محمد أسد .. ورحلته من اليهودية إلى الإسلام


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

قليلون أولئك الرجال الذين تركوا بصماتهم ساطعة على جدار التاريخ البشري، وقليل ما هم أولئك الرجال الذين أثروا الحقيقة برغم زخرف الدنيا وبهرجها، وخاضوا غمار الحياة ببؤسها وشقائها، مضحين بكل غالٍ, ونفيس في سبيل هذه الحقيقة التي عشقوها، حتى أصبحت وإياهم شيئاً واحداً، وأصبحوا لا يرون الحياة إلا من خلال تلك الحقيقة التي جعلتهم مغامرين من الطراز الأول، مغامرة تكاد تكون لغرابتها ضرباً من الخيال الجامح.

هو \"ليوبولد فايس\" أو كما أسميناه \"سلمان الغرب\" بل \"محمد أسد\" نمساوي من أصل يهودي ولد عام 1900م، في مقاطعة (لوو) الألمانية حالياً، لأسرة يهودية محافظة على معتقداتها الدينية، بل خرج منها عدد من حاخامات أوروبا الشرقية، وكان ليوبولد ثالث ثلاثة لأبيه، وكان أمل جده أن يكون حاخاماً.

درس التوراة، بل حفظها حفظاً أعانه فيما بعد على إجادة العبرية بطلاقة، وكذا الآرامية أيضاً، وإلى جانب هذا فقد درس في المدارس النظامية في البلدة، فكان ذكياً تتقد فيه ألمعية حادة ظهرت من خلال ميله الشديد للأدب والفلسفة والتأريخ، مع أن والده كان يريد منه أن يكون عالماً فيزيائياً كبيراً، ولكن شاء الله غير ذلك.

كان \"فايس\" الشاب الصغير ميالاً إلى الفنون الجميلة التي كان قد اتجه لدراستها في جامعة المدينة، إلا أن طموح الشاب الجامح كان يراوده في اعتلاء صهوة المجد بأي طريق، فخاض أولى مغامراته وهو في سن 14سنة من عمره (عام 1914م) مع بداية الحرب العالمية الأولى، فأراد أن ينخرط في سلك الجندية لعله يحرز بعض المجد في ذلك، ولكن شرط الثماني عشرة سنة وقف حائلاً دون ذلك، فطُرد من الجيش، وبعد تأمل طويل رأى أن الصحافة هي أقرب الطرق إلى المجد، فقرر السفر إلى (برلين) خفية عن أبيه الذي كان يريد منه أن يتم دراسته الجامعية، وهناك في برلين ابتدأ \"ليوبولد\" سلسلة من المغامرات صادفه الحظ في إحداها بأن يقتحم عرش صاحبة الجلالة ليصبح بذلك صحفياً شهيراً ملأت شهرته الآفاق.

 

رحلة إلى الشرق

في عام 1922م واتته فرصة ثمينة، يمم وجهه فيها نحو المشرق بدعوة لزيارة القدس مع أحد أقربائه هناك، وما أدراك ما هناك؟ حيث كان ل\"ليوبولد\" موعد مع الشرق، الذي عاش فيه متنقلاً بين كبريات عواصمه كالقدس، القاهرة، دمشق، عمان، بغداد، إسطنبول، مكة، المدينة، كابول ونيودلهي، متجولاً بقلبه قبل جسده، لقد رأى السكينة والوقار، رأى الهدوء، رأى الوجوه المبتسمة الراضية بحالها المقتنعة به، لا تلك الوجوه الكالحة العابسة، التي اعتاد رؤيتها في الغرب البائس، رغم ما تنعم به من ثراء فاحش.

لقد مكث ليوبولد في الشرق أربع سنوات مراسلاً لكبريات الصحف الغربية ومن خلال عمله كصحفي تعرف إلى الكثيرين من أعلام الشرق آنذاك (علماء، سياسيين، ومفكرين) كان على رأسهم شيخ الأزهر مصطفى المراغي وملك الأردن عبد الله (الأول) وشيخ السنوسية المقيم في المدينة الشيخ محمد السنوسي والشيخ المجاهد عمر المختار وفيلسوف الإسلام الكبير محمد إقبال، فعقد معهم صداقات حميمة، وخلال تلك السنوات الأربع التي قضاها في الشرق بين جباله ووهاده، وقفاره وبحاره، راجلاً أو راكباً، مغامراً في أحيان كثيرة، كثيراً ما رأى فيها الموت المحقق كان قد اندمج مع هذا العالم اندماجاً كلياً لا انفكاك له.

 

التحول الكبير

بعد رحلة طويلة شاقة وشائقة طاف فيها أطراف العالم الإسلامي المترامية، عاد عام 1926م إلى \"برلين\" بعد أن أحرز شهرة صحفية ملأت الآفاق، وهو لم يتجاوز السادسة والعشرين من عمره، إلا أن هذه العودة لم تكن لأجل تلك الشهرة التي حققها، فعاد لينعم بها، لكنها كانت عودة لتصفية حساباته القديمة، مع ذلك الغرب البائس ليرحل عنه وإلى الأبد، إلى ذلك العالم الذي وجد فيه دفء الإيمان وبساطة الإنسان، إلى ذلك العالم الذي اكتشف فيه ذلك السر العجيب الذي يسكن في نفوس أولئك القوم فيملؤها سعادة تتدفق مع تلك الابتسامات البريئة على شفاههم، ففي نفس هذا العام حدث التحول الأكبر في حياته باعتناقه الإسلام، وتغير اسمه إلى \"محمد أسد\"، وفي نفس هذا العام تزوج من تلك الفتاة التي أحبها \"إلسا\" كان محمد أسد وقتها في السادسة والعشرين من عمره، بينما كانت زوجته في الأربعين!

 

نحو النور

في عام 1926م بعد اعتناقه الإسلام قرر أسد الرحيل إلى المشرق، إلى تلك البلاد التي وجد فيها ضالته المنشودة، فقرر البقاء في مدينة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وخلال هذه الفترة تعرف إلى الشيخ محمد السنوسي الذي حمل منه رسالة إلى شيخ المجاهدين عمر المختار المحاصر في الجبل الأخضر في ليبيا المحتلة في ذلك الوقت من قبل الايطاليين، فكان بذلك لمحمد أسد شرف الجهاد في تلك الديار.

وفي عام 1932م قرر محمد أسد السفر إلى بلاد الهند، ومن ثم إلى بلاد ما وراء النهر، تلك البلاد المسلمة، التي قرر أن تكتحل عيناه برؤيتها، ولكنه خلال مقامه في الهند، كان لقاؤه بمفكر الإسلام وفيلسوفه الكبير محمد إقبال، ومن ثم وجد كلُّ منهما ضالته في الآخر، ولما أراد أسد السفر إلى تركستان الشرقية أثناه محمد إقبال عن ذلك، وأمره أن يبدأ بكتابة المقدمات المنطقية لقيام الدولة الإسلامية، التي كان أسد من أشد أنصار فكرتها، وذلك من أجل إنعاش بقية من آمال المسلمين المتعثرة، ومن هنا بدأ تحول كبير في حياة الرجل بعد تحوله الكبير باعتناقه الإسلام، كان ذلك التحول مع بداية قيام دولة باكستان الإسلامية، والتي شغل فيها السيد محمد أسد مناصب عديدة ضمن وزارة الخارجية، فمن مدير دائرة الشرق الأوسط فيها، إلى وزير مفوض لباكستان لدى الأمم المتحدة، وذلك لما يمتاز به الرجل من عبقرية فذة بجانب إجادته للغات عديدة كالإنجليزية والفرنسية والألمانية والعبرية والعربية.

 

أسد مفكراً

وبجانب هذا كله فقد كان يعرف بترجمان الفقه الإسلامي، وخلال عمله كمندوب وممثل لباكستان في الأمم المتحدة، كان زملاؤه من الغربيين يلاحظون فيه نوعاً من الاندماج الكلي في مهمته التي كلف بها، لا مجرد غربي يؤدي وظيفة فحسب.

لم يكن محمد أسد مجرد رجل عادي بسيط، استهوته روحانية الإسلام العجيبة فلم يتمالك نفسه أمام هذا الإغراء الروحي، الذي لا يقاوم تأثيره في النفوس، بل لقد كان محمد أسد رجلاً على قدر كبير من الثقافة والإحاطة المعرفية في شتى فروع المعرفة الإنسانية، والتي مكنته من إجادة لغات عديدة، كان لها دور في توسيع دائرته المعرفية، ومن خلال هذه المعرفة العميقة والواسعة، في شتى فروع المعرفة، وقف الرجل موقف الحكيم الناقد، الذي يفسر ويحلل ويعلل كل ما يراه، أو يحيط به من أحداث ومعارف، لذا من خلال هذا الكم المعرفي الذي يمتلكه الرجل رأى في الإسلام ليس مجرد دين تعبدي يخاطب الروح فحسب، بل نظاماً متكاملاً ومتناسقاً يخاطب الروح والجسد معاً، نظاماً اجتماعياً فيه كل ما ظنوه تناقضاً في أديان خلت، في قالب بديع يدعو إلى الإعجاب بتلك الصورة الجميلة الرائعة التي رسمها لهذه الحياة الإنسانية التي تحمل من البساطة والروعة ما يعجز البيان عن وصفها.

فلنصغِ إليه إذن وهو يتحدث عن هذا الدين العظيم ليقول: \"لا أستطيع اليوم أن أقول أي النواحي قد استهوتني أكثر من غيرها، فإن الإسلام على ما يبدو لي بناء تام الصنعة، وكل أجزائه قد صيغت ليتمم بعضها بعضاً ويشد بعضها بعضاً، فليس هناك شيء لا حاجة إليه، وليس هناك نقص في شيء، فنتج عن ذلك كله ائتلاف متزن مرصوص، ولعل هذا الشعور من أن جميع ما في الإسلام من تعاليم وفرائض قد وضعت مواضعها هو الذي كان له أوقع الأثر في نفسي\".

ومن هنا لا غرابة أن يجند الرجل فكره ولسانه في خدمة هذا الدين، الذي رأى فيه سعادة البشرية ونجاتها، بل رأى فيه تلك المدينة الفاضلة التي طالما حلم بها الفلاسفة والشعراء والمصلحون طويلاً، ومن هنا فقد كان لقلمه ولسانة صولات وجولات في كل المنابر والوسائل التي أتيحت له آنذاك دفاعاً عن هذا الدين، وتوضيحاً لمبادئه وأفكاره.

فعمل خلال بقائه في باكستان على إنشاء مركز للبحوث والدراسات الإسلامية، وأصدر مجلة هناك في مدينة لاهور، كما ساهم في كتابة أبواب من الدستور الإسلامي لدولة باكستان، وكذا عمل على ترجمة معاني القرآن إلى الإنجليزية والفرنسية والألمانية، وكذا صحيح البخاري، كما أنه قرر بعد ذلك أن يترك عمله كوزير مفوض لباكستان لدى الأمم المتحدة، ليتفرغ للتأليف والكتابة، فكان من أهم ثماره الفكرية كتابان اثنان هما \"الطريق إلى الإسلام\" و\"الإسلام على مفترق الطرق\" تحدث في الأول عن رحلته التي انتهت به إلى اعتناق الإسلام بأسلوب تاريخي أدبي شائق، وجمع في الثاني خلاصة أفكاره الإسلامية التي كانت بمثابة علاج ناجح للخروج من الحيرة والفوضى التي تعيشها أمتنا الإسلامية اليوم.

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply