بسم الله الرحمن الرحيم
العدوّ كثير ومخيف، ويملك الإمكانات الهائلة، والقوّة الماديّة الساحقة!.. والناصحون ينصحون بترك الجهاد، وترك الدعوة إلى الله، والكفّ عن مقاومة المحتلّ الغاصب المجرم!.. لأنّ الإمكانات قليلة، والمحنة فعلت ما فعلت!.. وأُثخِنَ الناس بالجراح!..
لكنّ المؤمنين يثبتون ولا يتراجعون أمام الشدّة والمعاناة، إنهم يقولون: الله معنا، وهو ناصرنا ومؤيّدنا ويكفينا أعداءنا، وما علينا إلا أن نثبت ونصبر، ونعمل ونتّخذ الأسباب، ونجرّع العدوّ المتجبّر ما يليق به من المرارة والقتل والتنكيل، فشعار المؤمنين في كل الظروف والأحوال: حسبنا الله ونعم الوكيل.
(الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَد جَمَعُوا لَكُم فَاخشَوهُم فَزَادَهُم إِيمَاناً وَقَالُوا حَسبُنَا اللَّهُ وَنِعمَ الوَكِيلُ) (آل عمران:173).
ما الإشاعة؟..
1- أسلوب من أخطر أساليب الحرب النفسية، يثير البلبلة في نفوس الناس، ويُضعِف روحَهم المعنوية، فينهزمون داخل نفوسهم، وبذلك ينهزمون في كل شيء، فهزيمة النفس هي الهزيمة الحقيقية التي يتبعها الانهيار والاندحار.
2- وكلّ خبرٍ, هامٍ, يُشَكٌّ في صحته، ويتعذّر التحقق من أصله فهو إشاعة، لتحقق الشرطين الأساسيين لها، وهما: الغموض، والأهمية.
الإشاعة والدوافع النفسية:
القلق، والحبّ، والكره، والحقد، والخوف، والأمل، والانتقام.. كلها دوافع نفسية إنسانية يتم التركيز عليها عند إطلاق الإشاعات، فالإنسان القلِق من فشله مثلاً يكون أكثر ميلاً من غيره لتصديق خبرٍ, عن فشل أعدادٍ, كبيرةٍ, من الناس ثم لنشر هذا الخبر.. والشخص الذي يكره شخصاً آخر أو مجموعةً من الناس مثلاً يسارع إلى تصديق أو نشر أي خبرٍ, يسيء إلى ذلك الشخص أو إلى تلك المجموعة.. وهكذا.
من أهداف الإشاعة:
المحور الذي تهدف إليه الإشاعة هو إضعاف الروح المعنوية للخصم تمهيداً لانهيارها، وبالتالي إجبار هذا الخصم على الاستسلام وتنفيذ الشروط التي تُملَى عليه، وتعريضه لهزيمةٍ, وانكسارٍ,، أو لخسارةٍ, كبيرة.. وهذه الهزيمة هي النتيجة النهائية لجملةٍ, من الأهداف تحققها الإشاعة في صفوف الخصم أو العدوّ، ومن هذه الأهداف:
1- تفريق الصفوف، وتوسيع الثغرات، وتبديد الإمكانات.
2- التشكيك في كل عملٍ, أو حركةٍ, يقوم بها الخصم، وخاصةً في عدالة الهدف الذي يسعى إليه، أو في أهميته أو مبرراته.
3- بثّ عوامل الضعف والوهن، وفي طليعة ذلك: زعزعة ثقة الخصم بنفسه، وبعوامل قوّته وتماسكه.
الإشاعة سلاح يستخدمه العدوّ، فما مضاداته؟
تميل النفس الإنسانية دوماً إلى تنظيم المعلومات بطريقةٍ, تحقق أكبر قدرٍ, من الوضوح والانتظام والكمال، وعندما يسمع الإنسان خبراً غامضاً يميل فوراً إلى تبسيطه ليكون واضحاً، وفي حال عدم توفّر معلوماتٍ, كافيةٍ, لذلك يميل إلى سدّ هذه الثغرة وتعويض هذا النقص في المعلومات، وإذا لم يستطع تحصيل ذلك من المصادر الموثوقة يستعين بمصادر أخرى من أوساط الناس والمجتمع، أو من وكالات الأنباء المختلفة وغيرها من وسائل الإعلام المتعدّدة.. وهذه الأوساط كلها قد تكون بؤراً لبثّ الأخبار الملفّقة الكاذبة والإشاعات، مما يؤدي إلى نتيجتين سيّئتين:
1- تصديق الإشاعة أو الخبر الكاذب أولاً.
2- ثم المشاركة في نشره وتوسيع دائرة انتشاره في المجتمع.
وانطلاقاً من المفهوم العلمي النفسي الوارد آنفاً، فإنّ مقاومة الإشاعة تعتمد بشكلٍ, رئيسيٍ, على:
أولاً: نشر الحقيقة أو تصحيح المعلومات الخاطئة بأسلوبٍ, يتّسم بالبساطة أو الوضوح ما أمكن ذلك، والانتظام في تزويد الناس بالمعلومات أولاً بأول، وتقديم المعلومات الكاملة حول الموضوع الذي يتخذه العدوّ أو الخصم مادّةً لإشاعته بين الناس، وذلك بما لا يتعارض مع مبدأ السرّية والكتمان عند اللزوم.
ثانياً: تحليل الإشاعة ودراستها، ثم السعي لكسر حلقة نشرها، وكشف محاولات التخذيل فيها، وتتبّع سيرها للوصول إلى مروّجيها وكشف حقيقتهم، وحقيقة مطلقيها الأصليين.
ثالثاً: التماسك على صعيد الصف المسلم، وعلى الصعيد الاجتماعي، وما ينتج عنه من وعيٍ, وإدراكٍ, وترابطٍ, وثقةٍ, متبادلةٍ, بين أبناء المجتمع أو الصف المسلم، ما يؤدي لردّ كل إشاعةٍ, إلى أولي الأمر لوضع الحل المناسب لها.
كيف تعامَلَ القرآن الكريم مع الإشاعة؟..
1- بالردّ الحاسم السريع الذي يبيّن الحقيقة بكل وضوح: (أَم يَقُولُونَ افتَرَاهُ قُل فَأتُوا بِسُورَةٍ, مِثلِهِ وَادعُوا مَنِ استَطَعتُم مِن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُم صَادِقِينَ) (يونس:38) (أَم يَقُولُونَ افتَرَاهُ قُل فَأتُوا بِعَشرِ سُوَرٍ, مِثلِهِ مُفتَرَيَاتٍ, وَادعُوا مَنِ استَطَعتُم مِن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُم صَادِقِينَ) (هود:13).
2- بالحثّ على عدم إذاعة أي خبرٍ, ( أمناً كان أم خوفاً )، بل ردّه إلى أولي الأمر أولاً لاستنباط ما فيه من خيرٍ, أو شرّ، ثم اتّخاذ القرار المناسب بشأنه (وَإِذَا جَاءَهُم أَمرٌ مِنَ الأَمنِ أَوِ الخَوفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَو رَدٌّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمرِ مِنهُم لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَستَنبِطُونَهُ مِنهُم وَلَولا فَضلُ اللَّهِ عَلَيكُم وَرَحمَتُهُ لَاتَّبَعتُمُ الشَّيطَانَ إِلَّا قَلِيلاً) (النساء:83).
3- بتنمية إيمان المؤمنين، وتقوية روابطهم مع الله - عز وجل -، وبوضع حدٍّ, فاصلٍ, واضحٍ, بين الحق والباطل (إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيطَانُ يُخَوِّفُ أَولِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُم وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُؤمِنِينَ) (آل عمران:175).
4- بالتحذير من أهل الكفر والشرك والأعداء من أهل الكتاب وخاصةً اليهود (يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ يَرُدٌّوكُم بَعدَ إِيمَانِكُم كَافِرِينَ )(آل عمران : 100). (أَلَم تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الكِتَابِ يُؤمِنُونَ بِالجِبتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً ) (النساء:50).
5- بالتحذير من المنافقين وأشباههم الذين يسعون دوماً لبثّ الإشاعات التي تفتّت الصفوف، وتفرّق المؤمنين، وتبعدهم عن هدفهم، وتفتّ في عزيمتهم (إِذ يَقُولُ المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُم وَمَن يَتَوَكَّل عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (الأنفال:49) (لَو خَرَجُوا فِيكُم مَا زَادُوكُم إِلَّا خَبَالاً وَلَأَوضَعُوا خِلالَكُم يَبغُونَكُمُ الفِتنَةَ وَفِيكُم سَمَّاعُونَ لَهُم وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) (التوبة:47).
6- بالتحذير من ترديد الإشاعات من غير علمٍ, أو وعيٍ, لأبعادها وأهدافها (إِذ تَلَقَّونَهُ بِأَلسِنَتِكُم وَتَقُولُونَ بِأَفوَاهِكُم مَا لَيسَ لَكُم بِهِ عِلمٌ وَتَحسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ* وَلَولا إِذ سَمِعتُمُوهُ قُلتُم مَا يَكُونُ لَنَا أَن نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبحَانَكَ هَذَا بُهتَانٌ عَظِيمٌ* يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثلِهِ أَبَداً إِن كُنتُم مُؤمِنِينَ) (النور:15-17).
كيف تعامَلَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع الإشاعة؟..
1- بثّ الثقة والأمل والتفاؤل بنصر الله وتأييده مهما كانت الظروف، كما فعل يوم الخندق ردّاً على الشائعات المرجِفة التي كان يطلقها المنافقون (وَإِذ يَقُولُ المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً) (الأحزاب:12)، فقد كان ردّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المُرجِفين بمخاطبة أصحابه - رضوان الله عليهم -: (أبشِرُوا بفتحِ اللهِ ونصرِه).
2- استنفار الطاقات وتجميع القوى والإمكانات حول هدفٍ, واحدٍ, محدّد، والسرعة في اتّخاذ الإجراءات بعد أي إشاعة، وقبل أن تفعل فعلها المدمِّر في الصف المسلم، فكان - صلى الله عليه وسلم - يوجّه حالات الاستفزاز والاحتقان نحو الإيجابية والاستثمار الأمثل، قبل أن تتوجّه بشكلٍ, ارتجاليٍ, نحو أهدافٍ, أخرى غير محسوبة النتائجº كما حصل يوم الحديبية بعد أن سَرَت إشاعة تفيد بأنّ عثمان بن عفّان - رضي الله عنه - قد قُتِل في مكة، حيث دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بيعة الرضوان المشهورة التي كانت بيعةً على الموت، فوجّه بذلك الطاقات، ورفع من الروح المعنوية للمسلمين، واستثمرها بشكلٍ, منظّمٍ, وهادف.
3- إشغالُ الناس بأمرٍ, مفيدٍ, ريثما تتهيأ الظروف لوضع الحلول المناسبة لبعض الإشاعات التي قد تَشغَل الصف المسلم وتحاول تفتيته.. كما حصل بعد غزوة بني المصطلق عندما أطلق زعيم المنافقين عبد الله بن أبيّ بن سلول إشاعته وفِريَتَهُ التي بدأت تسري بين المسلمين، إذ قال: (لئِن رجعنا إلى المدينة لَيُخرِجِنَّ الأعزٌّ منها الأذلَّ..)، فقد جاء في السيرة النبوية المطهّرة ما يلي:(.. فقد مشى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالناس يومهم ذلك حتى أمسى، وليلتهم حتى أصبح.. وإنما فعل ذلك رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ليَشغَلَ الناسَ عن الحديث الذي كان بالأمس من حديث عبد الله بن أبيّ..) (السيرة النبوية لابن هشام / ج3 ص229).
4- مَنعُ إطلاق الإشاعات أو المشاركة في نشرها حتى لو كانت صحيحةً، درءاً لخلخلة المجتمع والصف المسلم، أو التأثير على روحه المعنوية، كما حصل يوم الخندق بعد أن بلغ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أنّ بني قريظة قد نقضوا العهد الذي كان بينهم وبينه - صلوات الله وسلامه عليه -: (.. ولا تَفُتّوا في أعضادِ الناس).
كيف تعامَلَ المؤمنون والصحابة - رضوان الله عليهم - مع الإشاعة؟..
1- بالإيمان القوي الذي لا يمكن زعزعته، وبأنّ العلاقة مع الله - تعالى - تفوق كل علاقة، وأنّ التوكّل عليه - سبحانه - هو الأساس (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَد جَمَعُوا لَكُم فَاخشَوهُم فَزَادَهُم إِيمَاناً وَقَالُوا حَسبُنَا اللَّهُ وَنِعمَ الوَكِيلُ) (آل عمران:173) (وَلَمَّا رَأى المُؤمِنُونَ الأَحزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُم إِلَّا إِيمَاناً وَتَسلِيماً) (الأحزاب:22).
2- بالتماسك والتلاحم والثقة غير المحدودة بإسلامهم، وبإخوانهم، وبالوعي التام لمخططات العدوّ والمرجِفين، وبمحاكمة الإشاعة بموضوعيةٍ, وعلميةٍ, ومنطقٍ, سليم، فقد ورد في السيرة النبوية بعد خبر الإفك:(.. إنّ أبا أيوب – خالد بن زيد - رضي الله عنه - قالت له امرأته أم أيوب: يا أبا أيوب، ألا تسمع ما يقول الناس عن عائشة؟.. قال: بلى، وذلك الكذِب، أكنتِ يا أم أيوب فاعلة؟.. قالت: لا واللهِ ما كنت لِأفعَلَهُ، قال: فعائشة واللهِ خيرٌ منكِ..) (السيرة النبوية لابن هشام / ج3 ص236).
وبعد:
فالإشاعة تصبح سلاحاً فتّاكاً عندما يعاني المجتمع ويعاني الصف المسلم من الأمراض التي تهيئ الظروف والأجواء والبيئة لسريانها، وتحقيق أهداف مُطلقيها ومروّجيها، لكنها سلاح فاسد يرتدّ على صاحبه عندما يخلو المجتمع والصف المسلم من الأمراض التي تزعزع الثقة بنصر الله - عز وجل -، وبقضائه وقَدَرِه، وتُضعِف الإيمانَ به - سبحانه وتعالى - وبالإسلام العظيم، وتوهن العزيمة بالفوضى والاضطراب واللامبالاة.
يقول الله - عز وجل - في محكم التنـزيل ( وَلا تَهِنُوا وَلا تَحزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعلَونَ إِن كُنتُم مُؤمِنِينَ ) (آل عمران:139).
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد