من قصص البطولة والفداء


 

بسم الله الرحمن الرحيم

سناء سلمة ابنة الأسير أبو علي..

 

سناء حسن سلمة ابنة الأسير أبوعلي سلمة والذي ما زال يقبع في سجون الاحتلال منذ خمسة وعشرين عاماً تعيش آهات وآهات... آمالاً وأوجاعاً... فرقة وحنيناً... غربة وأشواقاً...

يقول عنها المواطن فؤاد خفش من قرية مردا وزميل ابنة الأسير أبو علي في العمل: سناء سلمة فارسة حكاية نسجتها الحقيقة وسجلتها الأيام والسنون بحلوها ومرها وصاغها قلم سمح لنفسه أن يتسلل ويغوص في خلجات فكرها فحار الفكر وصرخ القلم. أي الأبطال هذه وأي النساء؟ إنها من حفيدات خولة والخنساء وشقيقات عائشة وسمية...

 

ألم الاعتقال

ويضيف خفش الذي ذاق ألم الاعتقال مرات ومرات: سناء سلمة والتي مضى من عمرها خمسة وعشرون عاماً وهي نفس مدة اعتقال أبيها خرجت للدنيا هي وشقيقها التوأم (علي) لتتلقفهما يد أب حنون حان مدة سبعة عشر يوماً فقط لم يستطع الأب خلالها أن يحفظ معالم وجه ولديه ولا استطاعت البنت وأخوها أن يدركا حنان الأبوة.. سبعة عشر يوماً وإذا بشذاذ الآفاق قتلة الأنبياء سارقي الفرحة والبسمة، يحاصرون المكان ويعتقلون الفارس ويحكم عليه بالمؤبد ويبقيا بحضن أم حنون جمعتهما إلى صدرها لعلها تعوضهما القليل...

وتمضى الأيام وتسير ولا يدري أحد ماذا يخفي له الزمن.. تمضى الأيام بحلوها ومرها ويكبر الصغار رويداً رويداً وتتحمل الأم المجاهدة ألم الأيام وقسوة السنين ولؤم الدهر وبعد الزوج وكبر المهمة وصعوبة الحياة.. سلاحها في ذلك أمل بالله.. وإيمان زادته الأيام صلابة وثبتته العقيدة.. حاولت أن تعوض الأبناء بعد الوالد الأسير.. راقبتهما يكبرون أمام ناظريها... زادت أسئلتهما عن أبيهما وعن موعد العودة واللقاء... زرعت فيهما حب أبيهما وحب الوطن.. علمتهما أن أباهم ما هان يوماً ولا استكان وأنه كان أول من لبّى نداء القدس والأقصى فارفعوا الرأس بأبيكما يا صغيريّ.

 

أشواق وخيال

المواطن خفش يصف حياة سناء: لكن ذلك اليوم تأخر، وتكبر سناء و تتاح لها الفرصة للعمل بوزارة شؤون الأسرى والمحررين وتحديداً في دائرة الأسرى، تتحسس معاناتهم وتشعر بآلامهم ومن أكثر منها شعوراً بألم هؤلاء وهي التي لم تر والدها إلا من وراء القضبان ولم تسمع عنه إلا من قصص الأم الحنون فرسمت له صورة تألقت على تألق النجوم واستقرت هناك في الجوزاء حيث نواصي الرجال الرجال.

قد قالوا قديماً: كل فتاة بأبيها معجبة والحق كل الحق لسناء أن تعجب بأبيها الذي ما زال قابعاً في سجون الاحتلال منذ خمسة وعشرين عاماً صابراً محتسباً.

 

اللقاء المرتقب

أما عن زيارة سناء لوالدها يقول الخفش: لم تر والدها منذ خمسة أعوام بسبب الانتفاضة والمنع الأمني شاء لها الله أن تزور أباها بعد أن أبلغها الصليب الأحمر أنها حصلت على تصريح لزيارة والدها.. لم تكن الفرحة لتسعها.. لم تنطق ببنت شفة.. تضحك وتبكي في آن واحد تشكر الله رافعة أكف الضراعة ثم تعود لتبكي وتضحك وتبكي كل من حولها.. وبسرعة وبكلمات متقطعة تتساءل عن موعد الزيارة فقيل لها بعد أسبوعين.. فردت أسبوعين يا لها من فترة طويلة أوَ أستطيع أن أنتظر أسبوعين والله إنها لفترة طويلة وبدأت تعد الأيام ويا لصعوبة الانتظار ويا لطول الأيام والليالي...

ومضت عقارب الساعة ببطء شديد وفي كل يوم يزداد الشوق ويزداد الحنين واللهفة.... اللهفة لرؤية والد رسمت صورته في الذاكرة من خلال صورة اعتادت على رؤيتها في لباس واحد ولون واحد هو اللون البني ويأتي ذلك اليوم وفي جعبته ألف موضوع وموضوع وألف سؤال وسؤال....

يقول الخفش الذي رافق مشاعر سناء في الزيارة بعد انقطاع دام أكثر من خمس سنوات: تزدان سناء وتلبس أجمل ما عندها وتستعد للسفر الطويل من رام الله إلى عسقلان ويا لها من مسافة طويلة لشخص يتحرق شوقاً لرؤية والده الأسير الذي لم يره منذ خمس سنوات وتصل إلى عسقلان بصحبة الجدة التي أتعبتها الأيام ببعد فلذة كبدها وابنها الكبير، تتخطى حواجز التفتيش وتمر عبر الإجراءات الأمنية المشددة لا تفكر بشيء إلا بصورة الوالد الحاني تنتظر خلف شباك الزيارة الزجاجي وتمسك بيدها سماعة الهاتف التي ستسمع من خلاله صوت أبيها.

 

تنهمر الدموع

ويخرج الأبطال من غرفهم إلى شباك الزيارة في تلك الأثناء لم يكن يعرف أبوعلي سلمة أن سناء بانتظاره، ولم يكن يتوقع رؤيتها وما هي إلا لحظات مرت على سناء كعام كامل حتى خرج الوالد يحمل على كاهليه خمسة وعشرين عاماً من البعد والألم والشوق والحنين ينظر ويبحث في عينيه عن زائرة فإذا هي سناء.. يقف أمامها ليصرخ بصوت عال سناء.. ابنتي، فترد عليه أبي.. وينقطع الكلام لتذرف الدموع وهي التي كانت قد أقسمت لنفسها لا تبكي أمام أبيها... لتجد نفس الدموع قد انهمرت على وجنتي أبيها الذي حاول جاهداً أن يمنعهما من البكاء دون جدوى. وتتحدث العيون لتقول سناء: لقد اشتقت لك يا أبي لتحتضنني لترد عليها دموع عيون أبيها قائلة: لقد كبرت يا سناء...

وعن ألم الزيارة يضيف قائلاً: تتنهد الجدة بآه حرقت قلب أبو علي ليقول لأمه: إن آهك يا أماه أصعب من خمسة وعشرين عاماً قد مضت خلف هذا السجن.. تتأمل سناء أباها بعمق وانفعال لتجد تضاريس وجهه قد غيرتها زنازين عسقلان ترى بين تجاعيد وجهه ألماً وأملاً وتجد في بريق عينيه نظرتين الأولى اشتقت إليك يا بنية والثانية سامحيني لأني ابتعدت عنك كل هذه السنين... شعره الذي ازداد شيباً فيه كل الحكاية... حكاية من غيبوا، حكاية من أعطى الوطن بدون انتظار لأي مقابل: حكاية الصبر والصمود والتضحية والفداء.

تلملم سناء نفسها وتمسح دمعها وتشد همتها وتحاول جاهدة أن تبتسم لتسأله: كيف حالك يا أبي؟ فيرد الأب قائلاً: الحمد لله مهما استطال البلاء ومهما استبد الألم.

ويسارع الأب للسؤال: كيف حالك يا سناء لقد كبرت وتغيرت كثيراً؟

فتقول له: الحمد لله أنا وأمي وأخي والجميع بخير المهم أنت فيتنهد قائلاً الحمد لله.

وتمر ساعة الزيارة بسرعة البرق ويأتي الجنود لإخراج الأسرى تنظر إلى ساعتها بسرعة مستغربة هل انتهى الوقت؟ فيرد الوالد الأوقات الجميلة تمر بسرعة.

ويودعها أباها قائلاً:

بنيتي أنت البدر في غسق الدجى *** بنيتي أنت عدوّة الطغيان

شرف الفتاة بعلمها وعفافها *** وصلاحها بتلاوة الفرقان

دوسي على نهج يحارب ديننا *** وتمسكي بشريعة المنان

فترد عليه قائلة:

لله درك ما نسيت رسالة *** قدسية ويداك في الكلاب

أفديك ما رمشت عيونك رمشة *** في ساعة والموت في الأهداب

وفي نهاية الرحلة يقول الخفش: تمضي سناء ويمضي أبوها ويسيران والكل ينظر للآخر، وتركب الحافلة وهي تفكر بأبيها وبلحظات الزيارة وتصل البيت لتجد الجميع بانتظارها يسألون بلهفة عن حال الوالد والزوج والأخ فتجيب بصوت منخفض: هو بخير وتدخل مسرعة غرفتها تصارع النوم الذي أبى أن يريحها وتتسارع إلى ذاكرتها أسئلة وأسئلة لم تجد من يجيب عليها: حتى متى سيبقى أبي وإخوانه الأسرى في السجون؟ حتى متى سيبقى نائل وفخري والقنطار وأبو علي تحت رحمة سجان لا يرحم؟ أسئلة تسأل تنتظر من يجيب...

فإليك يا الله أشكو همي وشوقي لأبي فعجل له ولإخوانه بالفرج.. ثم غطت في نومها.. لكن الحكاية لم تنته.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply