بسم الله الرحمن الرحيم
من صميم الحياة...
كانت ترى فيه السعادة كل السعادة، ترى فيه الدنيا كلها ولا ترى في الدنيا سواه، وكذلك كانº لأنه وحيدهاº وهي كذلك! كانت وحيدتهº إذ أنهما كما يقول أهل هذا الزمان (مقطوعان من شجرة)! وترجمتها: أنهما لا قريب لهما ولا نسيب ولا صهر ولا حبيب!. مات زوجها ولم يترك وراءه لها سوى بيت من الطينº يقبع في زاوية خجولة من حيٍّ, قديم من أحياء الرياض! º ليس في بيتها ما يرد العين إلاَّ أثاثٌ إذا رأيته عرفت من أول نظرة أنه لم يعد يصلح إلاَّ لزمن ولَّى أصحابه قبل عشرين عاماًº أما أصحاب زماننا فيأنفون أن يجلسوا على مثلهº لأن ثيابهم أنظف من قلوبهم! أما أولئك السابقون فبعكسنا تماماً كانت قلوبهم أنظف من ثيابهم!... وترك لها في هذا البيت طفلاً رضيعاً في أشهره الأولى.. فكان كل متاعها في الدنيا: بيتاً من الطينº وطفلاً كوجه الصبح الحزينº وحفنةً تأتيها كل عام لا تملأ الكفَّ من مال يسمى (الضمان الاجتماعي) تُقيم به صُلبها وصُلب صغيرها وتدخر ما بقي منه للأيام الشديدة في حياتهما وما أكثرها.
رعته حتى أدخلته المدرسةº وفي أول يوم غدا فيه إلى مدرسته يحمل على رأسه حقيبة صغيرة ينوء بحملها! ليس فيها إلاَّ (.. جزء عم.. والهجاء.. والحساب.. وقلم الرصاص.. و! كسرة من خبز يابس هي إفطاره)! يجر خلفه طرف (شماغه) وطاقيته تتوسط رأسه الصغير.
رأته ففاضت عيناها فرحاً بصغيرها الذي يستقبل أول أيام المستقبل.
كان ديدنها أن تغدو معه كل صباح إلى مدرسته سيراً على الأقدامº وتنتظره في حر الشمس ظهراً حتى يعود فتتلقاه بالقُبل.. تطبعها على خديه وتحمل عنه حقيبته ويعودان للبيت... فرحةٌ غامرة.. عمرت قلبها عندما سمعت بنبأ نجاحه في المرحلة الابتدائية.. بل كانت تخبر كل من تلقاه في طريقها أنَّ ابنها حمل الشهادة (الصفراء)!.
* * *
مرت السنونº وإذ به يحمل الشهادة الجامعية! من أعرق جامعات المملكة في قلب العاصمة! ولا يزال مع وحيدته الحبيبة في بيت الطين! وكانت فرحة ممزوجة بالألم والأمل معاًº تلك التي كان سببها.. استئذانه حبيبته أن يفارقها ويفارق بلاده للسفر في بعثة لمواصلة دراسته العليا في بلاد الغربº يأتي بعدها حاملاً أعلى الشهادات.
كاد قلبها ينخلع من البكاء عندما أغلقت عليه باب سيارة الأجرة التي ستوصله إلى مطار الرياض ليغيب بعدها عن حبيبته الغالية ست سنوات كاملات! لا يعرف من أخبارها شيئاً إلاَّ بواسطة رسائل الجيران الأخيارº الذين تطلب منهم جارتهم العجوز كتابتها لابنها الذي سافر بقلبها معه... كانت تضم صورته التي تزّين شهاداته السابقة على صدرها كل ليلة وتبلها بالدموع حتى يغلبها النوم.. فتنام لتراه يتراءى لها في المنام! هكذا هي طوال سنواتها العجافº كان الله في عونها.
* * *
مرت السنوات.. وإذ بها تتلقى رسالة من ابنها (الدكتور).. يخبرها فيها أنه قاب قوسين أو أدنى من رحلة العودة.. لم تسعها صحراء نجدٍ, كلها من فرحها.
دعت الله كثيراً أن يبقيها حتى تراه.. وودعت النوم.. ترقباً لمجيئه...
في يوم.. غلبتها عيناها ضحوةًº فإذا باب بيت الطين الذي لم يكن ليغلق كما تُغلق أبوابنا اليوم يُفتح وتظهر منه مقدمة حقيبتين كبيرتين.. يدخل بعدها رجل قارب الثلاثين من عمره يلبس ملابساً لم يكن لبسها معتاداً في ذلك الوقت إلاَّ قليلاً.. (جاكيت.. وملحقاته من كرافته.. وحذاء يلمع لمعان البرق)..
حضنته بين يديها الضعيفتين وغابت عن الدنيا! º بكاءٌ متبادل أزعج الجيران الواقفين في (.. حوش) المنزل الذين أتوا للترحيب والتهنئة بقدوم الابن الضيف (.. الدكتور).
* * *
وتمر السنون! وينتقل بها إلى منزل اشتراه.. يليق به وبمنصبهº أما هي فلا يليق بها! º ويودعان بيت الطين إلى غير رجعةº ذلك أنه باعه بثمن بخس دراهم معدودة وكان فيه من أزهد الزاهدين!.. أما هي! فكأنها قطعت قطعةً من قلبها وألقتها.. وتراءى لها منظر الجيران الطيبين.. لكنها صبرت ابتغاء رضاه! بعد رضا الله - تعالى -.
* * *
أتته في يومٍ,º تعرض عليه الزواج من بنت (فلان).. امرأة ديّنة.. صالحة.. عفيفة.. محتشمة.. مطيعة... تخدم في بيتها بنشاط بنات ذلك الزمان.. وهي مع ذلك.......! - ضحك وربت بيده على كتفها وقال: لم يحن الوقت بعد...
* * *
حان الوقت! وتزوج امرأة من طبقته هو! ذات منصب وجمال.. لكنها كانت أنموذجاً من النساء بارعاً في التكبر والغرور والازدراء لأُمّه والاحتقار لها ولكلامها.. ولبسها.. و..
* * *
صبرت الأم صبر أيوب!! ولم تشأ أن تجرح مشاعر ابنهاº فلم تخبره بشيء مما يقع لها معها.
كانت تلك المرأة تسومها سوء العذاب كل يوم!. حتى إذا قدم الدكتور من عمله انفردت به في غرفتها.. وسردت له أحداث النهار كلهº وكيف أنها عانت من أمه وعانت وعانت و... هكذا كان الحال كل يومٍ,!!!.
كان يعجب أشد العجب إذا سأل أمه عن زوجته: كيف هي؟ فتثني عليها خيراً ما استطاعتº كل ذلك اتقاء ما يجرح شعوره ويسبب غضبه!... نفد صبره.. ونفد (بالدال) إيمانه.. ونفد ما كان في قلبه من بقايا رحمة عاد بها معه من بلاد الغرب على استحياء.. فوقف على رأس أُمّه وهي تغسل ثيابها في (.. حوش) المنزل! وتلك الأفعى وراءه بشعرها الطويل المنثور على ظهرها - وقال لها بصوت الآمر: - يا أمي.. إما أن تراعي منصب زوجتي وتستقبلي زميلاتها بثياب حسنة وكلام زين ولا تجلسي معهم في الصالة.. وإلاَّ.... التفتت الأم العجوز! خلفها وظنت أنه يخاطب أحداً غيرهاº فلما لم تجد إلاَّ نفسها في فناء المنزلº علمت أنها هي المقصودة بالكلام لوحدها فأظلمت الدنيا في عينيها.. واتكأت على ما بقي في جسمها من قوة.... ودخلت ملحقها الصغير ورمت بنفسها على فراشهاº وخبأت رأسها في مخدتها وبكت حتى كاد أن ينشق قلبها..
* * *
زادت الأفعى في خبثهاº وزادت أُذُن الدكتور في سماعها!. حتى كانت الطامة الكبرى وقاصمة الظهر: -
كم مرة قلت لك أن عقلية العجائز هذه لم تعد تناسبنا.. صارت قديمة.. تفهمين؟.. حتى التلفون تردين عليه؟.. ما بقي شيء ما تدخلتي فيه في هذا البيت النكد؟! الله يستر عليك نحن لم نعد نصلح لكº ولا أنتِ تصلحين لنا.. - (حملت الأم في يدها كيساً من القماش أودعته ما لديها من ثياب.. وخرجت حتى إذا وقفت بباب القصر المنيف! التفتت إليه ودموعها تسطع على خديها في ظهيرة تشوي الوجوه)º وقالت: - سامحك الله يا ولدي.. والله ما عملت لكم إلاَّ كل خير أنت وزوجتك.. ووالله ما أذكر أني جرحتها بشيء.. سامحكم الله.. ثم شهقت شهقة ملؤها القهر.. وذهبت إلى حيث لا تعلم.
حاول أن يوقظ ضميره فيلحق بهاº فمنعته الأفعى.. الرقطاء الجميلة الناعمة الملمس.. فلم يفعل.
* * *
مرت الأشهر! وهي تساءل عنه ما تبقى من جيرانهاº لتعلم هل هو بخيرº هل مرضº هل رزق بأطفال؟! هل.. وكانت تنتقل من هذا الجار إلى هذا إلى ذاك.. وتمكث عند هؤلاء أياماً وعند هؤلاء شهراًًَ.. وهناك أكثر.. تأخذ في حياء شديد ما يقدمونه لها من صدقات.. وكأنها تبلع الجمر الأحمر..
* مرض.. دخل المستشفى.. سمعت أمه بالخبر.. استأجرت سيارة الأجرة لتراه.. وجدت الأفعى عند باب غرفته في المستشفىº فأغرت بها الأطباء والممرضات وأنها عجوز مجنونة.. لا عقل لها نخاف على الأجهزة الطبية منها.. فأخرجوها وهي تنتحب.. - أريد أن أراه.. يا ناس هذا ولدي.. حبيبي.. فلذة كبدي.. الله يخليكم لا تحرموني من رؤيته...
* خرج من المستشفى ولم يُخـــبَــر بزيارة أمه له.
أنفق جُلَّ أمواله في علاج مرضهº بل كل مالهº وباع بعض أثاث منزله..
* وقفت الأفعى الرقطاء.. في وجهه يوماً على إثر خلاف بينهما لتكثر عليه الطلباتº فلما لم يستجب قالت بصلافة المسترجلات -: صبرت عليك وعلى أمك من قبل.. أنت الآن وللأسف لم تعد رجلاً.. ولا استعداد لدي أكثر من هذا أن أعيش مع فقير مثلك.. طلقني.. هل تسمع.. طلقني..
* قال: كأنها صفعتني على وجهي بيد من حديدº وألقتني في صحراء النفود عرياناً.
* طلقها.. وذهب يبحث عن ذكريات قديمة مفقودة.. اسمها (أمه الحبيبة الغالية.. المظلومة)..
* طرق باب كل بيت في الحي القديمº وسأل عنها كل جار.. لكن دون جدوى..
* بحث عنها في ثلاجات المستشفيات.. في أقسام الشرط.. دون جدوى أيضاً..
* أعياه التعب! حتى ظن أنها قد ماتت..
* هام على وجهه بحثاً عنها.. وأيضاً بلا جدوى!
* وفي يومٍ,.. وفي طريق عودته مر بمسجد الحي القديم ليصلي به صلاة المغرب.. علَّه يجد عنها خبراً لدى جيرانه الأقدمين.. فإذا به يرى منظراً يؤمن لرؤيته الملحدون ويتوب العاصون.. منظراً يقطع أنياط القلوب ويمزق الأحشاء ويستنزف الدموع من العين بالقوة... ماذا تتوقعون؟!
* إنها أمٌّه الحبيبة الغالية (تشحذ) الناس على رصيف المسجد.. وتمد يداً لطالما مدتها إليه في صغره بالريال والخمسة والعشرة... تماماً كما تُمد إليها أيدي المصلين الآن بالريال والخمسة و.. و.. و.. ولطالما عطفت عليه في صغره وحزنت عليه في غربته في كبره.. واليوم تتسول لتعيش فقد ملت من عطايا وصدقات الجيران وأحست أنها عالةٌ عليهم وأنها أذلت نفسها كثيراً كثيراً.. فلجأت إلى استجداء عباد الله بجوار بيت الله!.
ارتمى بين يديها يقبل أقدامها ويديها ويضع قدميها على خديه.. وبكاؤه يشق سماء نجدٍ,. منظرٌ يقف الحليم أمامه حيران..
* حملها بين يديه.. أمام المصلين وذهب بها يمشي على وجهه إلى منزله.. وهو يردد بصوت متهدج مخنوق بالدموع والحسراتº وجؤار يملأ الشوارع: - لعنة الله على الزوجة الفاجرة.. وعلى الدكتوراه.. وعلى العمارة.. وعلى الراتب.. وعلى المال... وعلى من فرق بيني وبين أمي...
* * *
وذهب يحملها بين ذراعيه وطرف (شماغه) يخط على الأرض و(عقاله) على ذراعه اليسرى.. وولى ظهره للدنيا!
* * *
وبعد... فوالله لقد حاولت جاهداً أن أجد تعليقاً أختم به هذه القصةº فخنقتني العبرة فلم أستطع.. فاقرؤوها هكذا كما هي: من دون تعليق..!
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد