(الغربة) أيضاً (أنثى) !! /قصة قصيرة


بسم الله الرحمن الرحيم

 

سبع سنوات في الغربة، شعرت فيها أنّ الحياة تنساب من قبضتها، كما ينساب الماء، عند محاولة الإمساك به، لا يبقى منه سوى (البلل)والذي سرعان ما يُبحث عمّا (يُجفّف) به!!

سبع سنوات...... خرجت منها بأقمار ثلاثة، منحوا ليلها قبساً من ضياء.

تتجرّع الصّمت، ولا تجد سوى رسائلها إلى صديقة لها، تبث فيها شيئاً من (خيبتها):

(( الغربة- يا عزيزتي-موت بطيء!!

فكيف بمن يحملها منذ قدومه إلى هذا العالم؟

يشعر الذكر بالغربة ساعة تغيّر ما حوله، أمّا الأنثى فتلد معها الغربة منذ الصّرخة الأولى!!

لتلج إلى مجتمع ينظر إلى وجودها (تفضّلاً) يتفضّل به الرّجال.

أنّى لنا الهروب من غربة تختلط بالدم؟!

الأنوثة لخدمة السّادة الرجال وسدّ رغباتهم.

.........

وقطرات المطر تصل نقيّة، وتغدو واحلة حال انغماسها في جسد أرضي.

حينئذ تفقد كل شيء، حتى اسمها، وتتجنّبها الأجساد خوف (التلوّث)!!

وتصبح غيلاً.... نهراً.... عيناً.... بئراً..... سيلاً..... لكنّها لم تعد(مطراً)..... سلبتها الأرض اسمها الجميل.

وتسير الأنثى غربة، لكنّها لا تشعر بها إلا عندما ترمى في (غربة) أخرى!!

نحتاج إلى لسعة البرد لنشعر بالنّار التي تضطرم بداخلنا))

وذكريات (أمل) تبقى الملاذ الوحيد، تجترّها كل يوم، وتغسل أحزانها بالدّموع.

تعلو ثغرها ابتسامة تعيد لوجهها صباحته، التي انطفأت منذ أمد بعيد.

تتذكّر أمّها وهي تردّد الصّلاة على النبي، والأذكار التي تحفظها، تشيد بذلك سياجاً حول جميلتها، يحفظها من أعين النّاس.

وأباها الذي يناديها دوماً بيا(أملي)، يزف لها البشرى بقدوم (العريس)، فيختلج قلبها بشيء من الخوف والفرح، مزيج من المشاعر لخبر سيرحل بها إلى المجهول:

-ستبعدين عنّي يا(أملي)..... تعلمين كم يحبّك أبوكِ... هاه... لكنّي أود لك حياة سعيدة.

وتطفو عينيه دموع أب، ينظر إلى قرب فراق (أمله)، نظرة سالت من عينيه، وكأنّها تتنبأ بليل طويل ستغرق فيه ابنته.

وتنطوي المسافات، وتتابع الأيّام مع هذا الرفيق، وتتذكّر البدايات، كان لطيفاً.... كان شيئاً آخر غير ما تراه اليوم، وعبثاً حاولت تذكّره، بيد أنّ الخريف القاسي أذهب بكل الأوراق النضرة، بعد أن تسلّلت إليها الهشاشةº فلم ترَ سوى شجرة جرداء، لا تحمل من رونق الحياة شيئاً يذكر، حتى تلافيف الذّاكرة، لم تستطع رسم اللوحة (الخضراء)!!

رأت عوضاً من ذلك، الإهانات المتواصلة، والضرب الذي لا يعرف موضعاً بذاته، ولا وقتاً بذاته. صحون الطّعام، إن نقص الملح أو زاد قليلاً، تطير إليها، وتهوي على وجهها الصّفعات، وتعلو يداها لتصنع حاجزاً أمام هجوم الرجولة، لكنّ الرجولة أقوى من كل تلك السّدود، الرجولة تهوي بقبضتها على أي (مساحة) متاحة!!

والأطفال الثلاثة يتضوّرون (بكاءً)..... والبنت الصّغيرة تضرب ساقي أبيها بقبضتها الصّغيرة:

-ليف ماما ألّون!!!

وهي تتوسّل إليه:

- بحق الله.... لا تضربني أمام أطفالي.... بحق الله... أدخلني إلى الغرفة واذبحني إذا شئت... فقط جنّب أطفالي هذا الشّقاء.

لكنّ الرجولة لا تكتفي بذلك، تريد الانتصار ولو عن طريق الكلام:

- يا بنت ال.... أنت مجرّد حذاء، أستبدله متى ما أشاء....

و(أمل) تحمل انطفاءتها، وحدها تتجرّع انكساراتها. ما الذي تفعله زهرة بائسة في بيداء موحشة؟!

ليس ثمّة من أهل ولا أقارب، وعندما بثّت حزنها إلى صديقتيهاº أوصتها الأولى بالصّبر!!

وأنّ الأحوال ستعرف طريقها إلى الأفضل!!

والأخرى قالت لها:

-لو أنّني مكانك لا تّصلت بـ(ناين ون ون) (1)وجعلت البوليس يجرجروه مثل(الكلب)!!

وما إن سمعت (أمل) هذا القول، حتى جفلت خوفاً وصرخت:

-لا، لا. أمجنونة أنتِ؟ أنا أفعل ذلك؟ أعوذ بالله.... أعوذ بالله.... أموت ولا أفعل هذا.

بعدها امتنعت عن بثّ الحزن لهذه الصّديقة. هي لم ترد قط أن تكون جزءاً من هذا المستنقع الذي غرق فيه الكثير هنا.

ذانك الزوجان الّذان ذهبا إلى المحكمة الأميركيّة، ليعلنا طلاقهما (بالأميركي) كما قالا!!

للحصول على (المزيد) من معونات الضّمان الاجتماعي، وعندما تلد المرأة تقول عن زوجها:

-ماي بوي فرند!!!

وتلك المرأة التي بلّغت الشرطة ليأخذوا زوجها إلى السّجن، وتنعم هي بالحرّيّة في

فعل ما تريد!!

وأولئك الأزواج الّذين يعلنون لزوجاتهم، عن علاقاتهم المحرّمة، فتبتلع الزوجة الصّمت حتى لا يغضب الزوج، فيرسلها إلى بلدها وتحرم (الجنّة) الأميركيّة!!

تذكّرت كلّما تعرفه، عن حياة العرب هنا، حيث الإنسان مجرّد (ورقة) يُهدّد بها مصيره، فيرفعها كل طرف في وجه الآخر الذي لم يحصل على (أوراقه) بعد!!

ورقة... يغدو بها الإنسان طائرة ورقيّة يعبث بها الأطفال الكبار.

تتّصل (أمل) بالمسجد، تودّ الحديث إلى الإمام، وتشرح له أحوالها:

- يا شيخ... أودّ أن أعرف.... أيجوز لي طلب الطّلاق؟

- آه.... والله يا ابنتي الطّلاق كلمة خطيرة. عليكِ بالصّبر.... أريه أنّكِ ملتزمة بالإسلام، أريه عظمة الدّين في حسن صبرك وأخلاقك....

- لكن يا شيخ... أنا والحمد لله متمسّكة بديني، دون حاجتي إلى أن أريه ذلك..

-والله يا ابنتي هذه نصيحتي لك، و(سأدعو) الله لكِ أن يصلح شؤونكما.

وتضع السّمّاعة... ليس لدى الشّيخ سوى (سأدعو لكِ).....

((ادعُ يا شيخ.... ادعُ له أن (يهديه) ليضربني بعيداً عن عيون أطفالي.....

ادعُ له أن يجعل منه شيئاً جامداً، لا يصلني منه حبّ ولا بغض.... فقط يعطيني فرصة العيش بكرامة، أو العيش كخادمة عنده، تهيّء له شؤونه، وتحفظ داره طاهراً....

أو فليهده إلى أن يطلّقني ويرجعني إلى أهلي.... ادعُ يا شيخ))

يآآآه.... ما أغلى ثمن العيش هنا!!

وأبوها يوصيها بالصّبر كذلك:

-يا (أملي)... لو أمكنني المجيء لجئتُ، لكن تعرفين!!... عائلتنا لا تعرف الطّلاق، إيّاك وترديد هذه الكلمة، لا، لا... يا بنيّتي... كوني عاقلة كما عهدتك.

((كوني عاقلة)).... بل عليّ أن أكون عاقلة يا أبتاه... ليس ثمّة من حلّ سوى هذا(العقل).

وعندما قالت لزوجها يوماً لماذا لا يطلّقها، عندما ارتكبت حماقة السّؤال، وتخلّت عن (عقلها)، صمت هنيهة، ثمّ التفت إليها:

-هذا بعدك... ثمّ من سيعطيك ثمن التذكرة لتعودي إلى اليمن؟... هاه... سأرميك متى ما أردت... احلمي بالطّلاق فلن تطوليه.

ولم يضربها هذه المرّة، بل حدجها بنظرة مقزّزة، ثمّ أردف قائلاً:

-عندي لكِ مفاجأة، (صاحبتي) ستأتي غداً إلى هنا، أريدكِ أن تري أنّك لا تساوين حذاءها..

-.....

لطالما توقّعت منه الكثير، عند أن يأوي مخموراً، لكنّ هذه المفاجأة ألجمتها... رمت بها إلى هاوية لا قعر لها.

-ماذا قلت؟

-قلت: صاحبتي.... سيدتك وسيّدة أمثالك.... يا بنت ال.... ستأتي إلى (بيتي).... ألديك اعتراض؟

-نعم. هذا بيت محترم و....

-بيت محترم.... هذا (بيتي) أنا يا...

وإذا به يخلع الحزام، ويتقدّم نحوها:

-أتريدين أن تتحكّمي في بيتي....

-أرجوك.. لا داعي للعنف... أنا لم أتصوّر منك....

-تتصوّرين...

ويتقدّم إليها كجزّار يتهيّأ لذبح ضحيّته، أمّا هي فتنزوي في أحد الأركان، وتدفن رأسها بين يديها، تنكمش بجسدها النّحيل، لتبدأ الرحيل في مسيرة العذاب، والحزام يهوي، والصّفعات والرّكلات في كل مكان، وهي تتلوّى في مكانها، متوسّلة إليه:

-أرجوك... خلاص... بحقّ الله توقّف... أرجوك...

كلمات تغسلها الدّموع، والرجولة تأبى إلا المزيد من العذاب، والجسد النحيل يحتمي بكل شيء، يتنقّل من ركن إلى آخر، والأطفال توقظهم أصوات أمّهم، تقذف بهم إلى عالم العذاب، ليشهدوا أمّهم تلتهمها أنياب قاتلة، أنياب من حقّه أن يحميها، أن يعشقها...

-ليف ماما ألّون!!

لكنّ العذاب لم يعد يفرّق الليلة، أراد صلي الأطفال أيضاً، والأمومة تهوي بجسدها على فلذات قلبها، وتضمّهم تحت جسدها المنهك، المعذّب.... والألم يفترس جسدها كلّه

-لا... لا.... بالله عليك... لا تؤذي أبنائي، بالله لا تلمسهم، اقتلني أنا.... افترسني... أرجوك..

لكن ليس ثمّة سوى حجر أصمّ، تحطّمت على حافّته كل التوسّلات... ارتدّت عنه نداءات الاسترحام، ولم يرجع الصّدى سوى بالمزيد من العذاب.

وتهرب بهم إلى غرفة النّوم، وتوصد الباب خلفها وخلفهم، وتهرع إلى الهاتف.....

صديقتاها.... الجيران.... إمام المسجد.....

تتحسّس الأزرار كذاك الذي يبحث عن منقذ.... أصابعها ترتعش... والباب يُضرب بعنف.... والأطفال يصرخون من حولها.... وأصابعها تتحسّس السبيل في لوحة الأزرار...

هاهي تضغط الزر الأوّل..... ما تزال ترتعش.... لكنّها تجهد في أن تجد سبيلها إلى النّجاة... تضغط مرّة أخرى.... تشعر بالزر يشتعل.... يلسعها بعنف..... تضغط...

..... ناين...

....... ون.....

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply