من ساعات الدنيا إلا وهي معروضة على العبد يوم القيامة يوماً يوماً، وساعة ساعة، ولا تمر به ساعة لم يذكر الله فيها إلا انقطعت نفسه عليها حسرات، فكيف إذا مرت به ساعة مع ساعة، ويوم مع يوم، وليلة مع ليلة؟!! \". (2)
مرّ بهذه الواحة عشاق الجنان وخاطبوا الحور وهم كثير، لكننا توفيراً لوقتك سنقف مع عشاق ثلاثة فحسب.
أيها العاشق مهلاً إننا * * * مهرنا غال لمن يخطبنا
جسد مضنى وروح في العنا * * * وجفون لا تذوق الوسنا
وفؤاد ليس فيه غيرنا * * * فإذا ما شئت أد الثمنا
* العاشق الأول:
كان عبد الله بن عمر يصلي على الجنازة ثم ينصرف فلما مر بواحتنا فلما سمع حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -: \" من تبع جنازة مسلم إيماناً واحتساباً، وكان معها حتى يصلى عليها ويفرغ من دفنها، فإنه يرجع من الأجر بقيراطين، كل قيراط مثل أحد، ومن صلى عليها ثم يرجع قبل أن تدفن، فإنه يرجع بقيراط من الأجر \" (3)، فلما سمعه تعاظمه وأرسل إلى عائشة رسولاً يسألها عن قول أبي هريرة راوي الحديث، ثم يرجع الرسول إليه، فقال: قالت عائشة: صدق أبو هريرة، فضرب ابن عمر بالحصى الذي كان في يده الأرض وهو يقول: لقد فرطنا في قراريط كثيرة، يتحسر على طاعة ضيعها تدنو به من الجنة، وغيره يتحسر على معصية لم ينلها تدنو به من النار!!.
* العاشق الثاني:
هو أحد الذين قال - تعالى -عنهم: (ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزناً ألا يجدوا ما ينفقون) [التوبة: 92].
هذا والله بكاء الرجال: بكوا على فقد رواحل يحملون عليها إلى الموت، في مواطن تراق فيها الدماء وتتطاير فيها الأشلاء، وتقطف فيها رؤوس الرجال، أما من يبكي فوات حظه من الدنيا، وكانت حسرته على فقد شهواته، فذلك بكاء الأطفال.
سهر العيون لغير وجهك باطل * * * وبكاؤهن لغير فقدك ضائع
* العاشق الثالث:
يرى عمله يقصر به عن الجنة ما لم يطعّم بظمأ الهواجر، وقيام ليالي الشتاء فلما حضرته المنية بكى حسرة إذا حيل بينه وبين راحته وراحته في في الظمأ والقيام!!
ذلك هو عامر بن عبد قيس لما سئل عند احتضاره؟ ما يبكيك؟ قال: \" ما أبكي جزعاً من الموت، ولا حرصاً على الدنيا، ولكن أبكى على ضمأ الهواجر، وعلى قيام ليالي الشتاء \" (4).
----------------
(1) رواه الطبراني في الكبير والبيهقي في الشعب عن معاذ كما في ص ج ص رقم (5322).
(2) مع العارفين ص 19.
(3) رواه البخاري والنسائي عن أبي هريرة كما في ص ج ص رقم (6014).
(4) بهجة المجالس (3 / 140) - القرطبي.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد