الهروب إليهم


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 (1)..الجبال الشاهقة تمتد على طول الطريق.. والفتى الصغير يمشي متعباً.. يحمل على ظهره كيسه الصغير.. وفي الكيس كسرة خبز جافة وشيء من الملح.. كانت الملابس ممزقة ولكنها نظيفة.. وقد شد وسطه بحزام، استقر فيه خنجر كبير.. وعلى رأسه عمامة ملتفة بإحكام.. أما قدماه الصغيرتان فلم تعرفا معنى الحذاء.. وفي نظراته عزيمة وقوة.. وكانت تلك النظرة الحادّة تميز جميع أفراد أسرته.

تابع طريقه في صمت وهو يفكر.. الأطفال في هذه البلاد يبدون أكبر من أعمارهم.. وسنيّه العشر لم تكون عائقاً له عن الهجرة.. نظرة أمه وهي تودعه استقرت في ذهنه، وأوقدت عزيمته، وهي تقول له: \"يا بني كن رجلاً واضرب في الأرض.. لا ترجع إلينا\".. كانت الحياة صعبة في تلك البلاد.. وبالرغم من خصوبة الأرض وتوفّر المحصول.. إلا أن اليتيم لا يستطيع أن يحصل على شيء منها.. وسيعود يوماً ليشتري كل شيء منهم.. وليطعم أمه.

- يا علي.. إلى أين تذهب؟ ناداه شاب من قرية مجاورة.

بدا علي منشغلاً تماماً.. لم يلتفت إليه وتابع الطريق.. وفي نقطة في الأفق.. اختفى الصغير.

(2)...المدينة كالبحر، تموج بأهلها.. يدخل الصغير من بابها ويمشي يلتفت إلى كل شيء.. المنازل الجميلة.. الطعام يُباع في كل مكان.. أشكال الناس المختلفة.. هذا أبيض، هذا قمحي، هذا أسمر، وهذا أسود.. الأسواق مليئة بالبضائع.. كل شيء متغير.

إلى أين سيذهب.. لا يعرف أحداً في هذه المدينة.. توجّه إلى المسجد، ودخل يتلفت إلى الأعمدة العثمانية.. والنقوش الإسلامية.. أخذته الدهشة مما رأى.. وجد لنفسه مساحة صغيرة فوضع كيسه الصغير بين رجليه.. ثم أسند رأسه إلى ركبتيه، وأخذ ينظر إلى الناس.

- مرَّ به رجل عجوز وأخذ يتأمله.. ثم مشى باتجاهه.. وبلهجة فيها لكنة إفريقية سأله: أنت غريب؟

- نعم.

- من أين جئت؟

- من الجبال الشاهقة.. هناك في أقصى الجنوب.

- هز العجوز رأسه.. وهل أهلك معك؟

- لا.. أنا وحيد.

- وأين ستمضي ليلتك..

- …

- الله المستعان.. تعال معي يا بني.. هل تريد أن تعمل أجيراً لديّ؟

- نعم.. أوافق.

- إذاً تعال وأجرك هو طعامك ومبيتك.

(3) \"كن رجلاً يا بنيّ حتى تعيش\".. لا تزال كلمات أمه تطنّ في أذنيه.. وشاهد من قسوة العجوز والناس أصنافاً عديدة.. ولكن لابد أن يكون رجلاً ليكسب قوته.. وتمر السنين.. ويشب الطفل وتحتاج نفسه إلى الاستقرار.. ويفكر في الزواج.. ويجد فتاة من قومه، ولكن من قرية أخرى ويعقد القران.. كان للبيت الجديد تكاليف وأعباء. ولكنها لم تكن كثيرة.. غرفة بفناء.. وغرفة خارجية للضيوف، ويكفي.. ولتوفير نوع من الرفاهية وفّر من المال مبلغاً واشترى به معزة ومنها كان يأخذ الحليب. وبدأت تتكون أسرة صغيرة.

(4) ازدهرت الدنيا.. وكبر عليّ وأصبح رجلاً والأسرة كبرت معه.. وتوسّعت أعماله وأخذت تجارته تدرّ عليه أرباحاً كثيرة لم يكن يحلم بها.. وبدأ يتفقد القادمين من بلاده وتعرّف على بعضهم.. كان يفكر في أمنيته.. وفي الذين أخذوا أرضه، وأنهم لابد أن يبيعوا أرضهم له من جديد.. وكلما وجد رجلاً من قبيلته أغراه بالمال واشترى منه.. وعرف أهل قريته أن علي الصغير أصبح مالكاً للبلاد كلها، ولكن قليل منهم عرفوا مكانه، وهؤلاء كانوا يعقدون له الصفقات. وخوفاً عليه من غضب قومه ومكرهم تخفّى وغير الكثير من العادات التي يعرفونها.. وأصبح منشغلاً بين تجارته وبيته.

- يا علي.. إذا كبر أولادك سيذهبون إلى الأرض من جديد.

- لا.. أبنائي ليسوا بحاجة إليها.

- ولكن سيحنون إلى بلدهم يا علي.

- لم يحن إليها أبوهم وقد عرفها.. فكيف بهم وهم يجهلونها؟!

- أبناؤك أحرار يا علي.. والجذع يحن لأصله.

- لا عليك.. هم لا يعرفون حتى اسمهم الحقيقي.

- النسب لا يضيع.. وسيرجعون ذات يوم.

وهكذا تمضي الأوقات.. الناصحون يذكرونه.. وعلي لا ينسى جرحه وهو صغير.

(5) البيت متأثر كثيراً بفراق الأب.. لقد رحل وتركهم.. والموت لا يعرف أحداً.. لقد تخطّف الجميع ولم يبق إلا هو.. كل أولئك الذين رافقوه في غربته رحلوا.. وهاهو اليوم يرحل في إثرهم.. لقد مات علي.

كانت زوجته تفكر في قلق في ابنها البكر \"ريمي\".. لقد بدا متغيراً عن إخوته.. شخصية لا تعرف الاستقرار.. ومن عينيه تشعّ أنوار العزيمة.. يشبه أباه في غضبه.. ويشبه أمه في تسامحه.. كان محبوباً، ولكن مهيباً.. لا يعرف معنى المستحيل.. شجاع إلى حدّ التهور.. تجري في عروقه دماء الجبال.. وعقدة بين عينيه يُعرف من خلالها مدى غضبه.

- ريمي.. هل ستقوم بتجارة أبيك؟

- نعم يا أماه.. ولكنني كنت أفكر منذ زمن في أمر يشغلني.. أريدك أن أستشيرك فيه.

- ماهو يا بني؟ هل ستتزوج؟

- ضحك ريمي في سعادة.. لا يا أماه.. لقد ألقى الله في قلبي بغض هذا الأمر.. ولكنني أريد أن أعرف كل شيء عن أبي.

- أبوك.. ؟! ألا تعرفه يا بني.. ؟!

- أعرف أن اسمه علي.. وأنه كريم وشجاع.. ولكن لا أعرف الكثير.

لقد كانت تتوقع أن يحدث هذا ذات يوم.. والسؤال عن النسب سيعقبه السؤال عن المكان.. ومعرفة المكان تعني الرحيل.. ولكن أقدار الله كانت فوق كل شيء.

(6) لقد عرف ريمي الحقيقة.. وكانت النتيجة تغيّر الكثير من أفكاره وهمومه.

- يا ريمي.. ألا ترحم نفسك؟!

- رفع ريمي رأسه بهدوء ونظر إلى أمه.. ابتسم لها ولم يردّ.

- ماذا تنوي أن تفعل في نفسك؟

- لا شيء.. لابد أن أسافر.

- ولكن هذا خطر عليك يا بني.

- لا يقع إلا قدر الله.

- لماذا أنت فقط تريد ذلك.. انظر إخوانك..

- أشار ريمي بيده.. هم إخواني من أبي.. أخوالهم هنا.. ولكن أنا.. كل أهلي هناك.

- سيقتلونك يا بني.

- لا يا أماه.. لن يحدث شيء بإذن الله.

أصبحت حياة الاثنين في عذاب.. الأم تبكي خوفاً على ابنها الذي سيذهب لحتفه.. والابن لا يعرف طعم الراحة منذ أن عرف أن له أهلاً وعشيرة.. والأخ الآخر صامت لا يرد.. هو يوافق أخاه.. ولكنه خائف على أمه.. أما البقية فانشغلوا بدنياهم.

(7).. النجوم تلمع تماماً كما تلمع ذكرياتنا لبعض الأشخاص في حياتنا.. بدأ ريمي مشوار البحث المتعب.. وأخيراً وصل إلى ضالته، شيخ كبير طاعن في السن، لا يتذكر الكثير.. ولكنه كان دائماً ينادي ريمي بكلمة غريبة، أدرك فيما بعد أنها فخذه الذي إليه ينتمي. وجده شبه منسيّ إلا من امرأة عجوز تقوم على شأنه.. ولم يضع الوقت فقد ذهب إليه مباشرة.

- هذا أنت إذاً.. ابن الريمي.

- نعم يا عم.. هل تذكرت أبي جيداً؟

- نعم أذكره.. كان رجلاً قوياً - يرحمه الله -.. أظن أنك ستكون مثله أنت وأخوك الأصغر.

- …

- جميل يا بني أن تذكر أصلك وتحنّ إليه.

- حدثني عن أبي يا عم.

وبدأ الجد في الحديث عن بلاد البن والأرض الخضراء.. عن السهول الجاثمة في الأسفل على امتداد النظر.. وعن الجبال التي تعيش فوقها الصقور.. وعن المنازل التي تعانق السحاب.. وعن القمر المنير داخل كل حجرة.. عن الطيور والحيوانات.. عن الصخور والأشجار.. كان الحنين في كل شيء.. وقطرات الدم تمتزج بالعرق.. والعيش القوي يرافق الصدق والمحبة.

نسي ريمي ألمه.. لم يعد ينظر لمن ظلم أباه بكراهية.. شعر برغبة في التسامح.. الجوع دفعهم لكره بعضهم.. وكل رجل أراد لأبنائه حياة كريمة.. عاد لأمه في تلك الليلة مبتسماً، وفرحت لفرحه.. ولكنه يوم أن خلا بنفسه بكى كالأطفال.. وتوهّم نفسه يجري في شوارع القرية.. ورأى نفسه يرعى الأغنام في جبالها..ويقطف الثمار من أشجارها..ويرتوي من عيونها.. يتمدّد فوق الصخور والمراعي.. ويصلي في كل مساحة من أوديتها. التفت للمدينة مودعاً، وهو يقول:لطعنة في صدري، في عزٍّ, بين أهلي.. أحبٌّ إليّ من قصر ونعيم في غربة وذلّ.. وسار عائداً إلى قومه من نفس الطريق الذي جاء منه والده.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply