بسم الله الرحمن الرحيم
الخطبة الأولى:
وبعد: نصل في محطات حياة الإنسان إلى محطة المثوى الأخير وإلى محطة المستقر، وهذه المحطة تنقسم إلى قسمين: قسم لأهل الخير وهو الجنة، وقسم لأهل الشر وهو النار، ولكل قسم أحوال في مستقره، كما أن لكل من النار والجنة أمور توصِل إليها، فالذي يوصل إلى النار الشهوات واتِّباعها، والذي يوصل إلى الجنة المتاعب والصبر عليها، يقول فيما أخرجه مسلم عن أنس: ((حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات)). نتكلم اليوم عن النار، ونتكلم في الجمعة القادمة بإذن الله عن الجنة.
فالنار ـ عباد الله ـ مخلوق مخيف من مخلوقات الله - سبحانه -، والخوف من النار ليس فيه جبن ولا خور، بل هو عين الحكمة لمن كان ذا عقل، أما من يريد أن يظهرَ نفسه شجاعا ولا يخاف من نار الله - عز وجل - فهو المجنون، ومع هذا فهو غير صادق في عدم خوفه، ولا يسمى شجاعا، بل يسمى أحمق وغبيّاº لأنه لا يقدر الأمور بقدرها، وإن كان حقّا شجاعا ومطيقا لعذاب جهنم فليضع يده في نار الدنيا التي هي جزء من سبعين جزء وفي رواية: ((جزء من مائة جزء من نار الآخرة))، يقول فيما أخرجه الترمذي من حديث ابن مسعود: ((يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها))، لهذا وصانا الله - سبحانه - بأن نتّقيها، وأن نكون على حذر من أن نعرض أنفسنا لها، يقول - سبحانه -: {يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُم وَأَهلِيكُم نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالحِجَارَةُ عَلَيهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لاَّ يَعصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُم وَيَفعَلُونَ مَا يُؤمَرُونَ} [التحريم: 6].
وها هو الحق - سبحانه وتعالى - يصف لنا النار وأهوالها في آيات تخلع لب المؤمن وتقض مضجعه وتزلزل كيانه، يقول - سبحانه -: {كَلاَّ إِنَّهَا لَظَى نَزَّاعَةً لِّلشَّوَى تَدعُو مَن أَدبَرَ وَتَوَلَّى وَجَمَعَ فَأَوعَى} [المعارج: 15-18]، ويقول - سبحانه -: {سَأُصلِيهِ سَقَرَ وَمَا أَدرَاك مَا سَقَرُ لا تُبقِي وَلا تَذَرُ لَوَّاحَةٌ لِّلبَشَرِ عَلَيهَا تِسعَةَ عَشَر} [المدثر: 26-30]، إلى غير ذلك من صور في وصف النار وعذابها احتوتها آيات كتاب الله - سبحانه -.
ووصفها رسول الله أيضا، يقول فيما رواه الترمذي عن عتبة بن غَزوان: ((إن الصخرة العظيمة لتلقى من شفير جهنم، فتهوي بها سبعين عاما ما تفضي إلى قرارها))، ويقول أيضا: ((لو أن قطرة من الزقوم قَطِرت في دار الدنيا لأفسدت على أهل الدنيا معايشهم، فكيف بمن تكون طعامه؟!)) أخرجه النسائي عن ابن عباس. فكيف حال الإنسان مع النار؟! وكيف سيكون حاله مع حفرة هذه هي أوصافها؟!
من طبيعة الإنسان ـ إلاّ من رحم الله ـ أنّه لا يدرك حقيقةَ الأشياء وعواقب الأمور إلا عند حدوثها وعند الوقوف عليها، وأهل النار كذلك، فقد حذّرهم الله وحذّرهم الرسل وحذرهم المؤمنون الصالحون من عذاب الله ومن النار، ولكنهم كانوا يضحكون ويستهزئون، ولكن موقفهم هذا يتغير إذا تبيّن لهم جليًّا الأمر، ووقفوا على شفير جهنم وعاينوها، يقول - سبحانه -: {وَلَو تَرَىَ إِذ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيتَنَا نُرَدٌّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ المُؤمِنِينَ} [الأنعام: 27]، فهل ينفع هذا التمني؟! وهل يفيد هذا التحسر؟!
هذا حال أهل النار عندما يرونها فكيف سيكون حالهم عندما يدخلونها؟! يقول - سبحانه -: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوفَ نُصلِيهِم نَارًا كُلَّمَا نَضِجَت جُلُودُهُم بَدَّلنَاهُم جُلُودًا غَيرَهَا لِيَذُوقُوا العَذَابَ إِنَّ اللّه كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء: 56]، ويقول - سبحانه -: {فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَت لَهُم ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ, يُصَبٌّ مِن فَوقِ رُؤُوسِهِمُ الحَمِيم يُصهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِم وَالجُلُودُ وَلَهُم مَّقَامِعُ مِن حَدِيدٍ, كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخرُجُوا مِنهَا مِن غَمٍّ, أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الحَرِيقِ} [الحج: 19-22]، ويقول - سبحانه -: {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقٌّومِ طَعَامُ الأَثِيمِ كَالمُهلِ يَغلِي فِي البُطُونِ كَغَليِ الحَمِيمِ خُذُوهُ فَاعتِلُوهُ إِلَى سَوَاء الجَحِيمِ ثُمَّ صُبٌّوا فَوقَ رَأسِهِ مِن عَذَابِ الحَمِيمِ ذُق إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الكَرِيمُ} [الدخان: 43-48]، ويقول في وصف أحوال بعض أهل النار: ((إن منهم من تأخذه النار إلى كعبيه، ومنهم من تأخذه إلى ركبتيه، ومنهم من تأخذه إلى حُجزَته، ومنهم من تأخذه إلى عنقه)) أخرجه مسلم عن سمرة، ويقول فيما أخرجه مسلم عن النعمان بن بشير: ((إن أهون أهل النار عذابا من له نعلان وشراكان من نار، يغلي منهما دماغه كما يغلي المرجل، ما يرى أن أحدا أشد منه عذابا، وإنه لأهونهم عذابا)).
وأهل النار في النار ـ عباد الله ـ يكون لهم معاناة مع هذا العذاب الشديد، يطلبون الخروج منها ولا خروج، {رَبَّنَا أَخرِجنَا مِنهَا فَإِن عُدنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ قَالَ اخسَؤُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون: 107، 108]، ويطلبون تخفيف العذاب فلا يستجاب لهم، {وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادعُوا رَبَّكُم يُخَفِّف عَنَّا يَومًا مِّنَ العَذَابِ قَالُوا أَوَلَم تَكُ تَأتِيكُم رُسُلُكُم بِالبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادعُوا وَمَا دُعَاء الكَافِرِينَ إِلاّ فِي ضَلاَل} [غافر: 49، 50]، فيتمنون الموت ولكن لا موت، {لا يُقضَى عَلَيهِم فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنهُم مِّن عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجزِي كُلَّ كَفُورٍ,} [فاطر: 36]، ويحاولون الاستغاثة بمالك خازن النار ليشفع لهم عند الله حتى يموتوا ولكن لا جدوى، {وَنَادَوا يَا مَالِكُ لِيَقضِ عَلَينَا رَبٌّكَ قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ لَقَد جِئنَاكُم بِالحَقِّ وَلَكِنَّ أَكثَرَكُم لِلحَقِّ كَارِهُونَ} [الزخرف: 77، 78]، كما أنهم يحاولون الخروج من النار ولكن هيهات، يقول - سبحانه -: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخرُجُوا مِنهَا مِن غَمٍّ, أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الحَرِيق} [الحج: 22]، ويقول - سبحانه -: {يُرِيدُونَ أَن يَخرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنهَا وَلَهُم عَذَابٌ مٌّقِيمٌ} [المائدة: 37]، عناء وشكوى ومحاولة هرب وبكاء، يقول كما في صحيح الجامع من حديث أبي موسى: ((إن أهل النار ليبكون حتى لو أجريت السفن في دموعهم جرت، وإنهم ليبكون الدم))، هذه صور ينبغي للعبد أن يقف عليها، وأن يقدرها ما دام في العمر فرصة، وما دام يقوى على عمل الخير ويقوى على اتباع كتاب الله وسنة رسوله قبل أن يحال بينه وبين ذلك.
وقد وصف لنا رسول الله أصنافا ممن يكون في النار من أهل الدنيا وبعض الأفعال التي تجعل الإنسان مستحقا للنار، نورد بعض هذه الأصناف:
من هؤلاء الكاسيات العاريات من النساء، ومن يعتدون على الناس بظلم، يصفهم لنا رغم أنهم لم يظهروا في حياته، بل ظهروا بعده بقرون عديدة، وهذا من دلائل نبوته، يقول فيما رواه مسلم عن أبي هريرة: ((صنفان من أهل النار لم أرهما بعد: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا)).
ومن هذه الأصناف القضاة وغيرهم ممن يجورون في الحكم بين الناس، يقول فيما رواه الطبراني عن ابن عمر: ((القضاة ثلاثة: قاضيان في النار، وقاض في الجنة، قاض قضى بالهوى فهو في النار، وقاض قضى بغير علم فهو في النار، وقاض قضى بالحق فهو في الجنة)).
ومن هؤلاء مدمنو الخمر، يقول: ((كل مسكر حرام، وإن على الله لعهدا لَمَن شرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال عرق أهل النار)).
ومن هؤلاء من ينصحون الناس كالعلماء والخطباء وغيرهم ويتظاهرون بالصلاح، ولكنهم يقولون ما لا يفعلون وينتهكون محارم الله في السر، يقول فيما اتفق عليه الشيخان من حديث أسامة بن زيد: ((يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار، فتندلق أقتابه ـ أي: تخرج أمعاؤه ـ، فيدور بها في النار كما يدور الحمار برحاه، فيطيف به أهل النار فيقولون: يا فلان ما أصابك؟! ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟! فيقول: بلى، قد كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه)).
هؤلاء بعض من حق عليهم العذاب بالنار، وحق عليهم سكنى النار، نسأل الله أن يعيذنا من ذلك.
كما بين بعض الأعمال التي تنجي من النار وعذابها، من ذلك الدفاع عن عرض أخيك المسلم في غيبته، يقول فيما أخرجه أحمد من حديث أسماء بنت زيد: ((من ذبّ عن عرض أخيه بالغيبة كان حقا على الله أن يعتقه من النار))، ومن ذلك حسن تربية البنات والإحسان لهن، يقول فيما اتفق عليه الشيخان من حديث عائشة - رضي الله عنها -: ((من ابتلي من هذه البنات بشيء فأحسن إليهن كن له سترا من النار))، ومن ذلك التطوع بالصيام، يقول فيما أخرجه النسائي عن أبي سعيد: ((من صام يوما في سبيل الله باعد الله وجهه من جهنم سبعين عاما))، إلى غير ذلك من أعمال.
فاحرصوا ـ عباد الله ـ على مثل هذه الأعمال، واتقوا النار ولو بشق تمرة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
إخوة الإيمان، إن النجاة من النار والفوز بالجنة ليس بالأمر الهين، بل هو أمر في غاية الصعوبة لولا رحمة الله، لهذا جاء كتاب الله بلفظ يدلّ على هذه الصعوبة، وهو لفظ زحزِح، يقول - سبحانه -: {فَمَن زُحزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدخِلَ الجَنَّةَ فَقَد فَازَ وَما الحَيَاةُ الدٌّنيَا إِلاَّ مَتَاعُ الغُرُورِ} [آل عمران: 185].
هذه الصعوبة تكمن في أن الجنّة حفت بأمور شديدة على النفس عصيّة عليها، صعوبتها تصرف الناس عن الجنة، والنار حفّت بأمور وأشياء وملذّات ترغبها النفس، ورغبتُها في هذه الأشياء تجعلها تلج النار، هذا مكمن الصعوبة في الدخول إلى الجنة والنجاة من النار، وعندما رأى جبريل الجنة والنار وما يحيط بهما خاف أن لا يدخل الجنة أحد وأن لا يسلم من النار أحد، يقول فيما رواه أحمد وغيره من حديث أبي هريرة: ((لما خلق الله الجنة قال لجبريل: اذهب فانظر إليها، فذهب فنظر إليها ثم جاء فقال: أي رب، وعزتك لا يسمع بها أحد إلا دخلها، ثم حفها بالمكاره ثم قال: يا جبريل، اذهب فانظر إليها، فذهب ثم نظر إليها ثم جاء فقال: أي رب، وعزتك لقد خشيت أن لا يدخلها أحد، فلما خلق الله النار قال: يا جبريل، اذهب فانظر إليها، فذهب فنظر إليها ثم جاء فقال: وعزتك، لا يسمع بها أحد فيدخلها، فحفها بالشهوات ثم قال: يا جبريل، اذهب فانظر إليها فذهب فنظر إليها فقال: أي رب، وعزتك لقد خشيت أن لا يبقى أحد إلا دخلها)).
وهذا لا يعني التيئيس والقنوط، فقد بيّنا في الخطبة الأولى أعمالا يسيرة تدخل الجنة كالصوم وحسن تربية البنات وغيرها، إنما يعني هذا أن نسعى بجدّ للنجاة من النار والفوز بالجنة، وأن لا نتكل على أننا أمة محمّد، وأننا مرحومون على كل الأحوال، فأقرب الناس من محمّد وأحبّهم إليه لا يغني عنه محمّد من الله شيئا، يقول لأحب الناس إليه ابنته فاطمة: ((يا فاطمة، أنقذي نفسك من النارº فإني لا أملك لكم من الله شيئا)) أخرجه مسلم والنسائي عن أبي هريرة، هذا عن فاطمة فكيف بنا نحن؟! لهذا فالتواكل مرفوض، والكسل مرفوض، واتخاذ الدّين لهوا ولعبا لا ينجي من النار، فاتقوا الله عباد الله، واتقوا النار.
اللهم إنا نعوذ بك من النار، اللهم إنا نعوذ بك من النار، اللهم إنا نعوذ بك من النار...
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد