بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من بعث هاديا للعالمين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم ومن واله إلى يوم الدين.
ينبغي الاعتراف بأن عالم اليوم هو عالم الأزمات لأسباب تتعلق بالتغييرات الكثيرة التي حدثت في مجالات الحياة السياسية والاقتصادية والسكانية والبيئية والتي أثرت في حياة الإنسان داخل الكيان الاجتماعي والتنظيمي، فقد أصبح من المعروف بأن التحدي الكبير الذي يواجه الأفراد والمنظمات والدول يتحدد بسلسلة من الأزمات التي تختلف في طبيعتها وحجمها وعوامل تحريكها مؤدية إلى خلق الصعوبات والمشكلات وإحداث الانهيارات في القيم والمعتقدات والممتلكات، لذا فإن مواجهة الأزمات والوعي بها يعد أمرا ضروريا لتفادي المزيد من الخسائر المادية والمعنوية.
تعرّف الأزمة بأنها: (تهديدا خطرا أو غير متوقع لأهداف وقيم ومعتقدات وممتلكات الأفراد والمنظمات والدول والتي تحد من عملية اتخاذ القرار).
أما إدارة الأزمات فهي: (فن إدارة السيطرة من خلال رفع كفاءة وقدرة نظام صنع القرارات سواء على المستوى الجماعي أو الفردي للتغلب على مقومات الآلية البيروقراطية الثقيلة التي قد تعجز عن مواجهة الأحداث والمتغيرات المتلاحقة والمفاجأة وإخراج المنظمة من حالة الترهل والاسترخاء التي هي عليها).
لقد وضع الفكر الإداري الحديث عددا من الخطوات يمكن إتباعها عند حدوث الأزمة، وهي كما يلي:
• تكوين فريق عمل لوقت الأزمات وإمداده بأفضل الكوادر والتجهيزات والأدوات.
• تخطيط الوقت أثناء الأزمات والاستفادة من كل دقيقة في تخفيف أثر الأزمات.
• الرفع من معنويات العاملين وقت الأزمات مما يشعرهم بالحماس والحيوية والالتزام بالعمل.
• الإبداع والتجديد في المواقف العصيبة وإشعال روح الإبداع لدى العاملين لتقديم حلول وآراء غير مسبوقة
• حل المشكلات وقت الأزمات بتحديد المشكلة وإجراء المشورة ومن ثم اختيار الحل الأنسب من الحلول المتاحة.
• تقبل التغيير وقت الأزمات.
• العمل على حصر الأزمات التي من المتوقع أن تحدث في الحاضر والمستقبل والعمل على دراستها ووضع بدائل للحلول المناسبة لها.
ولكن نجد أن نموذج (إدارة الأزمات) الذي وضعته الإدارة الحديثة تجاهل بعض النواحي الإسلامية التي يمكن تضمينها لاستخلاص نموذج إداري متكامل لإدارة الأزمات يعتمد على الأسس التي اعتمدت عليها الإدارة الحديثة بعد تأصيلها بالفكر الإسلامي، ولنا في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسوة حسنة في تفعيل الأزمات والاستفادة منها وفي كيفية تحويل المحنة إلى منحة وتحويل الموقف السلبي إلى إيجابي وذلك بقوة الإيمان والعزم والتوكل على الله، والنموذج الإسلامي لإدارة الأزمات يمكن وضعه على الصورة التالية:
• أن يكون مرجع إدارة الأزمة نابع من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - .
• الشعور بالطمأنينة والثقة بالله - سبحانه وتعالى- ثم الثقة بالذات والنفس ويضع في اعتباره قوله - تعالى -: (ومن يتوكل على الله فهو حسبه).
• التعلق بالله - جل وعلا - والإكثار من الدعاء: ففي غزوة بدر عندما ظل النبي - صلى الله عليه وسلم - رافعا يديه إلى السماء يدعو ربه ويقول: (اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لن تعبد في الأرض بعد اليوم) فما زال يهتف بربه، ماداً يديه مستقبل القبلة، حتى سقط رداؤه عن منكبيه حتى جاءه أبو بكر - رضي الله عنه - قائلا: إن الله منجز وعدك يا رسول الله، ويوم أن قال له الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فقال - صلى الله عليه وسلم -: (حسبنا الله ونعم الوكيل)، ويقول - تعالى -: {وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين} (غافر: 60)، ويجب علينا ألا ننسى (إن الله يحب الملحين بالدعاء)، ومن ذلك فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - كما يحدث به علي - رضي الله عنه - يقول: لقد أتينا ليلة بدر وما فينا إلا نائم إلا النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي إلى شجرة ويدعو..)، ويقول - صلى الله عليه وسلم - : (ما على الأرض مسلم يدعو الله بدعوة إلا آتاه الله إياها أو صرف عنه السوء مثلها ما لم يدعو بإثم أو قطيعة رحم) رواه الترمذي.
• الثقة بالله - جل وعلا -: وما يشير إلى ذلك قوله - تعالى -: {فإن مع العسر يسرا * إن مع العسر يسرا} (الشرح: 5 6)، وقوله - تعالى -: {ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين} (آل عمران: 139)، وأيضا في غزوة بدر عندما وقف النبي - صلى الله عليه وسلم - يشير إلى مواطن الأرض، ويقول: هذا مصرع فلان وهذا مصرع فلان، يقول الصحابة: فما اخطأ موقع أحدهم، وبعد موتهم ودفنهم في القليب وقف أمام القليب - صلى الله عليه وسلم - وقال: (إنا وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا)، وفي هذا يقول الشاعر:
ولرب نازلة يضيق بها الفتى *** ذرعا وعند الله منها المخرج
ضاقت فلما استحكمت حلقاتها *** فرجت وكنت أظنها لا تفرج
• الاستفادة مما سبق من تجارب ماضية: والنبي - صلى الله عليه وسلم - يؤكد على عدم الوقوع في الأمر مرتين فيقول: (لا يلدغ المؤمن من جرح مرتين) متفق عليه، والاستفادة من الأزمة لمعرفة الصديق المساند من العدو المتهرب، يقول الشاعر:
جزى الله الشدائد كل خير *** عرفت بها عدوي من صديقي
ويقول الشاعر أيضا مادحا أعداءه على فضلهم عليه بقوله:
عداتي لهم فـضل علي ومنة *** فلا أبعد الله عني الأعـــاديا
همو بحثوا عن زلتي فاجتنبتها *** وهم نامشوني فاكتسبت الأعاديا
فالواجب علينا الاستفادة من تجاربنا السابقة وتجارب الآخرين أيضا والعمل على قراءة المستقبل من خلال معرفة الماضي للاستفادة من زماننا حتى لا يضيع سدى.
• عدم تقليد المنظمات الأخرى في حلول الأزمات التي تتبعها، فما يناسب منظمة ليس بالضرورة أن يناسب منظمة أخرى لعدم تكافؤ الظروف بين المنظمات.
• المبادأة والابتكار فيما يخدم تغيير المنظمة نحو الأفضل، فالقائد الناجح عليه إشعال حماس العاملين الأمر الذي يؤدي إلى رغبة الفرد في المشاركة وحل الأزمة، فعلى سبيل المثال إتاحة الفرصة للتعبير عن النفس، وتحقيق الذات، والإحساس بأن الفرد نافع، والرغبة في الحصول على معلومات، والرغبة في التعرف والعمل مع زملاء جدد، والإحساس بالانتماء إلى عمل خلاق ومكان عمل منتج، والرغبة في النمو والتطور من خلال الإبداع والتطوير، وغيرها من مثيرات الحماس والدافعية.
• أن يتبنى إدارة الأزمات داخل المنظمة قائدا يتمتع بصفات تؤهله لإدارة الأزمات وحل المشكلات، ومن هذه الصفات (العلم الخبرة الذكاء سرعة البديهة القدرة في التأثير على الأفراد التفكير الإبداعي والقدرة على حل المشاكل والسيطرة على الأزمات القدرة على الاستفادة من علوم الآخرين وخبراتهم القدرة على الاتصال الفعال بالآخرين وتكوين العلاقات الإيجابية الرغبة والحماس)، يقول - تعالى -: {إن خير من استأجرت القوي الأمين} (القصص: 26).
• الموازنة الموضوعية بين البدائل المتاحة واختيار أقربها إلى حل الأزمة وتحقيق مصلحة العمل والمنظمة فيما لا يخالف الشريعة الإسلامية، وهذا ما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - عندما جمع أصحابه في غزوة الخندق يأخذ رأيهم، فعرضوا عليه آرائهم وكان من بين الآراء رأي سلمان الفارسي - رضي الله عنه - الذي أشار إلى حفر الخندق فأخذ برأيه النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنه الأقرب للصواب.
• يعتبر (الصبر) من أهم الصفات التي يجب على القائد التحلي بها عند الأزمة، وتتضح أهمية الصبر من موقف النبي - صلى الله عليه وسلم - في حل أزمة الحصار الاقتصادي عليه وعلى الذين آمنوا معه قبل الهجرة: يقول - تعالى -: {يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين} (البقرة: 153)، وفي موقف آخر \" لما عجزت قريش عن قتل النبي - صلى الله عليه وسلم - أجمعوا على منابذته و من معه من المسلمين، فكتبوا كتاباً تعاقدوا فيه على ألا يناكحوهم و لا يبايعوهم و لا يدعوا سببا من أسباب الرزق يصل إليهم و لا يقبلوا منهم صلحاً و لا تأخذهم بهم رأفة حتى يسلم بنو المطلب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليهم ليقتلوه، و علقوا الكتاب في جوف الكعبة و اشتد البلاء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - و الذين آمنوا معه حتى كانوا يأكلون الخبط و ورق الشجر و كان التجار يغالون في أسعار السلع عليهم و كان الأطفال يتضاغون من الجوع، و لم تترك سلعة تصل إليهم، و بعد ثلاث سنوات أجمع بنو قصي على نقض ما تعاهدوا عليه، فأرسل الله على صحيفتهم الأرضة فأتت على معظم ما فيها من ميثاق و عهد و لم يسلم من ذلك إلا الكلمات التي ذكر فيها اسم الله - عز وجل - \" فكان جزاء هذا الصبر و الجلد و تحمل المشاق أن الله - سبحانه وتعالى- قد مكنهم من منابع الثروة و الاستيلاء على عروش الملوك و فتح بلاد الروم و فارس، و صدق الله إذ يقول: {و نريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض و نجعلهم أئمة و نجعلهم الوارثين} (القصص: 5).
• الاستخارة: فلقد حكى لنا جابر أن رســول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يعلّمهم الاستخارة في الأمور كلها كالسورة من القرآن، ولاحظ أنه قال: \"في الأمور كلها\" هكذا، أي في عظيم الأمر وحقيرهº فما بالك بقرار يتعلق بأزمة، وها هو - صلى الله عليه وسلم - يقول لنا: \"إذا هَمَّ أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل: اللهـم إني أستخيرك بعلمـك..... \"، وكان يقول - صلى الله عليه وسلم - : (ما خاب من استخار وما ندم من استشار).
• التمسك بالقيم والمثل والأخلاق والسلوكيات الحسنة: فنجد أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقت الأزمات و المحن الاقتصادية لم يتنازل عن القيم و المثل و الأخلاق و السلوكيات التي أمر الله بها وبذلك استحق النصر بعد الأزمة و اليسر بعد العسر.
• الشجاعة: ومثال لذلك لما ارتجفت المدينة وسمع الناس دويا عظيما فيها فخرج الناس لينظروا، فإذا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - قد عاد راكبا على حصانه من غير سرج يقول لهم: (لم تراعوا... لم تراعوا)، وكان أصحابه رضوان الله عليهم يقولون: (كنا إذا اشتد بنا الوطيس احتمينا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ).
• التفاؤل وعدم التشاؤم: فيجب على المسلم ألا ينظر للأزمة على أنها كلها شر، فالنظرة السلبية تعوق التفكير السليم الذي يسهل الوصول للحل المناسب، وفي هذا يقول الشافعي:
أما ترى البحر تعلو فوقه جيف.... وتستقر بأقصى قاعه الدرر
• على القائد أن يتذكر دائما قاعدة (ما أصابك لم يكن ليخطئك): هذه الوصية تجعلك تظفر بثمرة \"الإيمان بالقضاء والقدر\"º فالأزمة في حقيقتها مصيبة يبتلينا ربنا - عز وجل - بها تمحيصاً للذنوب ورفعة للدرجات، قال - تعالى -: {إنا كل شيء خلقناه بقدر} {القمر: 49}، وقال: {وكان أمر الله قدرا مقدورا} {الأحزاب: 38}، وفي حديث جبريل - عليه السلام - أخبرنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن الإيمان بقوله: \"أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، وتؤمن بالقدر خيره وشره\"، وفي هذا الإطاري يقول جل من قال: {أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون * ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين} (العنكبوت: 2 3)، ويجب على المسلم أن يجعل الإيمان بالقضاء والقدر وسيلة لكسب الحسنات وتكفير السيئات من منطلق حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - : (ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولاهم ولا حزن ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه) متفق عليه.
• تجنب الغضب وقت الأزمة: لأن الغضب يؤدي إلى تشويش التفكير وعدم التركيز وبالتالي قرارات عشوائية، فعن أبي هريرة أن رجلاً قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: أوصني! فقال - صلى الله عليه وسلم -: \"لا تغضب\" فردد مراراًº قال: \"لا تغضب\".
• توسيع نطاق المشاورة: يقول - تعالى -: {وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله} (آل عمران: 159).
• التعاون بين الأفراد داخل المنظمة للعمل على حل المشاكل والأزمات التي يمكن أن تواجهها المؤسسة، وقد قال - تعالى -: {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} (المائدة: 2).
• الاستعانة والتوكل على الله: فالمسلم بعد أن يختار من الحلول ما يراه ملائما لحل الأزمة عليه أن يتوكل على الله ويستعين به، لقوله - صلى الله عليه وسلم - : (اعقلها وتوكل)، ويقول - تعالى -: {كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز} (المجادلة: 21).
• العزم والعمل وعدم التخاذل والتردد: يقول - تعالى -: {فإذا عزمت فنوكل على الله} (آل عمران: 159)، ولذا فقد قيل: العاجز يلجأ إلى كثرة الشكوى، والحازم يسرع إلى العمل وبالتالي يمكننا الاستفادة مما هو موجود بالفكر الغربي بعد تأصيله بالفكر الإداري الإسلامي الذي جاءت به شريعتنا الإسلامية في ضوء الكتاب والسنة النبوية المطهرة التي لم تترك أمرا من أمور الحياة الدنيا والآخرة إلا تضمنتها، يقول - تعالى -: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا}..
سبحانك اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علما برحمتك يا أرحم الراحمين..
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد