بسم الله الرحمن الرحيم
تناولنا في الحلقة السابقة قضية (تحسين الإنتاج) كعنصر رئيس من عناصر أهمية الابتكار، وأنه ذو علاقة وثيقة بالابتكار، فكلما حضر عنصر الابتكار تحسن الإنتاج والأداء، وفي هذه الحلقة نتناول عنصراً آخر وهو (استغلال الطاقات الكامنة).
كل ميسر لما خلق له:
يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: \"كل ميسر لما خلق له\"(1). ذكر الإمام المناوي قول الراغب تعليقاً على هذا الحديث: \"لما احتاج الناس بعضهم لبعض سُخر كل واحد منهم لصناعة ما يتعاطاه، وجُعل بين طبائعهم وصنائعهم مناسبات خفية، واتفاقات سماويةº ليؤثر الواحد بعد الواحد حرفة ينشرح صدره بملابستها، وتعطيه قواه لمزاولتها، فإذا جعل إليه صناعة أخرى ربما وجد مستبلداً فيها، متبرماً منها، سخرهم الله لذلك لئلا يختاروا كلهم صناعة واحدة، فتبطل الأقوات والمعاونات، ولولا ذلك ما اختاروا من الأسماء إلا أحسنها، ومن البلاد إلا أطيبها، ومن الصناعات إلا أجملها، ومن الأفعال إلا أنفعها، ولتنازعوا فيها، لكن الله بحكمته جعل كلاًّ منهم في ذلك مخيراً، وكل منهم راض بصنعته لا يبغي عنها حولاًº كالحائك الذي رضي بصناعته، ويعيب الحجام الذي يرضى بصناعته، وبذلك انتظم أمرهم\"(2). ومادام الناس مختلفين في رغباتهم وميولهم، وقدراتهم، واستعداداتهم فلا يمكن أن تستخرج كل هذه الطاقات المختلفة المتعارضة داخل إطار واحد لا يتغير، ونمط واحد جامد لا يتبدل، فالابتكار والتجديد هو الذي يفجر هذه الطاقات الكامنة في كل واحد منا.
الرسول المكتشف:
عندما بعث النبي - صلى الله عليه وسلم -، وبدأ يبني الرعيل الأول لم يقبع في زاوية من الزوايا يعلمهم، ويجمد على نمط واحد حتى يرحل من هذه الدنيا، بل كان في كل ساعة من حياته أمر جديد لم يعهدوه من قبل، لذلك تعتبر المرحلة التي كان فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - مرحلة متحركة ديناميكية بكل معنى الكلمة، وفيها تزاحمت الطاقات وتفجرت بين يديه - صلى الله عليه وسلم -، فما من صحابي إلا ووجد ضالته في أمر من الأمور التي فتحها النبي - صلى الله عليه وسلم -، فوجد قادة بارزون في القتال كخالد بن الوليد، والمثنى بن حارثة، وحمزه بن عبدالمطلب. ووجد التجار البارزون، كعثمان ابن عفان، وعبد الرحمن بن عوف، ووجد الزهاد كأبي ذر الغفاري، ووجد طلبة العلم الحريصون كل الحرص على تدوين العلم كأبي هريرة، ووجد الحفظة، ووجد السفراء، ووجد المخططون، ووجد الدعاة، وهكذا لم تبق طاقة في ذلك الجيل لم تجد طريقها للاستغلال. إنه الفن القيادي، والحنكة التي تحرك الركود، وتوجد أجواء الابتكار لتتفجر الطاقات، وتنمو المؤسسة، وتنجز أهدافها، وتزداد إنتاجيتها.
اصنعها ولا تنتظر:
قد تكون الظروف الجديدة التي تحدث بغير إرادة منك هي التي تحرك بعض الطاقات الكامنة التي تلائم خروجها مع تلك الظروف، ولكن القائد المحنك لا ينتظر الظروف والأحداث، بل هو الذي يصنعها بالابتكار، ويفتح نوافذ جديدة في حياته، وحياة الآخرين لتظهر هذه الطاقات، والإنسان الناجح بشكل عام لا ينتظر الأحداث الكبرى كالكوارث والحروب ولا ينتظر الكرامات والمعجزات حتى يكتشف أو يوظف الطاقات الكامنة لديه أو لدى أتباعه، بل هو الذي يتقن فن إيجاد الظروف والمناخ والتغيير والتحريك الذي يفجر طاقاته وطاقات أتباعه الكامنة عن طريق الابتكار والتغيير.
البيئة القاتلة (3):
لا شك أن أحد أهم أسباب التقدم العلمي والتكنولوجي في الغرب بشكل عام، هو وجود بيئة مولدة للطاقات، ومحركة لها، ومفجرة للمكبوت فيها، بيئة متجددة على الدوام، بيئة يجد المرء فيها الابتكار بأجمل صوره، ويراه محتضَناً من الجميع، ومشجَعاً من الجميع، ولا يرى شيئاً يجمد سنين عديدة كما هو حادث في بلادنا للأسف الشديد، مما يجعل طاقاته الكامنة تتفجر، وتظهر، لتجد من يرعاها ويشجعها وينميها، لترى البيئة الصحية لنمو هذه الطاقات وتطورها.
فكم من مبدع في بلادنا نامت طاقته سنين طويلة، فعندما هاجر لتلك البيئات الصحية، المشجعة للابتكار، ظهر نجمه، وبدا واضحاً بعدما كان مطموساً(4). فالابتكار أحد أهم الأسباب التي تخرج الطاقات إلى الواقع.
----------------------------------------------
(1) رواه البخاري (الفتح 7551).
(2) فيض القدير 5-34.
(3) سنتحدث عن أثر البيئة لاحقاً.
(4) الكثير من المبدعين في بلاد الغرب من أصول عربية أو آسيوية، لم يبزغ نجمها إلا برحيلها لتلك الدول.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد