بسم الله الرحمن الرحيم
بعد غياب طويل عن مسقط رأسي، كان لعودتي إليها طعم خاص، ونكهة مميزة، وبقيت أقلّب نظري في جوانبها المختلفة، وفي وجوه الناس، في الجيل القديم منهم، وفي الجيل الجديد أيضاً وما أكثرهم..
بعد هذا الغياب الطويل اشتقت أن أتجول في شوارعها، وبين حاراتها أشاهد بناياتها القديمة، وأزقتها الضيقة.
ومن خلال جولة سريعة لم تزد على ساعة فحسب حتى شعرت كأنني لم أغب عنها طويلاً..
طويت سنوات طوال في جولة سريعة، ذلك لأني لم أر شيئا جديدا أقيم إلا النزر اليسير، وأما القديم فأكثره قد بدا متهالكا..
في اليوم التالي كنا نستعد لصلاة الجمعة في الجامع الكبير، الذي اتضح أنه اتسع وامتد، وطال وعرض،
وجعلت أسدد نظري إلى المنبر، ترى هل سيصعد نفس الإمام الذي تركته منذ سنوات، أم أنه قد تغيّر؟
غير أني فوجئت بشاب ممتلئ الجسم كث اللحية، يواجه الناس بالسلام في ثقة تتجلى في نبراته، ثم شرع يتحدث بسلاسة وفي قوة، وكانت خطبة رائعة، لاسيما وقد كان صوته جهوري ونبرته مؤثرة..
- بعد الفراغ من الصلاة بادرت اسأل من كان برفقتي يومها، عن هذا الخطيب الشاب المتميز، فضحك مرافقي وقال: أما عرفته؟ إنه (فلان)..!
ولم أصدق..! وهززت رأسي كأني أقول له: لا..
لعلي توقعت أن يذكر أسماء لكثيرين أعرفهم، ولكن (فلان) هذا بالذات ما كان على الحساب أبداً،
- في ذلك اليوم نفسه حرصت على زيارة الخطيب الشاب في بيته، وكنت قد عرفت عنوان داره، وخلال الطريق إليه عدت بذاكرتي إلى الوراء، لأسحب منها مشاهد تتعلق بهذا الشاب نفسه، فرأيت ثم رأيت أمراً عجبا..!
لقد كنا مجموعة على عدد أصابع اليد الواحدة نبادر إلى الصلاة إذا سمعنا النداء، وكان المسجد لا يبعد عن المكان الذي نلعب فيه كثيراً، وكان صاحبنا هذا يرفض الذهاب، بل ربما أطلق أحيانا عبارات ساخرة منا، وكان يؤثر أن يبقى مع مجموعة أخرى كبيرة مواصلاً اللعب معهم في ألعاب يدخل في أكثرها صورة القمار الصريح.. وحين نفرغ من الصلاة ونعود إليهم سريعا، ربما استقبلنا هؤلاء الأصحاب وهو معهم بسخرية جديدة..! في أثناء زيارته، شرعنا نقلّب صفحات كثيرة من ملف الذكريات، ثم ألححت عليه أن يخبرني عن قصة هدايته، فقال: تركت المدرسة في بداية المرحلة الثانوية لظروف ألمّت بي، والتحقت بعمل، وجرى المال في يدي، فازددت سوءاً على السوء الذي كنت فيه، غير أن الله سبحانه أراد بي خيراً، فمرضت مرضاً حبسني في الفراش، وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم..
وكان من طبعي الذي نشأت عليه، أنني أخاف من المرض خوفاً شديداً، خشية أن يكون هو سبب انتهاء حياتي..!
في أثناء مرضي لاحظت أن صحبة السوء خفت أقدامها عني، فقد تجاوزت الشهر والنصف مريضاً، ولم يعد يزرني منهم إلا اثنان وعلى فترات متباعدة، واستوحشت في البداية، ثم ألفت الأمر، وتعرفت على شاب كان يتردد لزيارة صديق له، في نفس الحجرة الواسعة التي كنت فيها، والتي كانت تضم أكثر من عشرين سريرا فكان هذا الشاب لا ينساني يوما، كلما حضر ينفحني بكرمه وسؤاله وهداياه المتواضعة المتنوعة، وذات يوم أهداني شريطاً، وألح عليّ أن اسمعه بعناية، وأوهمني أنه يريد أن يسألني عن بعض ما فيه، لأنها أشكلت على فهمه..! -
واستمعت إلى الشريط بشغف، ويا لله ماذا أحدث في قلبي هذا الشريط!
لقد كان يتحدث عن سوء الخاتمة وأسبابها وقصص فيها، مما اقشعر له بدني كله، وأخفيت وجهي تحت غطائي وأخذت أبكي كاتماً صوتي، ولقد أعدت الاستماع إلى هذا الشريط أكثر مرة، في تلك الليلة نفسها حتى كدت أحفظ كل كلمة فيه، وفي الصباح الباكر جداً، أخذت آلة التسجيل إلى الحديقة الجانبية، ولا أدري كم بقيت هناك وأنا أعيد الاستماع إلى ذلك الشريط..! وكانت تلك هي البداية.. ثم توالت الخطوات على الطريق الطويل..
وبعد شفائي بادرت إلى مقاطعة صحبة السوء كخطوة أولى ضرورية لابد منها، وكانت شخصيتي أقوى منهم، فأعلنت لهم في وضوح إما أن يسيروا في الطريق الذي اتضح لي نوره، وإما أن يفارقوني بمعروف!!
ولأن منطقتنا وما حولها لا يوجد فيها شيخ يمكن الرجوع إليه، والتتلمذ عليه، فقد عكفت على متابعة الجهد الشخصي مستعيناً بالله جل جلاله، اسمع الشريط الواحد حتى أحفظه حرفا حرفا.. لقد حفظت أشرطة كثيرة لمشايخ أجلاء لم يكن يصلنا غير أشرطتهم ومنهم الشيخ الجليل عبد الحميد كشك، كانت تأسرني بلاغته، ويشدني أسلوبه وحفظت له عدد كبير جدا مما دروسه..
كانت أجواء البلد لا تسمح بوجود المكتبات الإسلامية وكانت تلك الأشرطة نتحصل عليها في جهد، خفية وبعيدا عن عيون الخلق وكذلك موضوع الكتب إنما تعطى يدا بيد..
وكنت اقرأ ما يقع تحت يدي من كتب إسلامية مرات حتى أخزن الكتاب كله في ذاكراتي ولم يمر زمن طويل حتى وجدت لساني يسيل بلغة سليمة، والمعاني تتوالد في قلبي بشكل غريب عجيب..، فلم أملك إلا أن أشرع في عقد دروس علم مبسطة في البداية، ثم بعد فترة خطوت خطوة أخرى فعقدت دروس وعظ، وتوجيه ونحو هذا، وشيئاً فشيئاً فإذا بتيسير الله - عز وجل - يوصلني إلى ما ترى..
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد