قواعـد في الرأي والنصيحة في الإدارة الإيمانية


 

بسم الله الرحمن الرحيم

  

 قال الله - سبحانه وتعالى -: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدّمت لغدٍ, واتقوا الله إنَّ الله خبيرٌ بما تعملون. ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون) [الحشر: 18-19].

 

(أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً. وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو رَدّوه إلى الرسول وإلى أُولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلاً) [النساء: 82-83].

 

(يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأُولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردّوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خيرٌ وأحسن تأويلاً) [النساء: 59].

 

(ولا تقفُ ما ليس لك به علمٌ إنَّ السّمعَ والبصرَ والفؤادَ كلّ أولئك كان عنه مسؤولاً) [الإسراء: 36].

 

(يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً) [الأحزاب: 70].

 

وعن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنّه قال: (… إياكم والظن فإن الظنّ أكذب الحديث) [متفق عليه].

 

 وعن أنس - رضي الله عنه - أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان \" إذا تكلّم بكلمة أعادها ثلاثاً حتى تفهم عنه، وإذا أتى على قوم سلم عليهم ثلاثاً \" [رواه البخاري].

 

 وعن أبي رقية تميم بن أوس الداري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:

(الدين النصيحة \" قلنا لمن يا رسول الله. قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم) [رواه الخمسة].

 

 وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من حُسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه) [رواه الترمذي].

 

 وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحبّ وكره ما لم يؤمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة) [رواه الشيخان والنسائي وأبو داود].

 

 وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأنّ رأسه زبيبة) [رواه الشيخان].

 

 هذه بعض النصوص من المنهاج الرباني ـ قرآناً وسنّة ولغة عربية ـ، نودٌّ أن يقف معها المسلم دراسة وتدبّراً ليتدرّب على ردِّ الأمور إلى منهاج الله، وعلى كيفية الاستفادة التطبيقية من الآيات والأحاديث في الواقع البشري.

 من أهمّ ما تهدف إليه الدعوة الإسلامية في مختلف مراحلها، وفي بناء الرجال وإعدادهم، تدريبهم على أن يعيشوا مع كتاب الله وسنّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مصاحبةً ومداومةً، وتدبراً ووعياً، ثم أخذ الزاد اللازم لهم في واقع الحياة، الزاد الذي يبني لهم فقههم ونهجهم وممارستهم الإيمانية، ثم ينطلقوا ليمارسوا منهاج الله في الواقع البشري.

 نريد أن لا يتلو المسلم كتاب الله بلسانه، وقلبه مشغول في دنياه. نريد أن يتلو كتاب الله بخشوع وتدبّر، وهو يبحث فيه عن إجابة لما يدور في ذهنه من قضايا ومشكلات وتساؤلات.

 نريد من المسلم أن يخرج من التلاوة بالتدبّر، ومن الدراسة والتدبّر، ومن الحفظ والتدبّر، بالفقه الذي يحتاجه في حدود مسؤولياته واختصاصه، ثم ينطلق إلى الممارسة والتطبيق: تلاوة وحفظ وتدبّر، ثم ممارسة وتطبيق.

 هذه بعض النصوص من منهاج الله ـ آيات كريمة وأحاديث شريفة، توجّه إلى منزلة الكلمة في الإسلام وخطورتها، وإلى الرأي وشروطه وحدوده، وإلى آداب الكلمة والرأي.

 والرأي والكلمة لهما دور كبير في الإدارة والنظام، في الشورى والحوار، في التوجيه والمتابعة والإشراف.

 ولا ينجح دور الكلمة والرأي بخصائصهما الربانيّة إلا في الجوِّ الإيمانيّ الربّاني الملتزم بمنهاج الله. وبذلك يُصبح للرأي المؤمن المنضبط بضوابط الإيمان دور كبير في تنمية الإدارة وكفاءاتها وطاقاتها البشرية، وكذلك تنمية قواعدها ونظمها.

 وعلى هذا الأساس تُصبح الإدارة قادرة على ضبط الرأي والكلمة، ويُصبح الرأي والكلمة قادرين على تنمية الإدارة، وتصبح الإدارة نفسها جزءاً من النهج والتخطيط، أو النهج والتخطيط جزءاً من الإدارة، فتتداخل الإدارة والنهج والتخطيط حتى لا يستغني واحد منهما عن غيره وبتماسك الإدارة والنهج والتخطيط تبرز أهميّة كلّ واحد منها.

 هناك فرق كبير بين العمل الذي يخضع لنهج وخطة وإدارة، وبين العمل المتفلّت من ذلك كلّه. لقد غلب على بعض المسلمين أن تكون مجالسهم العامة ميداناً لمناقشة أيّ قضيّة مناقشة متفلّتة، لا تقوم على دراسة، ولا تدور فيها الشورى، ولا سلامة الرأي. والإسلام يحرص في إدارته أن يرعى نشاط المسلم ويوجِّهه التوجيه الإداري المنضبط، ليؤتى ثماره المباركة، ومثل هذه الجلسات المتفلّتة لا يحمل أفرادها مسؤولية ما يقولون، ويتفرّقون بعدها دون نتائج ملزمة، أو قرار مجدٍ,، أو جمع للكلمة. وربّما تدور فيها الغيبة والنميمة، والافتراء والظلم، والكذب والاعتداء، دون تمحيص ولا رويّة، فتتنافر القلوب. وقد تؤدّي إلى فتنة. وربّما يوسوس الشيطان في مثل هذه المجالس، فيزيّن بعض الآراء الضالّة، أو بعض الخطوات المؤذية، أو تتحوّل إلى همس ونجوى، أو فتنة مدمّرة، دون توافر فرصة لإصلاح أو نصح أو موعظة.

 لذلك كلّه لا يجوز بحث أيّ قضيّة من قضايا الدعوة الإسلامية الهامة إلا في لقاء منضبط بقواعد الكتاب والسنّة، وبقواعد نهج الدعوة وإدارتها، وفي حدود اختصاص اللقاء. ففي مثل هذا اللقاء تكون الشورى جادة ومنضبطة بقواعدها، والتناصح ممكناً، واستكمال الخطوات الإدارية ميسوراً، وكذلك الإشراف والمراقبة والتوجيه، والرعاية والمتابعة، كلّ ذلك في نور الإيمان والتوحيد، وبركة العلم بالمنهاج الرباني، مع توافر حريّة الرأي المنضبطة بالإسلام.

 ومن أجل ذلك نوجز هنا أهمَّ القواعد الإدارية التي يجب مراعاتها عند إعداد الرأي أو تقديمه أو عند الحوار بالنقاط التالية:

1- كلٌّ مسلم يملك حريّة الرأي لا يقيّدها إلا الخصائص الربَّانيّة التي نصَّ عليها منهاج الله.

2- صدق النيّة وإخلاصها لله - سبحانه وتعالى -.

3- إعطاء الرأي عن علم وتبيّن، لا عن ظنٍّ, وتخمين، وعن فهم سليم للموضوع المطروح.

4- إعطاء الرأي مع البيّنة والدليل والحجّة، بعيداً عن الارتجال وردود الفعل النفسية، والتأثّرات العاطفية الهائجة.

5- إعطاء الرأي مصحوباً بالدراسة الوافية الجادّة التي تحمل معها البيّنة والحجّة، وسائر ما تتطلبه الدراسة الجادة، حتى لا يضيع وقت المسلمين عبثاً.

6- يُقدَّم الرأي في الوقت المناسب والمكان المناسب، والأسلوب المناسب، حتى لا يتحوّل الرأي إلى قيل وقال، وإلى إشاعات أو جدل ومراء، أو فتنة وخصام.

7- لا يحقّ لصاحب الرأي أن يعتبر رأيه هو الرأي الصواب الوحيد، وأنه ملزم للجميع. ولكن من حقّه أن يُدرَسَ رأيُه مع سائر الآراء المستوفية للشروط كلّها من خلال الشورى وقواعدها دراسة جادّة ليُتَّخَذَ القرار الأقرب للتقوى.

8- يحرص المؤمن عند تقديم رأيه على أن يغلق أبواب الشيطان ومنافذ الفتنة، ليكون رأيه نُصحاً خالصاً لله يُثاب عليه، لا يتحوّل إلى قيل وقال، ومراء وجدال، ومعصية وإثم، وفتنة وشقاق.

9- الوضوح والبيان، والصدق والأمانة، والدّقة في التعبير، وسائر القواعد والآداب الإيمانية ضرورة لضمان سلامة الرأي، وسلامة الشورى، وسلامة القرار، وتجنّب المصطلحات العامة والتعبيرات التي تحتمل أكثر من وجه.

10- الرأي الذي لا يستوفي شروطه الإيمانية يردّ إلى صاحبه ليستوفي فيه الشروط أو ليسحبه.

11- تُرَدٌّ جميع الآراء عند دراستها إلى منهاج الله، وإلى حاجة الواقع الذي يُدرَس من خلال منهاج الله، وتدرس الأدلة المصاحبة للرأي، ليحدّد أقربها للتقوى.

12- يجب أن يكون الرأي الذي يقدّمه المسلم نُصحاً لأخيه المسلم أو لأهله أو لدعوته أو لأمته، يحمل معاني النصح والصدق والإخلاص بصورة جليّة باختيار الأسلوب والمكان والزمان.

13- يلتزم المؤمن حدوده التي شرعها الله له، فلا يتجاوزها ولا يعتدي، ولا يفتري.

14- يجب اجتناب الظنّ الذي نهى عنه الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، والأخذ بالظنّ حيث يسمح الله ورسوله في ذلك، من أجل الحذر الذي أمر الإسلام به.

15- من أهم آداب الرأي والحوار والشورى الإنصات حين يُدلي أحد برأيه، حتى يُفهم الرأي، فلا يقاطع أحدٌ أحداً، ويأخذ كلّ دوره بعدالة وموازنة، وإدارة واعية حازمة.

16- الرأي في الإسلام رأي مسؤول. إن المسؤولية ملازمة للتكاليف. فصاحب الرأي مسؤول عن كلمته ورأيه في الدنيا والآخرة، وتتضح المسؤولية حين تتحدد في النظام الإداري، وحين تتحدّد فيه الصلاحيات.

17- صدق النية وصفاؤها وإخلاصها لله - سبحانه وتعالى -، وصدق العلم أساس الرأي. ولكن هذه الشروط لا تطلب ممن يقدّم رأيه فحسب، وإنما هي مطلوبة كذلك ممن يدرس الآراء ليختار أفضلها وأقربها للتقوى، أو ممن يتخذ القرار.

18- لا يُقدّم الرأي الجادٌّ في لقاء متفلّت غير مسؤول، وإنما يقدّم في لقاء رسمي، على أن يكون موضوعه من اختصاص ذلك اللقاء وصلاحياته. وأما إذا كان خارجاً عن اختصاص اللقاء فيقدّمه المسلم مكتوباً إلى الجهة المختصّة لتتخذ الإجراءات بخصوصه وليُدرَسَ، وليجاب صاحب الرأي على رأيه بالقبول أو الرفض أو التعديل.

19- الذي يُقدّم رأياً إلى جهة مختصّة، عليه متابعة الموضوع حتى يحصل على الإجابة. وإذا تأخر الردّ فيُرفع الأمر إلى جهة مسؤولة أعلى، ويظلّ يتابع الأمر حتى يحصل على الردّ الرسمي.

20- لا تحيل جهة مختصّة قضيّة أو رأياً إلى جهة مختصّة أخرى، إلا ومعه الدراسة من الجهة الأولى والتوصية والنصح والرأي، مع الحجّة والبيّنة، حتى يتحمّل كلّ مسلم مسؤوليته على صورة إيمانية واعية.

 إن قضيّة الرأي قضيّة هامة، فحرية الرأي المنضبطة بضوابط الإسلام، ترتبط بقواعد النصيحة كما رأينا، وبقواعد السمع والطاعة. وتصبح قواعد الرأي والنصيحة والموازنة وأدب الاختلاف وقواعد السمع والطاعة قواعد أساسيّة في الإدارة الإيمانيّة.

 وهذه القواعد كلّها، لا يتيسّر تطبيقها وممارستها إلا في جوّ إيمانيّ، يعرف فيه كلّ مسلم مكلّفٍ, مسؤولياته وحقوقه، ويعرف حدوده والتزاماته، معرفة نابعة من تدبّر منهاج الله ودراسة الواقع من خلال منهاج الله.

وإذا رجعنا إلى مدرسة النبوة رأينا الحرص الشديد على بناء الإنسان المسلم المكلّف الذي يعرف مسؤولياته وحقوقه وحدوده، معرفة تتلاقى فيها الجهود والعزائم في إشراقة الإيمان والتوحيد.

 ونلاحظ من الآيات الكريمة السابقة ومن الأحاديث النبوية الشريفة أن جميع التصوّرات والقضايا والقواعد نابعة من الإيمان والتوحيد ومنهاج الله. فكيف يتمّ الرأي بقواعده الإيمانية، وكيف تُعرَفُ حدوده، وكيف تدور النصيحة والشورى والسمع والطاعة في جوّ لا يعرف المسلم فيه مسؤولياته وحقوقه.

 لذلك كان طلب العلم فريضة على كلّ مسلم.وعلى أساس هذا العلم بمنهاج الله تقوم الإدارة الإيمانية بجهود متناسقة متكاملة واعية في جميع المستويات.ولا فائدة تُرجى من العلم إذا لم يصدق الإيمان والتوحيد، وإذا لم تصدق النيّة.فهو صراط مستقيم مترابط متماسك، لا يُستغنى فيه عن أي جزء منه.

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply