الكذابون الصغار


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

ُولد الأطفال على الفطرة النقية، ويتعلمون الصدق والأمانة شيئاً فشيئاً من البيئة إذا كان المحيطون بهم يراعون الصدق في أقوالهم ووعودهم...ولكن إذا نشأ الطفل في بيئة تتصف بالخداع وعدم المصارحة والتشكك في صدق الآخرين، فأغلب الظن أنه سيتعلم نفس الاتجاهات السلوكية في مواجهة الحياة وتحقيق أهدافه، والطفل الذي يعيش في وسط لا يساعد في توجيه اتجاهات الصدق والتدرب عليه، فإنه يسهل عليه الكذب خصوصاً إذا كان يتمتع بالقدرة الكلامية ولباقة اللسان، وإذا كان أيضاً خصب الخيال... بالإضافة إلى تقليده لمن حوله ممن لا يقولون الصدق ويلجؤون إلى الكذب وانتحال المعاذير الواهية، ويدربانه على الكذب من طفولته فإن الكذب يصبح مألوفاً عنده. وعلى هذا الأساس فإن الكذب صفة أو سلوك مكتسب نتعلمه، وليس صفة فطرية أو سلوكاً موروثاً... والكذب عادة عرض ظاهري لدوافع وقوى نفسية تحدث للفرد سواء أكان طفلاً أو بالغاً.. º بل قد تتوافر ـ أحياناً ـ عناصر الصدق في الوسط المحيط بالطفل وبرغم ذلك يلجأ إلى الكذب مما يسبب إزعاجاً بالغاً للأسرة وبالأخص الأم.. فما هي أسباب كذب الطفل؟ وما هي الأعراض؟ وهل توجد وسائل فعّالة لعلاج تلك الظاهرة؟

وكيف تتصرف الأم ـ وهي الأكثر التصاقاً بالطفل؟ وكيف تواجه هذه المشكلة قبل أن تتحول إلى أزمة أو حالة مرضية؟

 

مسؤولية الأسرة

تؤكد د. صباح محمود أستاذ علم الاجتماع بجامعة عين شمس أن الأسرة هي المسؤول الأول عن أي سلوك يصدر عن الطفل سواء كان سلوكاً إيجابياً أو سلبياًº وذلك بصفتها البيئة الأولى التي تحتضن الطفل وتغرس فيه القيم والعادات وأنماط السلوك المختلفة، من خلال ما يتعرض له من خبرات مختلفة، ويكون لها الأثر البالغ في تكوين اتجاهاته وتشكيل شخصيته وسلوكه.

ومن خلال هذه الحقيقة لابد أن يدرك الآباء أن الابن الذي يميل للكذب قد وجد في محيط الأسرة ما ينمّي بداخله هذا السلوك. فقد يكذب أحد الوالدين أمام الابن ويكذب أحدهما على الآخر، ويكون الابن مدركاً للحقيقة.

ويزداد الأمر سوءاً إذا حاول أحد الآباء إشراك الطفل في الكذب.. ومن أمثلة ذلك أن يطلب أحدهما منه أن يخبر من يتصل به تليفونياً بأنه ليس موجوداً، أو ما يشبه ذلك، كما أن للمدرسة دوراً كبيراً في تنمية هذا السلوك نظراً لبعض الممارسات الخاطئة التي تتمثل في أن يجد الطفل بعض زملائه يلجؤون للكذب كوسيلة للإفلات من العقاب. وبالفعل يتمكنون من ذلك.

أو أن يقوم المدرسون بإعطاء الأطفال واجبات منزلية تفوق قدرتهم الأمر الذي يجعلهم يعتمدون على غيرهم في الإجابة عنها ويدّعون فيما بعد أنها من اجتهادهم.

 

القدوة.. القدوة

ومن كل ما سبق يتشبع الطفل خبرات سلوكية خاطئة، وهي أن الكذب سلوك اجتماعي مقبول بل ضروري في كثيراً من الأحيان.

لذلك تطالب د. صباح بضرورة تهيئة مناخ صحي سليم يستطيع الطفل من خلاله اكتساب السلوكيات الأخلاقية الطيبة، وهذا يتأتى عن طريق احترام الكبار للقيم الإسلامية والالتزام بها.

ومن ثم فعلى الأسرة التي يميل أحد أبناؤها للكذب أن يتخلص أفرادها أولاً من هذا السلوك، وإذا وقع أحدهم أمامه فيه، فلابد أن يتراجع على الفور، ويحاول أن يشعر الطفل بمدى ندمه وإحساسه بالذنب، ويكثر من الاستغفار حتى يشعر الطفل بمدى خطورة هذا السلوك.

كما لابد أن تتبع معه أسلوب النصيحة، ويكون من الأفضل عن طريق سرد القصص التي تبين عواقب الكذب وأهمية الصدقº لأن هذا الأسلوب أكثر قرباً إلى الأطفال، وهذا ما يجب أيضاً اتباعه في المدرسة حتى يتم التمكن تدريجياً من علاج هذه الآفة لدى الطفل.

 

أنواع الكذب:

كما يرى د. عبد المطلب القريطي أستاذ الصحة النفسية بكلية التربية جامعة حلوان أن الكذب صفة سلوكية مكتسبة يتعلمها الطفل في إطار الأسرة أولاً ثم من خلال من يتعامل معهم في محيط البيئة والمدرسة، مشيراً إلى أن الكذب يأخذ أنواعاً، متعددة تبعاً للأسباب والدوافع المؤدية إليه.

فيوجد الكذب الخيالي، وهو يشيع في السنوات الأولى من الطفولةº إذ يتمتع الطفل بالقدرة على التخيل، وبالرغم من أنه كذاب في الظاهر إلا أنه يعيش ما يتخيله كما لو كان حقيقة.

كما يوجد الكذب الانتقامي، وهو أن يحاول الطفل إلصاق التهم بالآخرين انتقاماً منهم، كأن يدعي على أخيه أو صديقه ويتهمه زوراً بما لم يرتكبه، نظراً لأنه يحظى أكثر منه بإعجاب الآخرين.

وكذلك كذب التقليد هو تقليد الطفل للوسط الذي يعيش فيه، والذي يفتقد قيمة الصدق، ويجد الكذب التفاخري وهو يرجع إلى شعور الطفل بالحرمان والنقص فيلجأ إلى التعويض عن طريق إضفاء مظاهر التعظيم والتفخيم على قدراته. حتى ترتفع مكانته عند الآخرين ومن ثم يشعر باللذة.

 

إدمان الكذب:

أما الكذب المرضي فينتج عن الشعور الدائم بالاضطهاد من الآخرين الأمر الذي يدفعه للكذب بصورة متكرّرة وغير إرادية فيدمنه كلما واجهته أي صعوبة.

وحول سبل علاج الكذب أشار الدكتور القريطي إلى ضرورة وجود مناخ أسري ومدرسي يسوده الصدق ويجب أن تتسم معاملة الوالدين بين الأبناء حتى لا يدفعه ذلك إلى الافتراءات والكذب على إخوته المفضلين عنه.

كما يجب إشباع حاجات الطفل إلى التقدير كلما فعل ما يستوجب ذلك حتى لا يلجأ إلى الخيال لإشباعهما.

ولا يجب الانزعاج من تطلعاته الخيالية، وإنما يجب إرشاده أولاً إلى الفروق ما بين الواقع والخيال حتى لا يستغرق في الخيال أكثر من الواقع، كما أنه من الضروري تبصيره بأهمية قول الحق بأن الصدق فضيلة ترفع من شأن الإنسان والكذب رذيلة تقلل من شأنه وتجلب عليه الغضب من الله.

 

السبيل الأمثل:

هذا وقد أشار د. جمال عبد الهادي الأستاذ بجامعة الأزهر، إلى أن أهم أسباب تفشي هذه الآفة هو غياب القدوة في حياة الأبناء، حيث وجدوا أغلب من حولهم يكذبون، ومن ثم استهانوا بقيمة الصدق، وهذا يعد مؤشراً عظيم الخطورةº لأن الأسرة قد فقدت أهم أدوارها، وهي أن تكون البيئة التربوية الصالحة التي تخرّج للمجتمع أفراداً صالحين.

ويضيف د. عبد الهادي أن خطورة الكذب لم تكن قاصرة على أنها مجرد صفة سيئة سوف تلتصق بالطفل بل إنه أول الخطا في طريق الفجور كما حذر الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - حين قال: \"إن الكذب يهدي إلى الفجور\" ومن ثم فإن ردع الطفل عن هذا السلوك واجب حتمي على كل أسرة، ولا يجب التقصير فيه.

ويرى د. عبد الهادي أن السبيل الأمثل لعلاج هذا المرض لدى الطفل يتمثل في عدة أمور أهمها:

أن يلتزم الآباء بالصدق أمامه، ويكثروا الحديث عن أهمية الصدق وخطورة الكذب، ويجب أن يربطوا أفعالهم وأفعاله بالله - عز وجل - حتى يتعود على مراقبة الله وخشيته، ومن ثم لا يقدم على هذا الإثم، ولا يحاولوا أن يغلطوا عليه في أوامرهم حتى لا يضطر للكذب.

أما إذا اتبعوا ذلك، ولم يستجب الابن فيجب أن يستعملوا معه سلاح المقاطعة والخصام حتى يقلع عن الكذب، ومن ثم يستطيعون أن يصلوا بالابن إلى بر الأمن والإيمان.

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply