أقسم أحدهم بالله أنه دفنني بيده ، في حين صلى علي الآخر صلاة الغائب !


 

 
 

بسم الله الرحمن الرحيم

نقرأ جميعاً قول الله - جل وعلا - في سور الحجرات (يا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُم فَاسِقٌ بِنَبَأٍ, فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوماً بِجَهَالَةٍ, فَتُصبِحُوا عَلَى مَا فَعَلتُم نَادِمِينَ) ويجهل أكثرنا السبب الحقيقي لنزول هذه الآية، ولا بأس من إيراد سبب نزولها كموعظةٍ, وذكرى وترسيخ لمفهوم التثبت في نقل الأخبار بين الناس، ووأد الإشاعات المغرضة في مهدها.

نزلت هذه الآية كما قرر ذلك الحافظ ابن كثيرٍ, - يرحمه الله - وغيره، في الوليد بن عقبة بن أبي معيط حين بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على صدقات بني المصطلق، والقصة باختصارٍ, شديدٍ,: أن نبي الله - عليه الصلاة والسلام - بعث رجلاً يقال له الوليد بن عقبة إلى بني المصطلق ليأخذ منهم زكاتهم، وأنهم لما أتاهم الخبر فرحوا وخرجوا يتلقون رسول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لما رأى الوليد بن عقبة ذلك الجمع المرحب برسول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقع في نفسه أنهم خرجوا لقتله، فعاد إلى نبي الله - عليه الصلاة والسلام -، وأخبره أن القوم منعوه الزكاة بل وهموا بقتله!! فغضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من هذا الموقف الغريب غضبا شديداً، فبينما هو يحدث نفسه أن يغزوهم إذ أتاه الوفد، فقالوا يا رسول الله: إنا حدثنا أن رسولك رجع من نصف الطريق، وإنا خشينا أنما رده كتاب جاء منك لغضب غضبته علينا وإنا نعوذ بالله من غضبه وغضب رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فأنزل الله- تبارك وتعالى -عذرهم في الكتاب إلخ....

يقول النبي - عليه الصلاة والسلام -: \"كفى بالمرء إثماً أن يحدث بكل ما سمع\"، وهي قاعدة جليلة في الكف عن نقل فضول الكلام وإشاعته بين الناس، تكررت مأساة الإشاعة في قضيةٍ, أخرى كانت الأخطر في تاريخ الأمة، إذ نالت من عرض نبي الله - عليه الصلاة والسلام - مباشرةً، تذكرون حادثة الإفك التي ورد ذكرها في سورة النور، عندما خاض المنافقون في عرض المصطفى - عليه الصلاة والسلام - مباشرةً، رأينا جميعاً تأثير تلك الحادثة على نفسية نبي الله - عليه الصلاة والسلام - ونفسية أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها -، بل وامتدت الفتنة إلى الصحابة أنفسهم بفضل رأس المنافقين ابن سلولٍ, قاتله الله.

سأفترض أمراً، لو شهد ثلاثة من الناس على زيدٍ, من الناس بأنه قد قارف جريمة الزنا، وكانوا صادقين في اتهامهم على واقعةٍ, حقيقيةٍ, ولم يأتوا بالشاهد الرابع، فإنه يقام عليهم حد القذف حتى وإن كانوا صادقين، جاء هذا العقاب الرادع صيانةً لأعراض عباد الله من استطالة العابثين فيها بغير وجه حقٍ,.

من رحم فوضى الاتهامات العشوائية، والقذف الفاجر تنبثق الإشاعات المغرضة التي تفت في عضد الأمة، وتقلب الحق إلى باطلٍ, والباطل إلى حقٍ,، ويكفي صاحب الإشاعة ذمةً واسعةً، وانعداماً في الدين والخلق ليجد لإشاعته الرواج الكافي، والقبول شبه المطلق بين مختلف شرائح المجتمع، هل تذكرون تلك الإشاعة التي نالت الشيخ عائض القرني في عرضه وأوقعته طريح الفراش لأيامٍ,؟ تآمر جوقة من الخونة لإسقاط الرمز، فاتهموه في عرضه، راجت تلك الإشاعة وانتهت إلى مزبلة التاريخ بعد أن خاض فيها من خاض.

قبل أشهرٍ, ألقي القبض على الكاتب في الساحة العربية سليمان الدويش، وخاض جوقة من الخونة في ذمة الرجل، واتهموه بأنه كان مع رأسٍ, من رؤوس المطلوبين أمنياً، خاض في ذمته السناكحة وأقرانهم من خريجي مصحات الإدمان على مختلف أنواع المخدرات، ولدي مقالة هنا جمعت جميع أوبئة الساحة العربية وخونتها ضد الرجل، ليكشف الله الحقيقة بعد شهرين اثنين من اعتقال الأخ سليمان، تم الإفراج عنه وانتهت القضية كما بدأت، ولو كان كما زعموا (هتك الله سترهم) لما خرج من سجنه حتى اللحظة!!

قل ذلك عن ابن دليم القحطاني الذي شمت في قتل ابنه خطأً أحد كبار السناكحة قاتله الله وقطع الله نسله وهتك ستره، وهو عينه الذي نصب نفسه مدعياً عاماً ضد القضاة في التهمة المنسوبة إلى المعلم محمد بن سلامة الحربي، وهو أكذب من حمار المسيح الدجال، بل إن الكذب ليخجل من الاقتران به:

وإذا رزق الفتى وجهاً وقاحاً *** تقلب في الأمور كما يشاء

لاقت الإشاعة رواجاً مذهلاً في هذه البلاد، فاقت ما ذكرته الكاتبة يونج تشانج في كتابها بجعات برية عن فلاحات الصين الشعبية، وسعيهم بالنميمة والإشاعة بين سكان القرى، قبل عامين اثنين سرت إشاعة مغرضة في هذه البلاد، مفادها أن الدولة قررت تخفيض البنزين إكراماً لعين المواطن، طارت الركبان بهذه الإشاعة حتى إن وزير النفط صرّح بأنه لا أساس لهذا التخفيض، وأن ما ذكر مجرد إشاعاتٍ, مغرضةٍ, فقط!!

لو قلت لكم إنني رأيت زيداً من الناس يقارف عملاً سيئاً تحت جنح الظلام، فإن المستمعين إلى هذه الإشاعة سينقسمون إلى أقسامٍ, عدة، قسم سيصدق دون ترددٍ,، وهم الغالبية العظمى، وقسم سيكذب الخبر جملةً وتفصيلاً، وهو وقسم لا يعول عليه، لأن المثبت مقدم على المنفي!! وقسم سيتردد، لكنه سيحسم أمره بالخضوع للصوت الأقوى، وهو القسم الذي صدق الإشاعة، وقسم سيلوذ بالصمت، لكنه سيقبل بتلك الإشاعة ولو بعد حينٍ,.

رضي العشرات منا بتأجير عقولهم للآخرين، هل تذكرون الكذبة التي مارسها جورج بوش ضد العراق كتبريرٍ, لغزوه؟ قال: بوش: إن النظام العراقي يرفض التعاون مع اللجنة الدولية للبحث عن أسلحة الدمار الشامل، وعندما فند العراق هذه التهمة وسمح للمفتشين بالدخول إلى العراق والتفتيش في جميع مرافقه بما فيها القصور الرئاسية، لم تجد اللجنة شيئاً لينتقل الأحمق إلى الخطة B قال: إن صداماً يشكل خطراً على الأمن والاستقرار العالمي، لم تجدي هذه الكذبة نفعاً، فانتقل إلى الكذبة الثالثة، قال جورج: إن هناك صلات مباشرة بين تنظيم القاعدة وبين صدام حسين!!؟ هذا الهراء وغيره أشار إليه مايكل مور في كتابه الرائع: أيها المتأنق ماذا حل ببلادي؟ والذي يقرأ الكتاب يعتريه الغثيان من هول تلك الأكاذيب التي أطلقتها الإدارة الأمريكية.

لماذا يحكم البعض منا على قضيةٍ, ما دون أن يجشم نفسه عناء البحث عن صحتها؟

ربما كان للمتحدث الكاذب دور في عملية التصديق التي يتلقاها الضحية (الساذج) والذي يصدق كل ما يشاع، والنبي - عليه الصلاة والسلام – قال: \"كفى\"، يقول الأستاذ مصطفى أمين في سنوات سجنه، التقيت بمسجونٍ, جنائي قتل رجلاً لا يعرفه من قبل!! وعندما سألته عن سبب إقدامه على تلك الجريمة قال: حدثني زيد من الناس بأن هذا الرجل يريد الكيد لي لينفرد بزوجتي!! فما كان مني إلا أن عاجلته بطلقاتٍ, من الرصاص، وبعد أن حكم علي بالسجن المؤبد، طلبت زوجتي مني الطلاق وتزوجت من صاحب الإشاعة الذي أحكم الخطة للإيقاع بي!! قال الأستاذ مصطفى أمين وماذا تنوي أن تفعل بعد خروجك من السجن؟ أجابه بأنه سيصفي حساباته مع مطلق تلك الإشاعة!!

قبل عقدٍ, ونصف تقريباً، كنت خارج هذه البلاد في منطقةٍ, نائيةٍ,ِ تشهد شيئاً من الاضطرابات والفوضى الأمنية، وكنت معزولاً تماماً عن أية وسيلة اتصال، والذي حصل أن زيداً من الناس مجهولاً بالنسبة لي، أطلق إشاعةً مغرضةً أو غير مغرضةٍ, بأنني رحلت عن هذه الدنيا مقتولاً!! لاقت هذه الإشاعة رواجاً شديداً بين معارفي وأصدقائي، حتى إن إماماً من أئمة المساجد بعد أن أقيمت الصلاة قال: سنقيم صلاة الغائب بعد صلاة العصر على الشيخ فلان الذي اغتيل ومرافقه جار المسجد الأخ الخفاش الأسود، وكان ما أراد، أما الشطر الأول فكان صحيحاً، إذ اغتيل الشيخ - يرحمه الله - على يد زيدٍ, من الناس، اسمه أشرف وليس له من اسمه حظ ولا نصيب لا رحم الله فيه مغرز إبرةٍ,، وأما الشطر الثاني فكان مجرد إشاعةٍ, صلّي علي لأجلها صلاة الغائب وأنا حي أرزق!! بل أقسم أحدهم بالله لبعض الزملاء أنه وسدني الثرى!!

عندما غزا صدام الكويت كنت خارج الوطن، فقال لي صديق وهو من سكان المنطقة الشرقية إن حاضرة الدمام تتعرض لقصفٍ, شديدٍ, بصواريخ سكود العراقية، وكان يقول ذلك في مرارةٍ, ويردد: إيه والله!!

عندما كنت في المرحلة المتوسطة، سرت إشاعة مغرضة بين الطلاب أن ظالماً من سكان مدينة جدة أجبر مسناً على ترك منزله وطرده بالقوة إلى الشارع، وما هي إلا أيام، حتى مسخه الله إلى مخلوقٍ, غريبٍ, مرعب الشكل، ولم يكتف مطلق الإشاعة بهذه الترهات، بل جشم نفسه عناء التزوير، فشفّع الإشاعة بصورةٍ, مرعبةٍ, لمخلوقٍ, غريب الشكل، تبين فيما بعد أنه بطل أفلام الخيال العلمي A.T من إخراج ستيفن سبيلبيرج!! قل ذلك عن إشاعة الحاج أحمد خادم الحجرة النبوية، تكررت هذه الإشاعة المشهورة أكثر من مرةٍ, ولا زالت، وأن من صور هذه الورقة ووزعها بين الناس فله كذا وكذا، ومن أهملها أهلكه الله - تعالى -، إلا أن الطريف في هذه الإشاعة يكمن في تطورها بتطور وسائل الاتصالات والطباعة.

وجدت ورقةٍ, مطبوعةً بخطٍ, قديمٍ, تعود إلى بدايات هذا القرن عن هذه القصة المزعومة، كانت تأمر قارئها أن يكتب هذه القصة بخط يده ويوزعها، ثم تطور الوضع إلى الطباعة، فالتصوير، مروراً بالفاكس والإيميل بل وحتى الجوال، ووصلتي أنا شخصياً صيغةً مختلقةً للصلاة على النبي - عليه الصلاة والسلام - تحثني وتحضني على نشرها بين الناس بواسطة الجوال، وإذا مد الله في أعماركم، فسيطلب منكم نشرها بواسطة البلوتوث أو بالأشعة تحت الحمراء، أو بواسطة أشعة الليزر!!

لا أعجب لمطلق الإشاعة ومروجها بين الناس، فقد يكون مغرضاً في إشاعته أو نماماً أو أحمقاً، لكنني أعجب من إرخاء السمع لها، وبناء الحكم عليها، وقديماً قالوا: إذا كان المتحدث أحمقاً فليكن المستمع عاقلاً على الأقل!! وقالوا وهو قول أكثر من رائعٍ,: لا ينسب لساكتٍ, قولاً، يقول أحد الغربيين نسيت اسمه: أردت أن أكتب تاريخ الأرض منذ أن خلق الله آدم حتى القرن الواحد والعشرين، وعندما شرعت في هذا المشروع الحضاري الضخم، وجدت قطعةً من أثاث منزلي أصابها التلف بفعل مادةٍ, مجهولة المصدر، يقول الباحث: عندما سألت الخدم عندي حول هذه الحادثة تضاربت رواياتهم عن سبب التلف الذي أصاب قطعة الأثاث، فأصبت بالإحباط وصرفت النظر عن المشروع برمته، وأنا أقول: إذا اختلف هؤلاء الخدم الذين يعدون على أصابع اليد حول هذه الحادثة، والتي لم يمر على وقوعها أكثر من يومٍ, واحدٍ,، فكيف بحوادث الأرض التي وقعت منذ ملايين السنين، والتي تطرق إليها الآلاف من البشر!!

سيتحمس البعض منكم لهذا الكلام، لكن قناعاته الشخصية ستتهاوى عند أول بذرةٍ, من بذور الشك المتلقى من المصدر المجهول، يكفيك أن تنسج خيوط إشاعةٍ, مغرضةٍ,، وتحكم حياكتها، لتبثها في الهواء الطلق أو عبر الماسينجر، سيتلقاها العشرات، بل وسيتبرع من أولئك السفلة من ينقلها بين الناس لوجه الله - تعالى -، وكم أفسدت تلك الإشاعات من ودٍ,، وكم هدمت من منازل، كم أزهقت من أرواحٍ, بريئةٍ,؟ يقول الأستاذ عبد الوهاب مطاوع - يرحمه الله - في كتابه العيون الحمراء، وهو كتاب يتناول جملةً من المشاكل الاجتماعية التي يحملها إليه بريد الجمعة في صحيفة الأهرام، يقول: على لسان مرسلةٍ, ما: كنت متمردةً أوقع الرجال في حبائلي، وكنت على قدر من الجمال والغرور، وذات يومٍ, حاولت إيقاع رجلٍ, ما في حبائلي، فأصر على الرفض بل وعزز موقفه بالاحتقار، فما كان مني إلا أن حصلت على رقم هاتفه بطريقةٍ, ما، وهاتفت زوجته في المنزل بأن زوجها على علاقةٍ, معي!! لم تصمد الزوجة كثيراً أمام هذه الإشاعة ولم تتردد، فتحت نافذة شقتها وتردّت إلى أسفل العمارة منتحرةً بفضل هذه الإشاعة، استيقظ ضمير الساقطة بعد فوات الأوان، فأرسلت تلك الرسالة إلى بريد الجمعة تطلب حلاً.

فطنت الدول الكبرى لخطورة الإشاعة على المجتمعات المدنية في وقت الحرب، بل وقامت بإنشاء جهازٍ, خاصٍ, ببث الإشاعات بين مواطني خصومها في حال نشوب الحرب، وهو جهاز يتبع قيادات الأركان العسكرية، وقد استعمل النازيون هذا السلاح بكل براعةٍ,، فقاموا بطبع عشرات الملصقات التي تفت في معنويات جنود الحلفاء، بأنكم في الجبهة تقاتلون العدو ونساؤكم يقمن بخيانتكم مع أصدقائكم!! وكانت الطائرات الألمانية تلقي تلك الملصقات على طول جبهات الحرب ميلةً برسمٍ, معبرٍ, عن الخيانة!!

لدي الكثير لأقوله وأحكيه حول هذه القضية، ولدي عشرات القصص، لكنني مللت وأطلت لذا سأوجز ما بقي من هذه المقالة وأختمها.

يقول أرباب القانون: الاعتراف سيد الأدلة، قد يكون المتهم الذي أدلى باعترافاته الوهمية حول قضيةٍ, ما، أدلى بها تحت التعذيب الشديد، يستطيع أي سفّاح أمني أن يحمل طفلاً في الرابعة من عمره على الاعتراف بأنه قام باغتيال الرئيس الأمريكي جون كنيدي، وذلك قبل ميلاده بأربعة عقودٍ,، والفضل للتعذيب والسلخ والصفع، على الصعيد الشخصي، هل نملك الشجاعة الكافية للاعتراف بالخطأ والاعتذار إلى الطرف الذي تجاوزنا معه الحد بفضل تلك الإشاعة؟ لا أعتقد ذلك، نحن أجبن من هذا، تقول القاعدة القانونية الموضوعة: ويبقى الحال على ماهو عليه، وعلى المتضرر أن يلجأ للقضاء، وأنا أقول: ويبقى الحال على ما هو عليه وعلى المتضرر أن يلجأ إلى رب العباد، فهو أعدل العادلين وأحكم الحاكمين.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply