سلسلة اعترافات فتاة - الأمس الذي لن يعود


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

إلى نصفي الآخر.. مع خالص المحبة:

ربما لن أسلمكِ هذه الأوراق يوماً ما.. ولكنني كما عهدتني.. أحب سرد مشاعري على أسطر وأوراق لم ولن تنتهي حتى تنتهي تلك الصراعات بين كلماتي وأفكاري داخل رأسي.. وسأظل أتمنى أن تصلك هذه المشاعر مخطوطة على رسالة من الذكرى.. أوراقاً تحملها الأيام...

 

عندما ينتظر الإنسان مستقبلاً بفارغ الصبر.. ظناً منه بأنه سيتخلص من حياة قديمة باردة.. ثم يبدل الزمن صفحاته.. ويجده أصبح حاضراً لم يعلم بقدومه.. تصبح تلك الحياة القديمة في ناظره صفحة من الماضي يتمنى عودتها يوماً ما..

 

برغم أن كل شيء كان يبدو رائعاً.. ومتكاملاً.. إلا أن صوتاً كان يتردد في داخلي.. بأنه لا يزال مختلفاً... وأن قلبي لم يكن قد اعتاده بعد.. ربما لأنه عاش في ذكريات الماضي كثيراً.. لدرجة أنه ظن بأنه ينتمي إلى هناك.. في كل مرة أحاول أن أقتلعه وأعيده إلى الحاضر تغرقني الذكريات ويصيبني الاشتياق فانكب جاثية على ركبتي.. وأجد نفسي وقد عدت مرة أخرى إلى الماضي.. وهكذا..

 

كل شيء فيَّ ما زال كما عهدته.. ولكن تلك الابتسامة التي كانت تنبع من أعماق قلبي سابقاً.. أصبحت الآن مجرد ابتسامة جامدة أرسمها كل صباح..

 

كنت عندما أجر قدمي في ممرات المدرسة.. أحس بأن كل شيء حولي بارد.. وأرى هالة من السواد تغطيه.. فالشمس لا تبدو مشرقة كما كانت في السابق.. والمكان يخيم عليه الهدوء والصمت أكثر من المعتاد.. والفصل.. يبدو قاتماً مظلماً أكثر فأكثر.. في كل يوم أخطو فيه.. حقيبتي تبدو ثقيلة على كتفي أكثر من السابق.. ربما بسبب تغير عدد الكتب داخلها بتغير صفي الدراسي.. أو ربما لأني أصبحت أنتبه لهذه المنغصات كما لم أكن أفعل من قبل..

 

يحيط بي العديد ممن أعدهم صديقات.. ولكن يبقى ذلك الشعور بالاغتراب وربما الاختلاف يساورني في كل مرة يتحدثون فيها عما حدث في سنوات ماضية.. وأجد نفسي لا أعي مما يقولون شيئاً.. لأنني وبكل بساطة.. جديدة.. ومن طالبات هذه السنة.. ربما لم أعد أستحق ذلك المسمى الذي اعتدت أن تطلقيه علي.. وردة تجيد العيش في أي بيئة تغرس فيها.. أو ربما تلك الوردة قد اقتلعت من بين دفء من تحب.. لترمى على جبين الصحراء محاولة التكيف.. ولكن دون جدوى.. فهي وبكل بساطة أيضاً.. لا تنتمي إلى هناك..

 

عندما التصق بذلك الكرسي.. كلمات مخطوطة في ذلك اللوح أمامي.. أصوات عديدة حولي لا أستطيع تمييزها.. ولكن صوت المعلمة وحده يتردد بين جدران الفصل.. في لحظة.. ينتابني شعور لا أعلم بما يسمى.. ربما مزيج من الغربة والملل.. تنخفض الأصوات حولي.. أغمض عيني لثانية.. فإذا بكل شيء يتبدل.. وتبدأ مخيلتي بنسج صورة مكان آخر يظل قلبي مردداً بأنه يُفترض أن يكون فيه.. ملامح يألفها قلبي.. تبتسم لها شفتاي.. نعم.. مكان أعرف فيه كل من حولي.. وكل من حولي يعرفني.. أتلمس الكرسي.. ذات الملمس القديم الذي عهدته.. ذات الخطوط والكلمات التي رسمتها على ذات الطاولة التي أمتلكها.. والأهم من ذلك كله.. ذات الطالبة التي اعتدت وجودها بجانبي.. تضحكين على كل تعليق على تلك وذاك مما يجود به لساني أو يخطه قلمي خفية.. وإن كان تافهاً.. وعندما أصمت.. تلوحين بيدك أمام عيني.. لتعيديني إلى الفصل من مكان خيالي آخر.. أرحل إليه..

 

ينسج اشتياقي نسيجاً رائعاً ليغطي عيني فلا أرى ولا أسمع إلا ما كنت أريده.. حتى أؤمن أن كل ما كان سوى حلم مزعج راودني ليبين لي قيمة ما أملك.. ولكن صوت المعلمة ذاك كان كفيلاً في كل مرة بأن يمزق نسيجي الجميل..

 

(أنت ياللي هنا!.. قومي جاوبي.. ).. أقف منتصبة يهزني الخمول.. وأخلع ذلك النسيج عن عيني محاولة استراق النظر إلى ما خط على ذلك اللوح.. مدعية بأنني مستوعبة لكل ما كانت تقول.. ولكن ما تسأله قد استصعب علي (أنت وش اسمك؟!).... ترتسم على شفاي ابتسامة الدهشة.. وينحني حاجبي إلى الأسفل... (هاه؟!).. يتساءل داخلي.. (أنا؟!... ألا تعلم اسمي أنا؟!.. غريبة!!.. أنا من كان صيتها وصيت من كن معها ذائعاً في كل مكان.. وصدى أسمائهن يتردد على مسامع القريب والغريب.. أنا؟!.. ألا تعلم ما اسمي؟!.. وقبل أن أنطق بحرف يرد علي صدى صوت داخلي متردداً في جوفي.. بأنني لم أعد من اعتدت أن أكون..

 

كنت أحاول إقناع نفسي دائماً.. بأن ما أعيشه الآن أصبح ما يعد مدرستي.. وأن أياماً انطوت تحمل حياة سابقة.. وأيام فرشت تحمل حياة أخرى سأعيشها في كل يوم تشرق فيه شمس مكتوب في عمري على فناء هذه المدرسة.. (مدرستي).. كما يجب لها أن تكون.. ولكن الحقيقة تظهر دائماً... عندما كنت أتحدث مع إحدى الصديقات (مدرستكم نظامها غريب.. كنا في مدرستي غير).. وكأن اسمي لا يندرج بينهم.. أو حينما تثقل أذني بكثرة أحاديثهم المشوقة ولكنها تظل أحاديث.. أردف قائلة: (في مدرستكم تتكلمون كثير.. في مدرستي ما كنا نجلس)..

 

أتعلمين.. أوقفتني عبارة إحداهن يوماً.. (يبدو وأن كل يوم في مدرستكم كان مختلفاً عن سابقه!).. جرفني الحنين بعباراتها وأيقظ معانٍ, داخلي لم أكن أعلم بوجودها.. نعم.. أتذكرين كم كنت أمقت التغيب.. ليقيني بأن صفحة اليوم دائماً ما تكون أحرفها مختلفة عن حروف الأمس.. كل يوم كان يعنى بيومه في حياتنا...

 

كل شيء كان رائعاً.. لحظات ولحظات كانت تنقش على قلبي بذكراها.. دون أن أحس بها.. أو أحس بقيمتها.. ربما بسبب الاعتيادية التي تلونت لي فيها.. وتهيأت أمام ناظري.. وأصبحت أريد شيئاً واحداً.. تغييرها لعيش لحظات جديدة وحياة جديدة بكل معانيها.. أو ربما بسبب ذلك الطمع الذي كان يكبر في داخلي باحثاً عن الأفضل مما هو فيه.. دون أن يعلم أو يتقين.. بأن ما لديه.. هو الأفضل..

 

دائماً كنت أنادي قلبي الذي سكن الماضي.. طالبة منه عيش الحاضر.. ولو للحظة.. علّه يجيد التأقلم فيه.. يألف قلوباً تجري البهجة بين أوردته مرة أخرى.. فيردَّ عليَّ سارداً ذكريات تلك الأيام التي كانت لحظاتها ترمى خلف ظهورنا.. محسوبة من أعمارنا.. فيمتع أذني بها.. ولكن اشتياقي يضل واخزاً في داخلي ينغص علي تلك المتعة..

 

ألا تزالين تذكرين تلك الأيام جيداً؟!.. كم أتمنى أن تكون تلك الجدران لا تزال تردد أصوات أحاديثنا.. وتلك الزوايا.. لا تزال تحفظ صورتنا بين تصدعات جدرانها.. نعم... لن أتمنى أن أعود الآن لأحضانها.. لأنني أعلم بأن كل شيء لم يعد كما كان منذ تركته لآخر مرة.. ولكنني أتمنى أن أعيد عقارب الساعة إلى الوراء.. إلى تلك اللحظات ذاتها.. لأعيشها مرة أخرى.. كنت أعلم أن الحياة صعبة.. ولكنني الآن أيقنت أنها أصعب.. متى ما واجهتها وحيدةً..

 

نعم.. لا أزال أذكر ذلك اليوم جيداً.. بمرارة.. آخر يوم دراسي من أيام ذلك العام.. أتذكرين تلك الضحكة التي ظلت مرسومة على شفتاي منذ بدايته.. بحجة أنني لم أكن أريد أن أملأ اليوم دموعاً تعيدني إلى منزلي خائبة تثقلني الهموم.. ليس كنهاية كل عام.. أريد قضاءه بسعادة متناهية ليظل مشرقاً في كتاب ذكرياتي.. قد يكون ذلك صحيحاً.. ولكنني كنت أعلم في داخلي أن ذلك مجرد سعادة مصطنعة.. ربما لتوهمي.. بأنني وأخيراً.. سأتخلص من أثقل أيامي.. وسأحصل على ذلك المستقبل بحلته الجديدة.. أو ربما سعادة اختلقتها بمرور الأيام.. لأغطي بوادر جرح بدأ ينشق في داخلي.. وضعف من مواجهة ذلك الجديد والفشل فيه.. جرحٌ لم أكن أظن أنه سيختفي يوماً ما..

 

لا أزال أتذكر كيف طلبت منك عدم البكاء لتتبعي سياستي الجديدة التي اتخذتها نهاية ذلك العام.. وكعادتك أجبت بالانصياع لما كنت تعتقدين بأنه صحيحاً.. ومنطقياً.. ولكنني أظن بأن قلبك لم يكترث بذلك المنطق.. وظلَّ يذكرك ولآخر لحظة.. بأن ما يمر من حياتك الآن من لحظات.. هي آخر اللحظات.. وأن الأسطر التي يسجلها التاريخ والذكرى الآن.. هي آخر الأسطر الذي سيردف فيها اسمي مع اسمك بجانب بعضهما البعض.. نعم في نهاية ذلك اليوم.. لم أجدك.. أخذت التفت يمينا وشمالاً.. ولكنني لم أجدك.. كانت لحظات معدودة من البحث.. لا تزال صورتك مطبوعة في داخلي.. كنت قد اختبأت عن ناظري في أحد الممرات وانطويت ترسلين دموعاً لم تعد عينيك قادرة على إخفائها طوال اليوم.. وأسقطت تلك الضحكة التي فرضتها عليك.. بعد أن أصبحت ثقيلة على شفتيك.. كم كنت صغيرة حينها.. صغيرة الإحساس والعقل في تلك اللحظة.. برغم تظاهري أنني لم أكن كذلك..

 

إلا أن الأيام والتفكير كانت كفيلة بأن توقفني على تلك الحقيقة.. كنت تعلمين بأن كل شيء لن يبقى كما كان.. كل شيء سيختلف ويتبدل بعد ذلك اليوم.. ولكنني لم أكن أعي ذلك.. ببساطة.. ظننت بأنه وككل صيف.. سيعود كل شيء كما كان.. وكان ذلك الشعور بالطمأنينة.. يغطي ذلك الخوف والضعف طوال تلك الأيام..

حتى خطوت في هذه المدرسة ولأول مرة.. انقبض صدري.. وأحسست بأن نبضات ذلك القلب أخذت تتسارع.. وأنفاسي أخذت تقل شيئاً فشيئاً.. أحسست بأن كل ما حولي توقف.. الزمن.. الناس. وحتى عمري.. أو هكذا بدا لي..

 

 لا زلت أذكر كيف ظللت أياماً أخادع نفسي.. بأنه هذا هو المستقبل الذي كنت أنتظره.. وأن ما أحس به مجرد أوهام.. ولكن الأقنعة كانت ثقيلة لدرجة أنها سقطت ولم يعد هناك ما يحول بيني وبين الواقع الذي بتّ أعيشه.. نعم.. يظل الإنسان يحقر ما لديه.. ويطمع في المزيد.. لأن مخيلته تبقى تنسج له عالم أفضل وأكمل.. فيصغر ما لديه.. ولا يحس بقيمة ما يملك.. حتى يفقده...

 

ربما يصيبك التعجب من صيغة الماضي التي سبقت بها عباراتي.. ولكنني أردت أن أخبرك.. بأن الأيام أخذت تسجل ذكريات رائعة في صفحات كتابي رغماً عني.. أردت أن أخبرك بأن قلبي قد قرر وأخيراً أن يجرب حياة الحاضر.. وقد أجاد التأقلم فيها نوعاً ما.. فقد ترك الماضي مكاناً دافئاً يلجأ إليه متى ما حل شتاء الحنين والاشتياق..

 

 نعم.. لم أعتقد يوماً أن يتلاشى ذلك السواد الذي كان مخيماً على جميع أرجاء ما حولي.. فقد عرفت أنه لم يكن سوى دموعٍ, تجلدت في عيني.. وزالت مع مرور الأيام...

 

أردت فقط أن أخبرك.. بأنك لا تزالين ذلك المعنى الجميل في حياتي.. ذلك المعنى الذي يخالط أحلامي وواقعي في كل يوم من أيام عمري.. وأتمنى أن أعود لأعيش لحظة من تلك اللحظات.. لأبين لك عندها كم تعنين لي..

وستظلين يا صديقتي نصفي الآخر.. وكل ما خادعني اشتياقي بأن صورتك بدأت تختفي من داخلي.. أغمض عيني وأرحل حالمة إلى مكان حيث أعلم أنك ستكونين فيه.. دائماً..

 

أردت أن أخبرك بأني لا أزال تلك الوردة التي تجيد العيش في أية بيئة.. وإنما لم يكن عليَ سوى أن أمد جذوري قليلاً لأن المياه لم تكن تبعد عني سوى أشبار معدودة.. ومهما سجلتّ الأيام من ذكرى ومهما كانت رائعة.. فستسجلها في صفحات أخرى.. تحت عنوان آخر..

 

كل هذا ليس لأنني وصلت إلى الأفضل الذي كنت أبحث عنه.. إنما لأني خشيت أن أمقت الحاضر وأعشق الماضي.. كما كنت أعشق المستقبل سابقاً..أخشى أن أظل أتمنى الأمس أن يكون غداً متجاهلة اليوم وما يحمله من معاني..متناسية بأنه بعد كل أربع وعشرين ساعة.. يكون اليوم أمساً.. سأتمنى كونه غداً يوماً ما..

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply