دور التحفيز في رعاية العملية الإبداعية


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

التشجيع و التحفيز هو من أهم الأمور التي يتوقف عليها نمو العلوم و ازدهار الآداب، ومن ثمّ نشوء الحضارات و تقدم الأمم و رقيّها، ذلك أن التشجيع يفتح الطريق أمام العبقريات المخبوءة فتظهر و تثمر و تؤتي أكلها، و ربّ إنسان من عامة الناس يجد التشجيع و التحفيز فيصير عالماً من أكابر علماء زمانه أو أديباً من أعاظم الأدباء.

بل إن التشجيع مهم حتى للعالم النحرير أو الأديب البارع، لأن ذلك يدفعه أكثر و يشدّ من عضده، و قد روي عن أحد الأدباء المشاهير أنه قال: إنني في هذه السن و بعد هذه الشهرة و المكانة تدفعني كلمة التشجيع حتى أمضي للأمام و تقعد بي كلمة التثبيط عن المسير.

و بالمقابل، فإن أكبر سبب لقتل النبوغ في النفوس و قتل العبقريات هو التثبيط، و الذي بدوره يؤدي إلى ركود العلم و نفوق سوقه، و إلى انحطاط الآداب و ركودها.

و لعل الكثير من الناس كانوا أهل نبوغ و ذكاء و أصحاب عبقرية واعدة، و لكن ألمّ بهم المثبطون ففلوا من عزائمهم و أحبطوهم و قتلوا الأمل في نفوسهم.

و من ذلك، ما روي أن أحد أهل العلم في بلاد الشام كان كثير العلم جليل القدر شديد البيان، و مع ذلك كله فلم يصنف كتاباً واحداً، و السبب في ذلك هو التثبيط، ذلك أنه صنف لأول عهده بالطلب رسالة مفيدة في علم المنطق، كتبها بلغة سهلة عذبة، بعيدة عن التعقيد و الصعوبة، و عرضها على شيخه فسخر منه و أنّبه و قال له: أيها المغرور! أبلغ من قدرك أن تصنف، و أنت، و أنت،.. ثم أخذ الرسالة و أحرقها، فكانت تلك الرسالة أول مصنفاته و آخرها!

و قد حكى الأستاذ العلامة علي الطنطاوي - رحمه الله - أنه كان يحاول أن ينظم الشعر (و كان ذلك في بداية دراسته) فيأخذ أبياتا قديمة فيغير قوافيها و يبدّل كلماتها و يدّعيها لنفسه كما يفعل بعض المبتدئين، حتى إذا اجتمع عنده كثير من القطع عرضه على أستاذ العربية بالمدرسة، فلما قرأها سخر منه و سبه و تهكم عليه، فكانت النتيجة أنه عجز عن قول الشعر، حتى لنقل البحر بفمه أهون عليه من نظم خمسة أبيات!

فانظروا إلى شناعة التثبيط و سوء مآله، إنه قتل الشاعرية في نفس الأديب الذي لو قدّر له أن يكون شاعراً لبز كل شاعر!

و لعل من أبلغ العبارات التي قيلت في ذم التثبيط ما قاله العلامة محب الدين الخطيب:

\" وقد عجبت من أولئك الذين يسعون في تثبيط الهمم، و كان الأجدر بهم أن يشفقوا على أنفسهم و يشتغلوا بما يعود عليهم و على غيرهم بالنفع، و لم ير أحد من المثبطين قديماً أو حديثاً أتى بأمر مهم، فينبغي للجرائد الكبيرة أن تكثر من التنبيه على ضرر هذه العادة و التحذير منها، ليخلص منها من لم تستحكم فيه، و ينتبه الناس لأربابها ليخلصوا من ضررهم\"، و من أقواله - رحمه الله - في التشجيع: \" إذا جاءك من يريد تعلم النحو في ثلاثة أيام فلا تقل له أن هذا غير ممكن، فتفل عزيمته و تكسر همته، و لكن أقرئه و حبب إليه النحو، فلعله إن أنس به واظب على قراءته \".

و لئن كانت حاجة السابقين إلى التشجيع و رفع الروح المعنوية كبيرة، فإن الحاجة في عصرنا إلى التشجيع المادي أشد منها للتشجيع المعنوي، ذلك أن كثيراً من أصحاب الأذهان المتفتقة و العبقريات الواعدة إنما هم فقراء معدمون، و لم أنهم استراحوا من همّ العيش و اشتغلوا بالعلم لبرزوا فيه و برعوا و نفعوا أمتهم، و خلفوا للأجيال الآتية تراثاً علمياً ضخماً كالذي خلفه لنا الأجداد، و لكن أنى لهم ذلك؟! و من أين لهم العقول التي يدرسون بها، و الهمة التي يؤلفون بها و عقولهم ضائعة في البحث عمّا يسد الرمق و يملأ المعدة الجائعة، و يستر الأجساد العارية! ولقد نقل عن الشافعي - رحمه الله - أنه قال: \" لو كلفت شراء بصلة ما تعلمت مسألة \" فكيف بمن يعمل و يكدح ليحفظ حياته من الهلاك.

إن كثيراً من الشباب في زماننا هم ممن يؤمل لهم أن يكونوا علماء نحارير و حفاظاً ثقات و أدباء بارعين، و لكن قدر عليهم الإفلاس و سدت عليهم منافذ اليسار فانقطعوا عن المطالعة و الدرس و ألقوا القرطاس و القلم، و خرجوا يضربون في الأرض، يمشون في مناكبها ليأكلوا من رزقها.

إن كثيراً ممن تقدم وصفهم يكون أول أمره كاتباً مجداً و شاعراً محسناً و عالماً باحثاً، فما إن تنزل به الحاجة و تنيخ عليه (هموم الخبز) حتى تقطعه عما هو فيه، ثم تذوي ملكاته و تجف قريحته و تتركه يموت على مهل، و يموت بموته النبوغ.

و الدولة و المجتمع يشهدان مصارع أولئك في صمت و إعراض، لا يهتمون بهم و لا يظنون أن عليهم واجباً تلقاءهم، حتى إذا قضوا قاموا يشيدون بذكرهم و مواهبهم.

 

لا ألفينك بعد الموت تندبني  * * * و في حياتي ما زودتني زادي

 

أفليس هناك من طريقة لإنقاذ تلك الأدمغة لحماية النبوغ من الضياع؟

هل يجب أن يموت النابغ لأنه نابغ، و يعيش الأغبياء و الجاهلون؟ أم يجب عليه أن يميت نبوغه ليعيش و يبيع عقله و ذكاءه برغيف من الخبز؟!

و الحمد لله أولاً و آخراً....

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply