بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله عرف قدره المؤمنون و خشيه العلماء الراسخون و طلبوا مرضاته واتبعوا سبيله فبالكتاب والسنة يهتدون وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له لا يسأل عما يفعل وهم يسألون له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم واليه ترجعون واشهد أن محمد عبده ورسوله المشهود له بالخلق العظيم والمبشر في (نون) بأجر غير ممنون صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجهم و ترسم خطاهم إلى يوم يبعثون وسلم تسليما أما بعد فأوصي نفسي وأوصيكم بتقوى الله فبها ينجو المرء من العذاب (ثم ننجي الذين اتقوا) - (هذا وان للمتقين لحسن مئاب)
أيها المسلمون:
إن التالي لكتاب الله - تعالى - متدبرا له متفكرا في آياته كما أمر سيجني ثمرات مختلفا ألوانها من الفوائد والحكم ففي كتاب الله - تعالى -روضة غناء لا يلجها مؤمن الا أناخ في جناباتها ركابه وسعى يستخلص من رحيق أزهارها ليفتح قلبه لنور الله أقفاله ويشرع لحكمته أبوابه (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها) ومن بين عبير كتاب الله وأسراره المعجزات وأنواره المباركات نستلهم هذا الكلام راجين أن تفتح هذه الوقفة بابا لتدبره وان تكون نبراسا للتفكر فيه ومعينا للعمل به والوقوف عند حلاله وحرامه
معاشر الأحبة:
استوقفتني لفظة في كتاب الله - تعالى -فتأملتها ففاضت من ذلك معاني لا تحصر وهي لفظة تشير أن كتاب الله ولا ريب لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا ولنتأمل معا أخي الحبيب جزءا من تلك الأسرار ولنقطف من شفاء الصدور أطيب الأزهار واسمع معي قوله - جل وعلا - في سورة مريم (تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقيا) فان من الملفت للنظر أن الله - تعالى -عبر باسم الإشارة للشيء البعيد وهو يخبر عن الجنة. قال صاحب التحرير والتدوير حقه يعني الإشارة أن يستعمل في المشار إليه للبعيد مع أن الجنة حاضرة بين أيديهم لقصد رفعة شأنها و تعظيم المنة بها ولكن من أعاد التأمل والتدبر فسيجد أن الله - تعالى -عبر أيضا بهذا في آيتين أخريين من كتابه العزيز كما في قوله - جل وعلا - في سورة الأعراف (و نودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون) وقوله- تبارك وتعالى -في سورة الزخرف (وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون) مما يدل على أن هناك معنى أسمى من مجرد الإشارة إلى رفعة منزلة الجنة وهو أن المراد لفت نظر التالي للكتاب الكريم إلى أنها أي الجنة لن تنال براحة بل لا بد لها من عمل يكون سببا لدخولها ونيل ما فيها من نعيم وهذا مضطرد في كتاب الله - جل وعلا - ومن هنا قال في حق النار أعاذني الله وإياكم منها (هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون) وقال (هذه النار التي كنتم بها تكذبون) وقال (هذه جهنم التي كنتم توعدون) فعبر في جانب النار باسم الاشاره (هذه) كأنه يشير إلى قربها و سهولة الدخول فيها و هذه ثلاث بثلاث لا رابع لأي منها ويقرب المعنى المراد حين تتصور النار و قد جيء بها لها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها و هي تزفر والصراط منصوب على متنها و تتخيل صفة الصراط وبعد القعر و كل واحد لا بد له من الجواز عليها فبالله أتعجب أن سقط الساقط فيها لا بل العجب كيف ينجو الناجي فمثل نفسك واقفا دون الصراط وهو منصوب على متن جهنم يحول بينك وبين دخول الجنة ترى تلك وتبصر هذه ولا تستطيع نيل تلك إلا بتجاوز هذه وطريق تلك يمر عبر هذه فلا بد من ورود هذه ورحمة من الله تنجيك منها لتصل إلى تلك وتنال راحتك فيها و من هنا قال الحبيب - صلى الله عليه وسلم - (ألا إن سلعة الله غالية ألا إن سلعة الله الجنة) ومن هنا أيضا يتضح قول الله - تعالى -(وأزلفت الجنة للمتقين) زاد في (ق) غير بعيد وقال في التكوير (وإذا الجنة أزلفت) قال ابن كثير - رحمه الله تعالى -أي قربت إلى أهلها وهذا يشير إلى علوها كيف لا وسقفها عرش الرحمن وهي موصوفة بالعلو أيضا (في جنة عالية) وعلوها المعنوي وعلوها الحقيقي لا مراء فيه فهي عالية حسا و معنى وقد قالوا (من طلب العلا سهر الليالي) فلا غرو أنها لا يشار إليها بالقرب أبدا
أيها الأحبة إن الله - تعالى -يريد أن يلفت نظر المستمع أو التالي لكتابه بفهم حاضر و قلب شهيد إلى علو المنزلة وإلى وجوب العمل لها ويحذره من سهولة الهلاك وقربه ودونه و حقارة منزلته فكأن قرب النار المشار إليها بهذه وبعد الجنة المشار إليها بتلك سببان حافزان لكل مريد نيل تلك والنجاة من هذه أن يجد ويجتهد و يعمل راجيا يحدوه حسن الظن بربه خائفا من زلة توبق دنياه وآخرته فهو على الوجل كما وصف المتقون (إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون والذين هم بآيات ربهم يؤمنون والذين هم بربهم لا يشركون والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون- أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون)
أيها المسلمون وفي اسم الإشارة أيضا لفتة أخرى هي أن جانب الخوف أرجى في نيل المنزلة فكأنك ترى هذه بأم عينيك وتتطلع إلى تلك فقرب هذه يخيفك وبعد تلك يحفزك ولما نهيت عن اليأس ونهيت عن القنوط كان العمل لنيل تلك أقوى في البذل وأصعب في المجاهدة والخوف من هذه يطرد الراحة ويوقد الهمة للعمل الدءوب سعيا وراء النجاة وفيها تصبير للمؤمن يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه فهو موقن انه لن ينال تلك إلا برحمة من ربه إذ إن هلاكه ميسور و نجاته فيها نظر فلا يعجب بعمل يعمله ولا يثق إلا برحمة ربه فالعالمون لقرب هذه وبعد تلك لا يقر لهم قرار في ليل أو في نهار (تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا و طمعا) خوفا من هذه وطمعا في تلك ولعل هذا من أسرار خوف الصديق - رضي الله عنه - والأسودان في وجنتي عمر وتلك الأموال التي بذلها عثمان وذاك الجهاد الذي جاهده علي - رضي الله عنهم - جميعا مع ثبوت الجنة لهم بإشارة نبيهم - صلى الله عليه وسلم - فمن ترسم خطاهم وسار على نهجهم فلا ريب انه سيفعل مثل ما فعلوا جهاد وبذلا وصياما وصلاة كانوا قليلا من الليل ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون وفي أموالهم حق للسائل والمحروم كانوا لفروجهم حافظون لم يبخسوا الناس أشيائهم ولم يعثوا في الأرض مفسدين ولكن بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف و ينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله
أخوة الدين والعقيدة إن النار قد وصفت بقوله (إن جهنم كانت مرصادا) والمترصد بالشيء يكون في العادة قريبا من المترصد به يتربص به الدوائر ولهذا قال قتادة يعني انه لن يدخل أحد الجنة حتى يجتاز النار فإن كان معه جواز نجى و إلا احتبس وقال سفيان: فلما كانت النار حائلا بين الجنة وبين دخولها عرف المسلم أن هذه أقرب إليه من تلك فأشير إليه تلك الجنة انظر إليها وحاول ابذل جهدك كله واستـفرغ وسعك لتـنالها وتضع رحلك فيها فلا والله لا أمان إلا فيها ولا راحة إلا فيها ولا سعادة إلا فيها ويشار إليه أن حاذر هذه فالوقوع فيها وشيك غير مستبعد لا يلزم منك إلا إتباع الشهوات وإضاعة الصلوات وعقوق الوالدين والسحر واكل مال اليتيم وغير ذلك من الموبقات وسائر المحرمات وفوق كل هذا وأعظمه الشرك بالله فاطر الأرض والسماوات فبان لكل ذي عينين أن تلك قد حفت بالمكاره فلابد لمريدها أن يصبر على الطاعة وان يجاهد النفس تمسكا بدينه وعضًا عليه بإخلاص وإتباعا ووقوفا عند حدود الله لا يقربها ولا يتعداها وأما هذه فقد حفت بالشهوات وهو ما يغشى المرء فيعميه أن يبصر الطريق للنجاة فيهلك وحبس النفس عن شهوتها أصعب من صبرها على ما تكره ألا ترى أن الإنسان يصبر على مر الدواء ولا يصبر إذا منع من بعض الطعام حمية له وفي هذا السياق كانت الجنة درجات والنار دركات فأهل الجنة لهم الدرجات العلى وأهل النار لهم الدركات السفلى فهم في أسفل سافلين (إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار) يقال لقارئ القرآن اقرأ وارقى ويقال لأهل النار القيا في جهنم كل كفار عنيد إذا رأتهم من مكان بعيد قيل من مسيرة عام بيد أن تغيضها و زفيرها يقربانها من كل من يسمع ذلك التغيض والزفير بل والله انه لأشد خلعا للقلوب وأكثر رعبا في النفوس يزيد الرعب قوله (كل ما القي فيها فوج) وقوله وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين) فالتعبير بالإلقاء يشعرك أن القوم لا يبالى بهم وصور لك الكلاليب تخطف الناس من على متن الصراط فتلقيهم فيها زيادة في المهانة
فيا مسلم
اقنع بأيسر ميسور من الزمن *** واشكر لربك ما أولاك من منن
إن شئت إن تدخل الجنات مستدينا *** قطوفها فتوقى النار بالجنن
وباشر النفس بالمعروف مجتهدا *** وراقب الله في سر وفي علن
أعاذني الله وإياكم من النار ومما يقرب منها ورزقني وإياكم الفردوس الأعلى من الجنة مع الذين قال فيهم (لا يسمعون حسيسها وهم فيما اشتهت أنفسهم خالدون لا يحزنهم الفزع الأكبر وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون)
فاتقوا الله عباد الله ليزداد إيمانكم وتقوى عزائمكم وتنشرح صدوركم ويرتفع ذكركم (لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم أفلا تعقلون) وانه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون
قرأ قارئ (إذا الشمس كورت وإذا النجوم انكدرت وإذا الجبال سيرت) وفي الحاضرين أبي الفداء بن عقيل فقال له قائل: يا سيدي هب أنه نشر الموتى للبعث والحساب وزوج النفوس بموالاتها للثواب والعقاب فلم هدم الأبنية وسير الجبال ودك الأرض وفطر السماء ونثر النجوم وكور الشمس فقال ابن عقيل (إنما بنى لهم الدار للسكنى والتمتع وجعل ما فيها للاعتبار والتفكر والاستدلال عليه بحسن التأمل والتدبر فلما انقضت مدة السكنى أجلاهم من الدار لانتقال الساكن منها فأراد أن يعلمهم أن الكونين كانت معمورة بهم وفي حالة الأحوال وإظهار تلك الأهوال بيان المغفرة بعد العزة وتكذيب لأهل الإلحاد وزنادقة المنجمين وعباد الكواكب والشمس والقمر والأوثان ليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين فإذا رأوا آلهتم قد انهدمت ومعبوداتهم قد اندثرت وانفطرت ومحالها قد تشققت ظهرت فضائحهم وتبن كذبهم وظهر أن العالم مربوب محدث مدبر له - له رب يصرفه كيف يشاء تكذيبا لملاحدة الفلاسفة القائلين بالقدم فكم لله - تعالى -من هدم هذه الدار من دلالة على عظم عزته وقدرته وسلطانه وانفراده بالربوبية وانقياد المخلوقات بأسرها لقهره وإذعانها لمشيئته فتبارك الله رب العالمين
فتأمل أيها المسلم كتاب ربك وخذ من معينه ما يقويك لنيل مرادك من رضاه وجنته والنجاة من بطشه وعقابه فان قوله (فمن زحزح عن النار إفادة يحاجتك إلى من يزحزحك وإلا فانك واقع فيها لا محالة (وان منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا ثم ننجي الذين اتقوا)
فالجنة تدنو منك بأداء الفرائض والنار تندفع عنك بترك المعاصي فإن قهر نفسك حب الفانية فذكرها بالعيش في الباقية فإن أبت عليك إلا بيع الغبن فاحجر عليها كما يحجر على السفيه واغسل عينيك بدمعك فدمع العينين يجلى النظر وينفع مسام البصر وينجي تلك العينين أن تمسهما سقر ومتى أقحطت العين من البكاء من خشية الله فاعلم ان قحطها من قسوة القلب
ولو أن عين ساهمت فتوكفت *** سحائبها بالدمع ديما وهطلا
ولكنها من قسوة القلب قحطها *** فيا ضيعة الأعمار تمضي سبهللا
وتأمل أخي لكريم مع فرط خوفك وقلق نفسك وخشيتك ما فعله بلال - رضي الله عنه - إذ كان يجود بنفسه فقالت زوجه وحزناه فقال: وافرحاه غدا نلقى الأحبة محمدا وحزبه قال ابن القيم عندها واهاً لبلال علم أن الإمام لا ينسى المؤذن - هيهات أخي الحبيب ما وصل القوم إلى المنزل إلا بعد مواصلة السرى ولا عبروا إلى مواطن الراحة إلا على جسر التعب (فاصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا) فهاهو الهدهد يغيب عن سليمان ساعة فيتوعده فيامن أطال الغيبة عن ربه هل أمنت توعده هل ستلقاه بسلطان مبين، وثلاثة تخلفوا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة واحدة فجرى لهم ما جرى فكيف بمن تخلف عنه عمره كله، موسى - عليه السلام - يخالف الخضر في ثلاث مسائل فقال له هذا فراق بيني وبينك أفما تخاف يا من تخلف ما وعد ربك أن يقال هذا فراق بيني وبينك
ألا فاتق الله عبد الله واطلب الآخرة واسع لها سعيها وأنت مؤمن فان الله - تعالى -يقول (فإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى ويقول جل من قائل (ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما)
وصلى الله على محمد وعلى آله و صحبه وسلم .
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد