كيف تصبح كاتبا ( 3 )


بسم الله الرحمن الرحيم

 

تنمية الموهبة:

أ- العقيدة والسلوك والأخلاق

1- المؤمن والكتابة:

إن وعي المؤمن بنفسه، ووعيه بربه وخالقه، وفهمه لمهمته في الحياة من خلال الوعيين السالفين، يجعله يختار لنفسه الطريق السديد الذي يتقنه، للتعبير عن عميق إيمانه وفهمه لمغزى وجوده المذخور في خلة عظيمة رائعة هي \"التبليغ\"º تلك الخلة التي يبنى عليها صلاح الحياة وصلاح الإنسان وعلاقاته بالكون وبالإنسان الآخر والحياة.

 

وإن مراكب اللغة والبيان هي أهم ما يحمل التبليغ في طريقه إلى الآخر. وكلما كان البيان عميقاً بليغاً مؤثراً ازدادت مساحة انتشاره أفقياً وعمودياً.. وهذا مالا يملكه إلا أصحاب المواهب والمنح الربانية.

 

فهل يكتفي صاحب الموهبة بالمنحة، ويقعد عندها لا يتجاوزها؟ أم أن هذه المنحة محتاجة إلى اتخاذ الأسباب، من أجل ترقيتها ونمائها وصقلها، وجعلها متأهبة دائما للأخذ بالأفضل والأبلغ والأقدر على الوصول إلى الناس؟

 

دعك من قول القائلين العابثين: (الفن للفن)! والكتابة الفنية لا تحتمل الغرض، فهو يفسدها..! لأن هذا الاتجاه عبث كله، غثاء كله، تدمير كله، فالقول مثل العمل، إن لم تترتب عليه منفعة وفائدة للإنسان، تجعله دائما قريبا من السداد والرشاد، يكون صاحبه كمن يقفز في الهواء بلا هدف، فهو إما أن يرتطم بأي شيء فيحطمه، أو يضيع مع الريح في الفضاء، مضيعا كل من صدقه في لحظة من اللحظات.

 

والمؤمن الذي يكتشف موهبته في الكتابة، مدعو إلى اتخاذ كل الأسباب لامتلاك ناصية البيان، واعتلاء أرفع صهوة من صهواته، وذلك بغية ارتقاء شمم التبليغ، والوصول من أقصر الطرق وأسهلها وألينها قبولا، وأبلغها أثرا، فهو على علم أكيد أن هذه الموهبة ليست للتسلية والعبث، أو التضليل والإفساد، بل هي عاملة في صميم الحياة الإنسانية، ترقية، وإعلاء للقيم، وخدمة للإنسان، مهتدية بالإيمان العميق، المنطلق من قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: \"الخلق عيال الله أقربهم إلى الله أنفعهم لعياله\".. وليس أقدرهم على الولوغ في تحريك غرائزهم، وتحريض حيوانيتهم، وقتل القيم فيهم ببث فلسفات مزاجية أهوائية، يصنعها خيال الإنسان وعقله القاصر عن بلوغ مرامي القضايا الكبرى بعيدا عن الهدي الرباني..

 

وأولئك من قال فيهم الأديب الرفيع (مصطفى صادق الرافعي) قولة مفحمة رادعة مرددة: \"ناهيك بها عقولا ضيقة معتلة غلب عليها الكيد، وأفسدها التقليد، ونزع بها لؤم الطبع شر مترع، حتى استهلكها ما أوبقهم من فساد الخلق، وما يستهويهم من غوايات المدنية.. وكانوا في ا لعلم كالنبات الذي خبث.. \"(1).

 

2- تنمية الموهبة:

إن النطق بالكلمات، أو نقلها مباشرة من حاضنتها في فكر الكاتب ومخيلته إلى الورق كلمات منظومة أو منثورة، ومعاني رفيعة بالصور والبيان العالي، عملية تستوحي كل المخزون الثقافي والفكري والروحي للكاتب، وتستحضر الخبرة والتجربة الإنسانية التي مرت به، لتقوم جميعا في حشد كل الألفاظ والمعاني المناسبة للتعبير عن التجربة التي يمر بها هذا الكاتب في لحظة ما... وإذن فإن الموهبة المذخورة تستنجد في زمن ما بكل الجهود والتجارب والخبرات التي تبذل من أجل الوصول إلى تعبير رفيع مؤثر فاعل نافع.

 

فهل من سبيل لمعرفة وسائل تنمية موهبة الكتابة عند من يجدها في نفسه من المسلمين؟

 

نعم... وإنها أسباب تتعلق:

 

- بالعقيدة والسلوك والأخلاق.

 

- بالمعرفة بفروعها وأقسامها.

 

- بالمران والتأدب والتجريب وتهذيب اللسان.

 

- بفهم الجو الذي يعيشه (حياة وثقافة المجتمع المحلي وغير المحلي)

 

- بإتقان مهارات العصر الذي يعيش

 

وإننا في بقية السطور من هذا البحث، سوف نلقي الضوء على البند الأول من أسباب تنمية الموهبة ونعني به:

 

أ- علاقة العقيدة والسلوك والأخلاق بترقية الموهبة تنميتها:

قال ابن قتيبة: \"ونحن نستحب لمن قبل عنا وائتم بكتبنا أن يؤدب نفسه قبل أن يؤدب لسانه، ويهذب أخلاقه قبل أن يهذب ألفاظه، ويصون مروءته عن دناءة الغيبة، وصناعته عن شين الكذب\"(2).

 

وإنه لما كان فن الكتابة والأدب سبيلاً عظيماً يقود إلى نفع الإنسان والاتقاء به وبحياته في دروب الحياة الشاقة، كان أهل الكتابة محتاجين أشد الحاجة إلى إيمان راسخ، وسلوك نظيف، ولسان نقي نزيه، لأن من لا يملك ذلك منهم يكون وبالاً على نفسه وعلى الناس، فيفسد حياتهم، ويؤثر تأثيراً سيئاً في سلوك الأجيال، وفي علاقاتهم وأخلاقهم، ويؤدي إلى اعتلال صيغة الحياة اليومية التي يعيشونها.

 

وبما أننا نتكلم في بحثنا هذا عن الكاتب المؤمن وصاحب الموهبة المسلم، فإن أول سبب من أسباب ترقية هذه الموهبة وتنميتها يتمثل في الالتجاء إلى العقيدة، فقد ذمّ الله - تعالى - الشعراء بقول نهائي حاسم إذ بيّن جل شأنه ذلك في سورة الشعراء فقال: (والشعراء يتبعهم الغاوون، ألم تر أنهم في كل واد يهيمون، وأنهم يقولون مالا يفعلون، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيراً وانتصروا بعدما ظلموا وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون) الشعراء: 27.

 

ويقاس على الشعراء في هذا الحكم كتاب الأدب جميعاً.. وقد استثنى ربنا - سبحانه وتعالى- في هذا الذم أصحاب العقيدة من الأدباء الذين آمنوا بعقيدة الإسلام، وألحقوا الإيمان والكلام بالعمل، وسلكوا مسالك الصالحين خلقاً وتصرفاً قولاً وعملاً، وكتبوا ما كتبوا من أجل هدف واحد هو الانتصار لقوى الخير ومبادئ الصلاح، التي تسير بالإنسان إلى شواطئ النجاة في الدنيا والآخرة.

 

وبهذا الاعتبار فالكاتب محتاج إلى الانطلاق من التصور الإسلامي للكون وللإنسان وللحياة، كي يستقيم لسانه، ويفلح عمله، وينتقل بالناس إلى ساحات النقاء وميادين التعايش والسلام الاجتماعي والسياسي والحياتي، وإلا كان كالملاح في المحيط بلا بوصلة في ليلة عاصفة مظلمة.

 

وليس كالرؤية الربانية رؤية تقود الإنسان عامة والكاتب الطليعي المؤمن بسلام في خضم الموج المتلاطم من الضياع الإنساني العصري، ولا تغرنك عظمة الأسماء المطروحة، وكمية الجوائز المزجاة لهذا الكاتب أو ذاك، فهذا كله مبني على رؤى ومنطلقات تائهة خلف النسخة الأصلية المتبناة من أصحاب الجوائز.. وإذا أردت التأكد من ذلك فانظر في محيطك ثم انطلق إلى المحيط العالمي.. لتجد أن أعظم الأسماء وألمعها لم يقدم للإنسان طريقاً سديداً للخلاص.. صحيح أن بعض هؤلاء قدّم صورة دقيقة وواقعية عن الذي يجري على الأرض بعجزه وبجره، على أنه الشيء الإنساني العظيم إلا أنه عندما اكتشف هذا البعض أن هذا واقع غير سديد حاول التشخيص لكل واحداً من هؤلاء لم يقل للناس.. أين هو الطريق السديد، ولم يجب على الأسئلة الخالدة التي تواجه الإنسان في هذه الحياة إجابات سديدة، بل إنهم قادوا الإنسانية إلى جراح دميت وتقيحت ثم تحولت إلى حفار يحفر في أركان وأساسات الإنسانية وإيمانها وسدادها، بل إن اتجاهات الصورة الأصلية للكتابة وظلها الببغاوي أوصلا إلى هذه الفوضى الفكرية والسلوكية التي نراها اليوم، وإلى صيغة الهيمنة التي تسوق كل الأمم إلى مصير واحد، تؤدي فيها هذه الأمم استحقاقات الرفاه لشعب واحد؟ أو شعوب بعينها، تحاول فرض رؤاها ومستهلكات عقولها المادية وروحانياتها الخاوية على بقية الشعوب بالقوة، تحت ذريعة العولمة وذراعها الواصلة..

 

والخلاصة إن الكتابة ليستن هدفاً، بل هي إحدى الوسائل لإنقاذ الإنسان من براثن الظلم الواقع عليه، من نفسه ومن محيطه القريب والبعيد، فإذا لم يكن الكاتب مؤمناً ذا عقيدة ربانية راسخة، تمتلك عليه لسانه وقلمه وأفكاره، ينظر بنورها، ويتكلم إذا تكلن بلسانها، ويجري قلمه على الورق بهد\\ي منها، ونور ينطلق من شعاعها، حاملاً في كل ذلك رؤاها وأجوبتها المتعلقة بحياته ومماته وحياة الناس وعلائقهم ومسيرة حياتهم والمآل النهائي الذي تصل إليه هذه الحياة إذا لكم يكن الكاتب كذلك، فإن متعرجات الهوى تستولي على فكره وعقله ومزاجه، فيضيع، ويضيع من خلفه، مهما نبغ اسمه، وعلا رسمه، أو أقبل الناس على ثراءته، لأن هذا الإقبال حينئذ تابع لعملية الضياع، التي تدور رحاها الرهيبة في عالم الكتابة المعاصرة، إذ أن كمها الرهيب، ووسائلها الطاحنة، يأكلان كل توجه جاد لإنقاذ الناس من محاولات العولمة للفصل التام بين الثقافة والقيم والمعتقدات، وذلك من أجل تجاوز المعتقدات وقيمها، وإلقاء الإنسان في دوامة تبتلعه بعد أن يصل حد الإعياء، ويفقد كل قواه وخصوصياته، وذلك مصداقاً لقوله - تعالى -: \"ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن بل أتيناهم بذكرهم فهم عن ذكرهم معرضون\" المؤمنون: 72.

 

ــــــــــــــــــ

(1) مقدمة الطبعة الثالثة من \"إعجاز القرآن\" نشر دار الكتاب العربي ص 9

(2) أدب الكاتب ط ثانية دار الرسالة ص 14

 

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply