متى نحــطّ الرّحـــال يا أبي ؟؟؟


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 إلى أبي، إلى الطائر الذي لا يستريح الهارب من السجن القبيح والداخل إلى المعتقل الفسيح… ابنك المحب.

لست أدري يا أبي هل هو قدر أم ابتلاء أم هي محنة أم شقاء؟ وهل حكاية عائلتنا هي أسطورة الإنسان وصخرة سيزيف، أم هي قصّة تمرّد عروة ابن الورد ضد طغيان القبيلة؟ أم هي حكاية ككلّ الحكايات القديمة، أم هي رواية تدثّرت بفصول الرحلة الطويلة…

رحلتي أنا وأنت وأمّي وإخوتي وكل الزارعين للنخيل كي تستظلّ الأراضي الجميلة…

لا أعرف يا أبي متى تنتهي رحلتنا مع المعتقلات الحزينة…وهل يتسنىّ لنا يوما أن نجتمع في بيتنا بعيدا عن أنظار الحكومة، لنتعانق لنحلم، لنراجع ذكرياتنا القديمة، لنتذكّر جدّي الذي مات حزنا دون أن نتمكّن من رؤياه، لنسافر معا على مراكب الذكريات إلى قريتنا الحنونة، نقابل الأهالي الطيبين، نتسامر مع الجيران والأحباب ونشاركهم رغيف الحلم الأزلي، ونعانق صبر الجياع، وننساب في تربة الأهل والعشيرة كالأحلام، وكرذاذ المطر…لا أدري يا أبي ما الذي فجّر صمتي هنا في هذا الزمن الثقيل وجعلني اخترق سجلّ دفاتري الصغيرة، وأراجع كرّاسات الطفولة…حين أردت أن أحلم كطفل بريء، أن ألعب كطفل صغير، أن أقفز كطفل جريء، أن أطارد الفراش كطفل محتال، أن أشاكس كطفل شديد، أن أتمرّد كطفل عنيد، أن أتسلّق الأشجار، واقتنص الثمار كطفل من أطفال \"الدوار\"...

بحثت يا أبى عن كلّ هذه الأشياء الصغيرة وعن طفولتي المقبورة...فلم أجد يا أبى غير طوابير العساكر وهي تحاصر كلّ مرّة بيتنا وتقتادك لمراكز التفتيش بتهمة الانقلاب على الحكومة...

لم أعرف يا أبى من طفولتي سوى رعب البوليس، واستجواب المحققين...لقد قتلوا يا أبى كلّ فراشات الطفولة في محفظتي الصغيرة، وشنقوا على شجرة الذاكرة كل عصافيري الجميلة، وانقضّوا يا أبى على أرقّ أيّام الطفولة، ولم يتركوا سوى بصمات شروخ عميقة، ومحاضر، وتقارير، واستجوابات وممارسات مقيتة...

وأنا طفل يا أبى أجد نفسي كبرت قبل طفولتي...وكثيرا ما أراجع دفاتري المنزلية واستحضر الطفولة، فأتذكّر بكاء أمّي وهي تبحث عنك بين مراكز التفتيش ومخافر البوليس…وأراجع جدول الحساب فلا أجد منه في ذهني سوى جدول الضّرب، وفرق التقصّي والإرشاد، تحبس أنفاسنا وتدمّر ليالينا...واستعيد سجلّ المحفوظات فأجد نفسي قد حفظت تلك الليالي القاسية، التي تداهمنا فيها فرق أمن الدولة، وتنهال علينا بقذائف الأسئلة وأرذل الكلام…وأقلّب صفحات كتاب القراءة، لأطالع قصّة الطفل المدلّل، فلا أستطيع أن أقرأ سوى مفردات الحزن والمتاعب الراسبة في عيون والدتي، وعلى كل وجوه عائلتنا الكبيرة.

وأتصفّح كرّاس خطّ الطفولة فلا أعثر إلاّ على أطنان من التقارير، والمحاضر، والمحاكمات، والمداهمات، وأيّاما ثقيلة...فماذا أقول لك يا أبى وماذا أحكي لك عن كلّ أيّام الطفولة؟ فحتى مقلمتي الصغيرة التي بها أقلامي، وأقراصي، ومحبرتي، كلّها مبعثرة، ومفتّشة، ومهشّمة من طرف أعوان الحكومة…

لقد ضاقت بنا الأرض يا أبى واشتدّ بنا الظلم والزمان، ففررنا كرها وهاجرنا تونس الحبيبة، لنحطّ الرحال بفرنسا بلد حرية التعبير وحقوق الإنسان...

وها نحن من جديد نعود إلى محطّات القطار، يصفعنا السؤال وراء السؤال؟؟؟...

متى تنتهي محنتنا؟ متى نجتمع في أمان؟ إلى متى سيدوم نفيك؟ وإلى متى الانتظار؟

فنحن المسجونون داخل الوطن، والمنفيون خارج الوطن، والمطاردون على حدود الوطن…

ذاك هو قدرنا يا أبى فلا تحزن فكما ضاقت بنا الأرض يوما وأيّاما فقد يحضننا التاريخ يوما أو بضع أيام، فالدنيا كخذروف الصبيان...

فاعذرني يا أبى على جرأتي هذه، فأنا سأكون مثلك سأخون وطني، سأخون وطن الذلّ والقهر والعبودية، فالوطن الذي يستحقّ الخيانة يا أبي هو وطن الظلم والإرهاب والاضطهاد…

فاغفر لي يا أبى حمّى هذياني فأميّ تقرئك السلام وتقول لك لو لم تكن كذلك لما رضيت بك أن تكون أبا لأطفالي…

فاسمح لي يا أبى قبل أن أغلق نافدة الطفولة أن أقول لك بعض الأشياء أو إن شئت بعض الحكم المقلوبة

في زمن \" محمد الماغوط\" حين يقول:

لا تكن ودودا فهذا زمن الحقد

لا تكن وفيّا فهذا زمن الغدر

لا تكن نقيّا فهذا زمن الوحل

لا تكن عاطفيا فهذا زمن الجليد

لا تكن موهوبا فهذا زمن التافهين

لا تكن قمّة فهذا زمن الحضيض

لا تكن شجرة فهذا زمن الفؤوس

لا تحن على طفل فهذا زمن العجزة والمسنّين

لا تغث ملهوفا فهذا زمن الأبواب المغلقة

لا تستجر بصديق أو جار أو قريب…فهذا زمن التنكّر والمتنكّرين...

لا تصدر أي صوت ولو في...فهذا زمن الوشاة والمخبرين.

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply