بسم الله الرحمن الرحيم
أسألك أن تشاركني حيرتي عزيزي القارئº فقد اكتنفتني حين كتابة هذه الكلمات مشاعر متخبطة بين التحدث بصيغة الأنا أو بصيغة المخاطب، ثم تلمحت إلى ما وراء الألفاظ أبحث عن مرادي من لفظي أنا وأنت، فإذا بها رغبتي أن أتوجه لكل من اتخذ موقفاً تلوح فوقه راية الإمعة داعياً إياه إلى جلسة مصارحة لا جلسة عتاب، وخطاب مكاشفة لا خطاب فضيحة.
إلى كل من ألجأته نفسه إلى الوقوف في مواطن الميل مع الناس حيث مالوا، ها هي يدي أمدها لا للإهانة والتحقير، ولا للذم والتذليل، بل للإعانة على الخروج من هذه البؤرة المبغوضة، وأنا على يقين أنك ستكره البقاء فيها على قدر ما تعرف من حقيقتها، وتعال بنا أولاً نتأمل أقوال العلماء في هذا المشهد:
حذر النبي - صلى الله عليه وسلم - من سلوك هذا الطريق حين قال: \"لا تكونوا إمعة تقولون إن أحسن الناس أحسنا وإن أساءوا أسأنا، ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسنوا أن تحسنوا وإن أساءوا أن لا تظلموا\" صحيح.
ويقول ابن مسعود - رضي الله عنه -، وهو من صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: \"لا يتبعن أحدكم دينه رجلاً، إن آمن آمن، وإن كفر كفر، فإنه لا أسوة في الشر\".
قال الجوهري في صحاحه: معنى الإمعة معروف، يٌقال الإمع والإمعة أيضاً للذي يكون لضعف رأيه مع كل أحد، ولقد أصاب من قال:
شمر وكن في أمور الدين مجتهداً *** ولا تكن مثل عير قيد فانقادا
وذكر ابن عبد البر بإسناده عن ابن مسعود في تفسير الإمعة أنه قال: كنا ندعو الإمعة في الجاهلية الذي يُدعى إلى الطعام فيذهب معه بغيره وهو فيكم اليوم المحقب دينه الرجال (أي يتبع دينه أقوال الرجال فيرى الدين ما رأوا هم وهو الذي يمنح دينه غيره، فيما ينتفع به ذلك الغير في دنياه، ويبقى إثمه عليه).
وقال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - لكميل بن زياد النخعي: ((يا كميل إن هذه القلوب أوعية فخيرها أوعاها للخير والناس ثلاثة: فعالم رباني، ومتعلم على سبيل نجاة، وهمج رعاع أتباع كل ناعق لم يستضيئوا بنور العلم ولم يلجؤوا إلى ركن وثيق... أفٍ, لحامل حق لا بصيرة له ينقدح الشك في قلبه بأول عارض من شبهة لا يدري أين الحق، إن قال أخطأ وإن أخطأ لم يدر، مشغوف بما لا يدري حقيقته فهو فتنة لمن افتتن به وإن الخير كله من عرفه الله دينه وكفى بالمرء جهلاً أن لا يعرف دينه)) أضواء البيان الشنقيطي.
وعن الإمام أحمد - رحمه الله - قال: ((ليوطنن المرء نفسه على أنه إن كفر من في الأرض جميعاً لم يكفر ولا يكونن أحدكم إمعة))، قيل: وما الإمعة؟، قال: ((الذي يقول: أنا مع الناس، إنه لا أُسوة في الشر)) (الإبانة لابن بطة)، وفي رواية قال: ((لا يَكُونُ أَحَدُكُم إِمَّعَةً))، قَالُوا: وَمَا الإِمَّعَةُ يَا أَبَا عَبدِ اللهِ؟، قَالَ: يَقُولُ: ((إِنَما أَنَا مَعَ النَّاسِ إِنِ اهتَدَوا اهتَدَيتُ، وَإن ضَلٌّوا ضَلَلتُ، أَلا لَيُوَطِّنُ أَحَدُكُم نَفسَهُ عَلَى إِن كَفَرَ النَّاسُ أَن لا يَكفُرَ)).
وقال ابن مسعود: ((لا يكونن أحدكم إمعة، قالوا: وما الإمعة؟، قال: يجري مع كل ريح)) (اعتلال القلوب الخرائطي).
قال أبو عبيد - رحمه الله -: أصل الإمعة هو الرجل الذي لا رأي له ولا عزم فيه، فهو يتابع كل أحد على رأيه ولا يثبت على شيء (المدخل إلى السنن الكبرى البيهقي).
من هذه النصوص الواردة يتضح أن معاني الإمعة تنتظم في معان محددة هي:
(1) ليس له رأي خاص به.
(2) ليس له موقف خاص به.
(3) ليس لديه عزم على اتخاذ موقف مغاير لمن حوله.
(4) يعمل وفق منظومة الضرر للذات والنفع للجميع أو النفع للذات فقط على ما سنوضحه تالياً.
(5) يجيد فن إيقاع اللوم على الجميع ما عداه.
وأول العلاج المصارحة، وأول الطريق معرفته، وأول السير العزم، فهلا توفرت أوائلنا كي ننطلق لئن كان الأمر كذلك فأنا في انتظارك في الجزء الثاني. والخطاب هنا ليس خاصاً بمن ابتلي بمشهد كهذا على قدر أنه خطاب لكل من وجد حوله شخصاً أصابته الآفة وهو يحبه فيسعى في استنقاذه منها.
اللهم استعملنا في نصرة دينك ولا تستبدلنا
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته...
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد