بسم الله الرحمن الرحيم
ها هم الآن قد وضعوه في حفرة لا تتعدى المترين طولاً، ونصف المتر عرضاً، أهالوا عليه التراب..تركوه وحيداً.. يسمع طرق نعالهم.. ولا يسمعكِ معهم. !!.
الشمس تربعت في كبد السماء.. تفضح الحزن الذي يخفيه الرجال.. وتكفكف الدموع التي تهريقها النساء..
غابت الشمس.. وغابت الأحزان والدموع..
ومع سكون الليل.. دخلوا حجرته.. لملموا أشياءه.. ملابسه البيضاء.. مصحفه الطاهر.. ومذياعه الصغير.. وقرروا أن يتصدقوا بها على الفقراء.. !
أما الأوراق التي كانت في خزانته فقد تسابق الجميع للاحتفاظ بها، وقرروا أن يتصدقوا بها على أنفسهم.. !
بقيتِ أنتِ وحدكِ.. لم يُعِرك أي منهم أدنى اهتمام، كُنتِ نائمة على فراشه بِدَعةٍ, واطمئنان.. !
وشذا رائحة كفيه عليك مازال يعبق في الحنايا، يتضوع مسكاً، عنبراً، كافوراً..
اقتربتُ منك.. رغم خوفي.. رغم ألمي.. رغم شرانق الحزن التي كبلتني، ولمستك بيد مرتعشة.. مررتها على كل أنحاء جسدك النحيل..
واقتربت أكثر، لأشمك، لأشم رائحته فيك.. لأفهم أسرار حبه لك، وتعلقه بك.. لأحل لغزاً أسطورياً، طالما فكرت بفك بطلاسمه!!
أما أنت.. فظللتِ صامتة.. جامدة.. قاسية.. تمارسين أبشع أنواع الاستفزاز بوجوم يقهر أسئلة حيرى؟!!
توقدين النار بين جوانحي، ولا تعلمين بأن ألسنة لهبي قد تُحرق جسدك العاصي!!
كم قلت له: \"عصاك ستعصاك\" يا أبي مهما أطلت التشبث بها!!
وكم مرة أجابتني إيماءاته، نافية تنبؤاتي السوداء..
مذ فتحت عيني على الدنيا وأنا أراكِ معه.. قضيتِ معه عُمراً أطول من عُمري!!
وعندما بدأت أعي نظرت إليه.. ويا لجمال ما رأيت.. !
\"خطوة ثالثة\" دهُشت بها.. فتساءلت: لمَ لا يكون لي مثل أبي ثلاث خطوات؟ !
كثرة العدد تستهوينا ونحن صغار، فالاثنان أكثر من الواحد، والثلاثة أكثر من الاثنين، وأبي أكثر مني، وأنتِ أكثر قرباً مني له..
تمشين بمحاذاته.. تارة عن يمينه، وأخرى عن شماله، وحتى فراشه تنامين فيه بجواره.. !
ترافقينه للمسجد.. للمستشفى.. للدكان.. لكل مكان.
تحول جمالك في منظار غيرتي إلى قُبح!!
صرتُ أنافسكِ.. أطلب منه التوكؤ على كتفي الهزيل، فيسقط متعمداً ويتمتم: لن يُقيلَ عثرات قدمي إلا هذه العصا!!
وأسأله بصوت مجهش: أو تحبها أكثر مني يا أبي.. ؟ !
فتنساب على أذني كلماته الدافئة، وحروفه الهامسة: يا ابنتي.. الحب كنز وهبنا الله إياه نغرف منه للجميع.. للناس.. للحيوان.. للطير.. للجماد.. للطبيعة.. لكل شيءº لأنه الكنز الوحيد الذي كلما أخذتِ منه لتمنحيه، زاد وكَثُر.
يا ابنتي.. أحبي كل شيء، لتغتني في كل شيء.. !
كنت أتأمل شفتيه الرقيقتين، وعينيه الرماديتين وأخاديد تحكي قصة المستحيل الذي أصبح ممكناً بسبب الكنز الذي يغرف منه..
بعدها أصبحت أُحبكِ.. وبلغة البراءة.. أصبحت أنشد مع طَرق خُطُواتك التي كانت أقوى وأبرز من خُطوات قدميه:
يا رب حقق أملي.. آمين آمين. واحفظ أبي يا رب لي.. آمين آمين. ومده بالعافية.. آمين آمين. وبالعطايا الكافية.. آمين آمين. فإنه نعم الأب.. آمين آمين. المرشد المهذِّب.. آمين آمين.
كبرتُ وأنا أتلذذ بترديد أنشودة الصف الأول.. بمجرد سماعي لخُطواتك على بلاط الممر، فأرفع صوتي بهذا النشيد، الذي لا يضبط إيقاعه إلا أنتِ.
بالأمس سمعت وقع الخطوات الثلاث.. وبدأت بـ: \"احفظ أبي يا رب لـي\".. انخفض صوت الإيقاع.. رققت سمعي لصوت الخُطا...
اختفت خطوتان، وبقي صوت خطوة ارتطمت بالأرض..
رُحت أجري نحو الممر، لم أجده، ولا خطوتيه!!
وجدتك.. جذعاً مجتثاً من جذوره.. مطروحاً في صحراء قاحلة.. يئن.. يا سماء لا تمطري.. ما عاد ينفعني القطر!
رفعتكِ.. أمسكتكِ مثل طريقته.. أردت أن أكمل النشيد.. تمتمت (ومده بالـ.. مده بالـ) تلاشى صوتي المبحوح..
استجديت إيقاعكِ.. فقط سأقول: (العافية).. لم تستجيبي لي..
خطوتك شُلَّت، ولساني أخرس.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد