اللهم لا تمته في بلاد الكفار


 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

كان الولد الثاني لأبيه وأمه، فرح به والداه فرحا لا يوصف، وكيف لا وقد أتاهما أخ لمحمد يكون عضدا له في الكبر، ومسليا له في الصغر، يلعبان معا في سن الطفولة، ويذهبان لمساعدة أبيهما في حقله القريب من القرية عندما يكبران، فهناك في القرية الولد يشد به الظهر في كل شيء.. هكذا يقولون وهكذا يؤمِّلون.

زغردت الجدة عند ولادته وذبح أبوه عقيقة، وأذَّن في أذنه اليمنى، وأقام الصلاة في أذنه اليسرى، وتصدق بوزن شعره فضة، أما الجد فقد صنع القهوة العربية استعدادا لاستقبال المهنئين.

كذلك أمه، فقد كانت الابتسامة الجميلة تعلو فمها ولا تكاد تفارقه، لقد تحقق حلمها، فالولد في قريتهم إذا لم يرزق باخ تظل الحسرة والألم يعتلجان في نفس والداه، وها هو حسين يكبر يوما فيوما، وعينا الأب والأم ترقبانه، ولا تكاد تصدقان وجوده ووجود أخيه إلى جانبهما.

ويشتد عود الصبي عاما بعد عام، ودعواتٌ بحفظ الله، من الجد والجدة تنهمر عليه، وعلى أخيه محمد، كوابل المطر.

وكلما كبر حسين وأخوه محمد عاما كانت الحالة الاقتصادية للأسرة تزداد سوءاً. ولم تكن هذه حال أسرة والد حسين وحده إنما كانت جميع الأسر تقريبا تعاني من هذا الشبح المخيف، فالبلد كان مستعمرا، والاستعمار لا يحمل إلى الشعوب إلا الفقر والمرض والخوف والدمار. وها هما الجد والجدة يفارقان الحياة بعد ولادة حسين بعقد من الزمان، وذلك في زمن لم يكن بالبعيد بينهما.

لم يبق في البيت منتجاً إلا الوالد المسكين الذي تقدم به السن حيث كان يخرج لعمله في الحقول في أماكن أخرى في الصباح الباكر، ولا يعود إلا عندما يهبط الليل بظلامه...

كان حسين ينظر لأبيه نظرة إشفاق، لم ترق له هذه الحالة البائسة... أخذ يفكر ويفكر بطموح الشباب وهمته لتخليص الأسرة مما تعانيه، سمع بأن شباب القرية يحزمون أمتعتهم للسفر إلى الأرجنتين للعمل هناك... لا شك أنهم مثله تعاني أسرهم من ضيق العيش ونكد الحياة... سأل عنهم... التقى بهم... استأذن أبويه للذهاب معهم... بكى أبواه وبحرقة شديدة... نزلا عند رغبته في نهاية المطاف...

انطلق حسين مع أقرانه إلى تلك الديار النائية وهم يظنون أنهم سيدفنون الفقر ويرجعون بالثراء إلى أرض الوطن ... هذا يحلم بالزواج.. وذاك يمني نفسه بالغنى... وآخر يعتقد أن هذه الرحلة ستخلص أسرته من فقر مدقع عانت منه طويلا...

خرج أهل القرية الصغيرة القابعة شرقي دمشق لوداع القوم... كانت الدموع تنهمر من العيون كالسحب المحمَّلة بمطر غزير، وها هم الشباب يركبون الحافلة وينظرون من وراء النوافذ إلى ذويهم وعيونهم حزينة وقلوبهم تكاد تنخلع من جسومهم، وألسنتهم تحوقل... وأيدي الجميع تلوِّح بالوداع.. وتمضي الحافلة في طريقها إلى الساحل لتقذف بهم هناك... ويرجع القوم إلى بيوتهم والألم والحزن يعتصر قلوب الجميع...

ويعود أبو حسين وأمه ليعيشان وحيدين مع ابنهما محمد الذي طالما حلما بأخ له.. رجعا وهما ينتظران عودة حسين من أول يوم ودعاه فيه... وها هما في انتظار ساعي البريد ليحمل لهما رسالة يطمئنان بها عنه... وها هي رسالة مسجلة من حسين تصل إليهما بعد عام تحمل بعض النقود التي لا تكاد تسد الرمق... يطمئنهم فيها عن صحته ويشكو فيها من قلة العمل وشدة المعاناة، ويعبِّر لهم عن ألمه لعدم وجود مسجد في تلك الديار... قال لهم أن أذنيه اشتاقا لسماع صوت مؤذن القرية الذي كان يقرع مسامعه خمس مرات في اليوم. كانت هذه الرسالة الأولى والأخيرة... وبعدها انقطعت أخبار حسين إلا من خبر يحمله بين الفينة والأخرى أحد أهالي أولئك المغرَّبين.

وتمضي السنون وأسرة حسين في هم وغم... وشعرت الوالدة والوالد بأن العمر يتقدم بهما دون أن يريا فلذة كبدهما، فكانا لا ينسيانه من دعائهما بعد كل صلاة...كان لسان الأم المسكينة كل يوم يتمتم بهذا الدعاء:( اللهمº لا تُمِت ابني حسين في بلاد الكفار )... فقد كانت تخاف على ابنها من الكفر أكثر من كل شيء..

وبعد مدة تزيد عن الثلاثين سنة ونيف من سفر حسين تموت الأم الثكلى.. ويتبعها الأب المسكين بعد عدة سنوات دون أن يعرفا عن مصير ابنهما شيئا... لم يبقى في البيت إلا محمد الذي كان يعاني الكثير من حرقة على فراق أخيه وضنك العيش .. لكن أحواله المادية أخذت بالتحسن عندما أصبح أول رئيس بلدية القرية وكبر أولاده واخذوا بمساعدته... وها هم أولاده يشيدون بناء جميلا على الطريق العام يعجب الناظرين إليه... وها هو يقترب من الثمانين.. يجلسه أولاده في الصباح والمساء أمام الدار على كرسي خشبي مخصص له... وقرانه إلى جانبه يقرأ منه ما تيسر... وبينما هو غرق في قرانه وذات يوم إذا برجل ممشوق القامة، في السبعينات من العمر... أبيض الشعر... يقف أمامه ويقول بلكنة أعجمية: السلام عليكم ورحمة الله .. أهلا وسهلاً... صبَّ له فنجان قهوة من الإبريق الذي كان يتربع بجانبه وطلب له كرسياً، جلس الرجل على الكرسي:

- هل صحيح أن هذا بيت محمد بن قاسم؟

- نعم هذا هو بيته.

- هذا بيت جديد، إنه ليس بالبيت الذي كان قديما.

- نعم، لقد هدم ذاك البيت وبني مكانه هذا البناء.

- أين صاحب البيت؟

- أنا هو.

- أنت من؟

- أنا محمد بن قاسم....

- وأين والدك ووالدتك؟؟

- لقد ماتا منذ زمن بعيد.

- أطرق الرجل ولم يعد يرفع رأسه.

- لماذا هذا السؤال؟ وهل تعرفهما؟

- نعم، وكيف لا، إنهما أبواي وأنت أخي.

- إذاً أنت حسين.

- نعم أنا حسين.

ترك محمد كرسيه، وقام كل منهما إلى الآخر يعانقه، وأخذ محمد يصرخ بأعلى صوته، يا قاسم يا حسين... تعالوا: هذا عمكم حسين... تعالوا سلموا عليه. أتى الأولاد والأحفاد مسرعين... أخذوا يعانقون ضيفهم الذي سمعوا عنه كثيرا وتمنوا لو أنهم رأوه. وفي وقت قصير تجمع أهل القرية عند المهاجر القادم للسلام عليه... أخذ الجميع يتحدثون معه ويتحدث معهم بعد غياب دام أكثر من خمسين عاما... كان يجيب على أسئلتهم بلكنته التي حملها معه من بلاد العجم... وكثيرا ما كان يعتذر عن الإجابة لأنه لم يكن يفهم السؤال. كانت أسئلة أهل القرية عن حاله وحال زوجته وأولاده وأمواله وكيف تركهم ولماذا؟ وهل سيلحقون به؟.. كانت إجابته واحدة: لقد تركتهم جميعا هناك وأتيت لأموت في ديار المسلمين. على شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله...

بعد فترة من الزمن أخذا أولاد أخيه يعيدون إلى ذاكرة عمهم قصار السور التي كان يحفظها من قبل ويصطحبونه معهم إلى المسجد الذي طالما حنّ إليه... وها هو يشعر بسعادة غامرة عندما يسمع الأذان الذي طالما حنت إليه أذناه...

وتجئ اشهر الحج ... وذلك العام... ويعرض عليه أولاد أخيه الذهاب مع الحجاج للديار المقدسة بعد أن وضحوا له الأجر الذي أعده الله للحجاج... ويستجيب للعرض ويركب الطائرة. ويشرع المهاجر العائد بأعمال الحج حتى إذا كان يوم عرفة.. فاضت روحه هناك إلى بارئها... ودفن في مكة وصلى عليه خلق كثير... وبقيت دعوة أمٍ, تقرع أسماع الناس في تلك القرية (( اللهم لا تمته في بلاد الكفار)).

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply