عذاب النار


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الخطبة الأولى:

أما بعد:

أيها الناس اتقوا الله - تعالى - واتقوا النار التي أعدت للكافرين وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون، اتقوا النار وعذاب الله بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، فإنه لا نجاة لكم من النار إلا بطاعة الله {وَإِن مّنكُم إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتماً مَّقضِيّاً ثُمَّ نُنَجّى الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّـالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً} [مريم: 71، 72].

هي دار البوار، دار البؤس والشقاء والخزي والعار، دار من لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر، ساكنوها شرار خلق الله - تعالى - من الشياطين وأتباعهم قال الله - تعالى - مخاطبا إبليس: {قَالَ فَالحَقٌّ وَالحَقَّ أَقُولُ لأملاَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنهُم أَجمَعِينَ} [ص: 84، 85]، فهي دار فرعون وهامان وقارون وأُبي بن خلف وغيرهم من طغاة الخلق و فجارهم، دار عبد الله بن أُبي بن سلول، وأضرابه من منافقي هذه الأمة وخونتها، هؤلاء سكنهاº كفار فجرة، وطغاة ظلمة ومنافقون خونة.

ولئن سألتم عن مكانها فإنها في أسفل سافلين وأبعد ما يكون عن رب العالمين، فهي دار عقاب الله، فأبعدت عن رحمة الله وعن دار أولياء الله، يؤتى بها يوم القيامة لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها، حرها شديد وقعرها بعيد قال النبي: ((نَارُكُم جُزءٌ مِن سَبعِينَ جُزءًا مِن نَارِ جَهَنَّمَ قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِن كَانَت لَكَافِيَةً قَالَ فُضِّلَت عَلَيهِنَّ بِتِسعَةٍ, وَسِتِّينَ جُزءًا كُلٌّهُنَّ مِثلُ حَرِّهَا)). وعَن أَبِي هُرَيرَةَ قَالَ كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذ سَمِعَ وَجبَةً فَقَالَ النَّبِيٌّ: ((تَدرُونَ مَا هَذَا؟ قَالَ: قُلنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعلَمُ قَالَ: هَذَا حَجَرٌ رُمِيَ بِهِ فِي النَّارِ مُنذُ سَبعِينَ خَرِيفًا فَهُوَ يَهوِي فِي النَّارِ الآنَ حَتَّى انتَهَى إِلَى قَعرِهَا)). وفي الصحيحين عنه أنه قال: ((يقال لليهود والنصارى ماذا تبغون؟ فيقولون: عطشنا ربَنا فاسقنا، فيشار إليهم: أفلا تردون، فيحشرون إلى جهنم كأنها سراب يحطم بعضها بعضاً فيتساقطون في النار))، قال الله - تعالى -: {وَنَسُوقُ المُجرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرداً} [مريم: 86].

عباد الله، ما ظنكم بقوم قاموا على أقدامهم خمسين ألف عام لم يأكلوا فيها أكلة ولم يشربوا فيها شربة، قد تقطعت أكبادهم جوعاً واحترقت أجوافهم عطشاً ثم انصرف بهم إلى النار وهو يطمعون في الشراب فلا يجدون إلا النار يلقون فيها {إِذَا أُلقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِىَ تَفُورُ} [الملك: 7] قد ملأها الله غيظاً وحنقاً عليهم {تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الغَيظِ} [الملك: 8] يلقون فيها أفواجاً، يقابلون بالتقريع والتوبيخ {كُلَّمَا أُلقِىَ فِيهَا فَوجٌ سَأَلَهُم خَزَنَتُهَا أَلَم يَأتِكُم نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى قَد جَاءنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبنَا وَقُلنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَيء إِن أَنتُم إِلاَّ فِي ضَلَـالٍ, كَبِيرٍ, وَقَالُوا لَو كُنَّا نَسمَعُ أَو نَعقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصحَـابِ السَّعِير [الملك: 8-10]، عند ذلك تتقطع قلوبهم أسفاً وتذوب أكبادهم كمداً وحزناً، فإذا دخلوها فما أعظم عذابهم وما أشد عقابهم يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم {لَهُم مّن فَوقِهِم ظُلَلٌ مّنَ النَّارِ وَمِن تَحتِهِم ظُلَلٌ ذالِكَ يُخَوّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يا عِبَادِ فَاتَّقُونِ} [الزمر: 16] طعامهم الزقوم، شجر خبيث مر الطعم نتن الريح كريه المنظر يتزقمونه تزقماً لكراهيته وقبحه، ولكن يلجئون إليه لشدة جوعهم، فلا يسمنهم ولا يغنيهم من جوع.

وعَن ابنِ عَبَّاسٍ, أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَرَأَ هَذِهِ الآيَةَ اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مٌّسلِمُونَ [آل عمران: 102] قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: ((لَو أَنَّ قَطرَةً مِن الزَّقٌّومِ قُطِرَت فِي دَارِ الدٌّنيَا لَأَفسَدَت عَلَى أَهلِ الدٌّنيَا مَعَايِشَهُم)) فَكَيفَ بِمَن يَكُونُ طَعَامَهُ.

 فإذا ملؤوا بطونهم من هذا الطعام الخبيث، التهبت أكبادهم عطشاً فلا يهيأ لهم شراب، وإنهم ليستغيثون {وَإِن يَستَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالمُهلِ} [الكهف: 29] كالرصاص المذاب {يَشوِى الوجُوهَ} [الكهف: 29] حتى تتساقط لحومها بِئسَ الشَّرَابُ [الكهف: 29] يشربونه على كره واضطرار فَشَـارِبُونَ شُربَ الهِيمِ [المعارج: 55]، يشربون كما تشرب الإبل العطاش، فإذا سقط في أجوافهم قطع أمعاءهم، هو كالمهل في حرارته، وكالصديد في نتنه وخبثه {وَاستَفتَحُوا وَخَابَ كُلٌّ جَبَّارٍ, عَنِيد ٍ, مِّن وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسقَى مِن مَّاء صَدِيدٍ, يَتَجَرَّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأتِيهِ المَوتُ مِن كُلّ مَكَانٍ, وَمَا هُوَ بِمَيّتٍ, وَمِن وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} [إبراهيم: 15-17].

أما لباسهم فلباس الشر والعار {قُطّعَت لَهُم ثِيَابٌ مّن نَّارِ} [الحج: 19] على قدر أبدانهم، لا تقيهم حر جهنم ولكن تزيدها اشتعالا فيها وحرارة {سَرَابِيلُهُم مّن قَطِرَانٍ, وَتَغشَى وُجُوهَهُم النَّارُ} [إبراهيم: 50] في عذاب مستمر دائم {لاَ يُفَتَّرُ عَنهُم وَهُم فِيهِ مُبلِسُونَ} [الزخرف: 75] كلما نضجت جلودهم بدلهم الله جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب، وكلما خبت نارها زادها الله سعيراً {كَلاَّ إِنَّهَا لَظَى نَزَّاعَةً لّلشَّوَى تَدعُوا مَن أَدبَرَ وَتَوَلَّى وَجَمَعَ فَأَوعَى} [معارج: 15-18] يرتفع بهم لهبها إلى أعلاها {كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخرُجُواُ مِنهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُم ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذّبُونَ} [السجدة: 20] ينوع عليهم العذاب فلا يستريحون فيقولون (لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادعُوا رَبَّكُم يُخَفِّف عَنَّا يَومًا مِنَ العَذَابِ).

والله لا يطمعون في التخفيف الدائم ولا في الانقطاع ولو ساعة، إنما يسألون أن يخفف عنهم يوماً واحداً من العذاب، ولكن لا تجيبهم الملائكة إلا بالتوبيخ والتهكم تقول لهم: {قَالُوا أَوَلَم تَكُ تَأتِيكُم رُسُلُكُم بِالبَيّنَـاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادعُوا وَمَا دُعَاء الكَـافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلَـالٍ,} [غافر: 50]، فلا يستجاب لهم لأنهم لم يستجيبوا للرسل حين دعوهم إلى الله وعبادته في الدنيا، وحينئذ يتمنون الموت من شد العذاب فيقولون: {ا مَـالِكُ وهو -خازن النار- ِيَقضِ عَلَينَا رَبٌّكَ فيقول لهم بعد ألف عام إِنَّكُم مَّـاكِثُونَ} [الزخرف: 77]، {لَقَد جِئنَـاكُم بِالحَقّ وَلَـاكِنَّ أَكثَرَكُم لِلحَقّ كَـارِهُونَ} [الزخرف: 78]، {كَذالِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعمَـالَهُم حَسَراتٍ, عَلَيهِم وَمَا هُم بِخَـارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة: 167]، ثم يتوجهون إلى رب العالمين ذي العظمة والجلال والعدل في الحكم والفعال فيقولون: {رَبَّنَا غَلَبَت عَلَينَا شِقوَتُنَا وَكُنَّا قَوماً ضَالّينَ رَبَّنَا أَخرِجنَا مِنهَا فَإِن عُدنَا فَإِنَّا ظَـالِمُونَ} [المؤمنون: 106، 107] فيقول لهم أحكم الحاكمين :{ قَالَ اخسَئُوا فِيهَا وَلاَ تُكَلّمُونِ إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مّن عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا ءامَنَّا فَاغفِر لَنَا وَارحَمنَا وَأَنتَ خَيرُ الرحِمِينَ فَاتَّخَذتُمُوهُم سِخرِيّاً حَتَّى أَنسَوكُم ذِكرِى وَكُنتُم مّنهُم تَضحَكُونَ} [المؤمنون: 108-110].

أيستهان بهذا عباد الله فلتتقوا الله يا أَيٌّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا قُوا أَنفُسَكُم وَأَهلِيكُم نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالحِجَارَةُ عَلَيهَا مَلَـئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَّ يَعصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُم وَيَفعَلُونَ مَا يُؤمَرُونَ} [التحريم: 6].

عباد الله، قال النبي: ((إِنَّ أَهوَنَ أَهلِ النَّارِ عَذَابًا مَن لَهُ نَعلَانِ وَشِرَاكَانِ مِن نَارٍ,، يَغلِي مِنهُمَا دِمَاغُهُ كَمَا يَغليِ المِرجَلُ، مَا يَرَى أَنَّ أَحَدًا أَشَدٌّ مِنهُ عَذَابًا، وَإِنَّهُ لَأَهوَنُهُم عَذَابًا)). وقال النبي: ((يُؤتَى بِأَنعَمِ أَهلِ الدٌّنيَا مِن أَهلِ النَّارِ يَومَ القِيَامَةِ فَيُصبَغُ فِي النَّارِ صَبغَةً ثُمَّ يُقَالُ يَا ابنَ آدَمَ هَل رَأَيتَ خَيرًا قَطٌّ؟ هَل مَرَّ بِكَ نَعِيمٌ قَطٌّ؟ فَيَقُولُ: لَا وَاللَّهِ يَا رَبِّ))º إنه والله لينسى كل نعيم مرّ به في الدنيا وقد غمس بالنار غمسة واحدة، فكيف وهو مخلد فيها أبداً.

يقول الله - تعالى -: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَم يَكُنِ اللَّهُ لِيَغفِرَ لَهُم وَلاَ لِيَهدِيَهُم طَرِيقاً إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَـالِدِينَ فِيهَا أَبَداً} [النساء: 167، 168] ويقول - تعالى -: {وَمَن يَعصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَـالِدِينَ فِيهَا أَبَداً} [الجن: 23] ويقول - تعالى -: {إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الكَـافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُم سَعِيراً خَـالِدِينَ فِيهَا أَبَداً لاَّ يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً يَومَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُم فِي النَّارِ يَقُولُونَ يالَيتَنَا أَطَعنَا اللَّهَ وَأَطَعنَا الرَّسُولاَ وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلٌّونَا السَّبِيلا رَبَّنَا ءاتِهِم ضِعفَينِ مِنَ العَذَابِ وَالعَنهُم لَعناً كَبِير} [الأحزاب:64- 68]. 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply