وما تدري نفس بأي أرض تموت


بسم الله الرحمن الرحيم

 

(َ أيٌّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُم وَاخشَوا يَومًا لَّا يَجزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَولُودٌ هُوَ جَازٍ, عَن وَالِدِهِ شَيئًا إِنَّ وَعدَ اللَّهِ حَقُّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الحَيَاةُ الدٌّنيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الغَرُورُ (33) )

(ِإَّن اللَّهَ عِندَهُ عِلمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الغَيثَ وَيَعلَمُ مَا فِي الأَرحَامِ وَمَا تَدرِي نَفسٌ مَّاذَا تَكسِبُ غَدًا وَمَا تَدرِي نَفسٌ بِأَيِّ أَرضٍ, تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34))

توقفت عند هذه الآية الكريمة و دون أن أشعر ذهبت بفكري بعيدا بعيدا، عدت سنوات إلى الوراء، إلى يوم قائظ من أيام الصيف.

كنت أجلس على مقعدي أنتظر نهاية اليوم الدراسي بفارغ صبر، لطالما شعرت أن المدرسة مملة و الوقت فيها يمر ببطء لكن و في ذلك اليوم كان الوقت أكثر بطئا و الحصص طويلة كأن الواحدة منها دهر كان بإمكاني الغياب في ذلك اليوم، يوم واحد لن يضر لكن أمي أصرت على ذهابي إلى المدرسة و كان هذا اليوم كغيره من الأيام و كان جدي لن يعود في هذا اليوم من سفر دام شهورا.

ماذا سيحضر لي جدي يا ترى، لا بد أنها ستكون هدية رائعة كيف لا و أنا حفيدته المدللة، هل يكون قد وصل إلى المطار ليتني ذهبت معهم لاستقباله

 فاطمة تبكي

نظرت إلى زميلتي بدهشة فأشارت إلى تجمع الطالبات:

 ابنة عمك فاطمة تبكي

لماذا تبكي في يوم سعيد كهذا؟ لا بد أنها جنت

مررت عبر جموع الطالبات الفضوليات حتى و صلت إليها

 فاطمة! لمَ تبكين؟؟

قالت من بين دموعها:

 أخبروني أن جدي قد مات

 أخبروك!! من أخبرك بهذا الكلام السخيف؟ هل جننت؟؟ لقد حدثنا قبل قدومنا إلى المدرسة قال أن طائرته ستقلع بعد قليل، سمعت صوته منذ ساعتين فقط و تريدين أن أصدق أنه مات.

هتفت إحدى الطالبات:

 الأستاذ قادم

تراكضت الطالبات المجتمعات كل إلى مكانها

فعدت بدوري إلى مقعدي

دخل الأستاذ فاستأذنت منه فاطمة و غادرت الصف

أما أنا فقد كنت حاضرة غائبة

سأغادر بعد هذه الحصة سأذهب إلى البيت لأجد جدي ينتظرني

لكن ماذا لو كان ما قالته فاطمة صحيحا، مستحيل

كيف أمكنني أن أفكر بهذه الطريقة؟

حاولت أن أتابع الدرس مع الأستاذ لكني لم أفلح، كلمات فاطمة ما فتئت تمر على مسمعي

فوجئت بالطالبات يجتمعن حولي

إنني أبكي، لا أستطيع التوقف عن البكاء، ما الذي حدث لي هل صدقت هذا فعلا، هل صدقت أن جدي قد مات و لن أراه ثانية؟؟

سمحت المديرة لي و ابنة عمي بمغادرة المدرسة، فقد انتشر الخبر بسرعة و علم كل من بالمدرسة بوفاة جدي، شيعتنا إلى باب المدرسة مع بعض كلمات العزاء

سرنا في الطريق إلى بيت جدي و رغم أنه كان قريبا من المدرسة فقد شعرت أن الطريق ممتد بلا نهاية، كان لدي بعض الأمل بأن جدي بخير و أن كل ما يقال عن وفاته محض إشاعة كاذبة لكن وما أن اقتربت من البيت حتى سمعت أصوات البكاء، عندها أيقنت بوفاته..توقفت عن المشي..لم أستطع مواصلة السير، تركت فاطمة تذهب وحدها و اتجهت صوب منزلنا، لا أعرف متى وصلت.. و لا كيف وصلت.. لا أعرف كم بقيت أبكي في تلك الغرفة الصغيرة، تدافعت الذكريات إلى رأسي.. تذكرت وجهه الباسم دائما.. تذكرت عندما كان يحملني و يضعني فوق تلك المنضدة في دكانه الصغيرة.. تذكرت كيف كان يسمح لي بالعبث بلحيته الجميلة.. تذكرت المسجد الذي كان يقضي فيه معظم وقته، تذكرت كم كان يغضب من إخوتي إذا تخلف أحدهم عن الصلاة في المسجد.. تذكرت و تذكرت

سمعت صوت أخي أحمد فخرجت من الغرفة بسرعة كنت أريد أن أعرف كيف حدث ذلك، أين توفي جدي

 بعد أن تحدث إلينا ركب الطائرة و ربط الحزام و كانت قد بقيت خمس دقائق على الإقلاع، فجأة أغمي عليه، بقي كذلك فترة وجيزة، أفاق و نطق الشهادتين ثم أسلم الروح، كانت الطائرة ستقلع به لولا أن الراكب بجانبه تنبه لما حدث فأخبر الطاقم، أخرجوه من الطائرة و سلموه لأقربائنا الذين ودعوه في المطار و سيتم دفنه هناك.

سبحان الله.. جدي الذي لم يغادر البلاد قبل هذه المرة يموت خارجها.. لم يكن راغبا بالسفر لكنه سافر ربما لأن الله قدر أن يموت في ذلك المكان.. ربما لم يتصور هو و لم يتصور أحد أنه سيموت في طائرة

سبحان الله [وَمَا تَدرِي نَفسٌ بِأَيِّ أَرضٍ, تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ] صدق الله العظيم.

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply