بسم الله الرحمن الرحيم
يذكر الذهبي في موسوعته (سير أعلام النبلاء) واقعة تاريخية، وقعت في الأندلس على عهد (الحكم)، حيث ثار الفقهاء، وكان من رموزهم (طالوت المعافري). فشلت الثورة وتفرق أهلها فاختفى (طالوت) في بيت يهودي عاماً كاملاً، فلما هدأت الأمور، توجه (طالوت) قاصداً الوزير (أبا البسام) على أمل أن يسمح له في الإقامة في داره، ويحفظه حتى يأذن الله في الفرج، لكن الوزير العتيد، ذهب إلى (الحكم) ليقول له: ما رأي الأمير في كبش سمين، وقف على حذوده عاماً كاملاً؟، قال الحكم: لحم ثقيل فما الخبر؟ قال: طالوت عندي، فأمر بإحضاره، فلما حضر قال الحكم: يا طالوت أخبرني لو أن أباك أو ولدك ملك هذه الدار، أكنت فيها في البر والإكرام أفضل مما كنت أفعل معك، فما رضيت إلا بسفك دمي؟
يقول طالوت - في نفسه - لم أجد أفضل من الصدق فقلت: كنت أبغضك لله، فلم يمنعك ما صنعت معي لغير الله، وإني معترف بذلك أصلحك الله، فوجم الحكم ثم قال: أعلم أن الذي أبغضتني له قد صرفني عنك، فانصرف في حفظ الله، ولست بتارك برك، وليت الذي كان لم يكن، ولكن قلي: أين ظفر بك (أبو البسام) لا كان ذلك؟ قال طالوت: أنا أظفرته بنفسي وقد قصدته، قال الحكم: فأين كنت في عامك؟ قال طالوت: كنت في دار يهودي، قد حفظني الله، فأطرق الحكم ملياً، ثم رفع رأسه وتوجه إلى أبي البسام وقال له: لقد حفظه يهودي وستر عليه، لمكانه من العلم والدين، وغدرت به إذ قصدك، وخفرت الذمة، لا أراني الله يوم القيامة وجهه، إن رأيت وجهك، وطرده، وكتب لليهودي كتاباً يتعلق بالجزية فيما ملك، وزاد في إحسانه، فلما رأى اليهودي ذلك أسلم مكانه.... اهـ.
حين تكون النفوس كباراً، تعاف الصغائر، بل تستقبحها وتنفر منها، وتعشق معالي الأمور وتقدر أهلها، وفي تاريخ الأمم الكثير من ذلك.
رجل يثور على الحاكم، تفشل الثورة، يضطر للاختفاء، فيقع في أيدي رجلين مختلفين كل الاختلاف، الأول مخالف له في الدين، ولكن شهامته ورجولته تأمره أن يوسع له في داره، ويسمح له بالإقامة عاماً كاملاً، وفي ذلك مخاطرة كبيرة، ربما دفع حياته ثمناً لها، ولكنه يرضى بالمخاطرة، وعن طيب خاطر، ووزير يلتجئ إليه الثائر عساه يمنحه الأمن ويتوسط لدى الحاكم ليعفو عنه، ولكن الوزير يكشف الأوراق للحاكم ويخبره بوجود (الطريدة) والمطلوب لديه عساه يمكّن له لدى الحاكم، ولكن الحاكم يعفو عن الفقيه الثائر، ثم تكون لديه لفتة ويتساءل: أين كنت أيها الشيخ مختفياً خلال عام كامل؟ فيأتي الجواب ببساطة: كنت في بيت يهودي، وخلال دقائق يعمل الحاكم مقارنة في نفسه فيقول (يهودي يحفظ رجلاً لفضله وعلمه، ووزير يلتجئ إليه فيسلّمه ويخفر الذمة).
وهنا يأمر الحكم بمكافأة اليهودي لعمله الأخلاقي، ويطرد الوزير، ولا يريد أن يراه مطلقاً، فيرى اليهودي في هذا السلوك قيماً كبيرة، ويرى من واجبه أن يعلن إسلامه، قبل أن يغادر مكانه، تقديراً لهذه المواقف الإنسانية النبيلة، ولهذا الدين وما يحمل من قيم، وليأخذ كل حقه، وكل ما يناسب فعله، ثائر يكسب الأمان والعفو، ويهودي يكرّم لحسن فعله، ووزير يطرد لسوء فعله، والعفو من شيم الكرام، وهكذا تساس الدول، وتضرب الأمثلة الجيدة في الحكم...
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد