بالحسنى لا بالتحدي


بسم الله الرحمن الرحيم

 

الداعية طالب آخرة لا طالب دنيا، وهو مع الحق أينما كان، لذا فهو على استعداد أن يتخلى عن حظوظ النفس من أجل إعزاز الحق وإظهاره.

 

إن إظهار الحق وإيصاله للآخرين وإقناعهم به ودحض شبهاتهم وأباطيلهم يحتاج إلى أمر مهم وهو معرفة طبيعة النفس البشرية، وما يصلح لها وما يسوؤها.

 

ومن أهم سمات هذه النفس أنها تميل إلى اللين والملاطفة والتعامل بالحسنى، وتنفر من الشدة والإذلال والإفحام والتحدي، إذ إن لها كبرياء، فمن أكرمها استطاع أن يقودها وأن يسيرها كيفما شاء، ومن خدش كبرياءها فلن يظفر منها بطاعة ولا تصديق ولا انقياد، ولا يلومن بعد ذلك إلا نفسه.

 

لذا من أراد أن يمسح الشبهات من عقول الناس، أو أراد أن يدحضها فعليه أن يلج إلى ذلك بالحسنى وأن يتجنب العنف والشدة والتحدي، وذلك مصداقاً لقول الله - تعالى -: \" ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن\". (النحل: الآية 125).

 

ويقول جل ذكره مخاطباً نبييه الكريمين موسى وهارون - عليهما السلام -: \" اذهب أنت وأخوك بآياتي ولا تنيا في ذكري اذهبا إلى فرعون إنه طغى فقولا له قولاً ليّناً لعله يتذكّر أو يخشى\". (طه: الآية 42-44).

 

وقد ذكر صاحب \" أصول الحوار\" كلاماً موفقاً في معرض تعليقه على هذه الآية، فقال: \" هذا محمد - صلى الله عليه وسلم - أمره ربه أن يجادل قومه بالحسنى، وهم قد أساءوا إليه وكذبوه وآذوه، وهذان موسى وهارون - عليهما السلام - يرسلهما ربهما إلى فرعون الذي طغى، ويأمرهما أن يلينا له القول أملاً في أن يتذكر أو يخشى، فهل نحن أكرم على الله من أنبيائه؟ وهل من ندعو إلى الحق أذل وأخزى من فرعون والكافرين؟.

 

إن الداعية يناقش بالتلطف والأناة والهدوء، ومن الأشياء التي تفتح مغاليق النفوس، وتفعل فيها فعل السحر أن تقول لصاحبك في بدء حديثك، اسمح لي أن أبدي وجهة نظري في الموضوع، قد أكون مخطئاً، وأشكرك لو تفضلت وصححت لي خطأي.

 

و\" بالتي هي أحسن \" تقتضي ألا تسفه آراء صاحبك، وأن تظهر له الاحترام ولو كان على غير رأيك، لذا يقول الله - تعالى -: \" ولا تسبّوا الذين يدعون من دون الله فيسبّوا الله عدواً بغير علم.. \". (الأنعام: الآية 108).

 

نعم، في بعض الأحيان لا ينفع المنطق والبرهان، إنما يجدي التودد والإحسان، حينذاك الق عصا المنطق، واحمل راية الحنان، لتفوز في الميدان.

 

عن عائشة - رضي الله عنها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: \" إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه\" أي: عابه. وفي رواية: \" إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على ما سواه \". (رواه مسلم).

 

وعن جرير بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: \" من يحرم الرفق يحرم الخير كله\". (رواه مسلم وأبو داود).

 

وعن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا بعث أحداً من أصحابه في بعض أمره قال: \" بشروا ولا تنفروا، ويسروا ولا تعسروا \". (رواه البخاري ومسلم وأبو داود).

 

وإلى هذا المعنى أشار القرآن الكريم: \" ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه وليٌّ حميم\". (فصلت: الآية 34).

 

فقد تبدأ المناقشة وروح العداوة تسيطر على أحد الطرفين، فإذا دفع الآخر بالحسنى، انقلبت العداوة إلى مودة، والبغض إلى محبة.

 

ودفع الإساءة بالإحسان ليس سهلاً يقدر عليه كل إنسان، بل يحتاج إلى تدريب نفسي، وصبر، ومجاهدة، ولذلك قال - سبحانه -: \" وما يُلقّاها إلا الذين صبروا وما يُلقاها إلا ذو حظٍّ, عظيم \". (فصلت: الآية 35).

 

إن أسلوب التحدي ولو كان بالحجة الدامغة والدليل المبين يُبغِّض صاحبه للآخرين، فلا تلجأ إليه، لأن كسب القلوب أهم من كسب المواقف.

 

ثم إنك قد تفحم الخصم، وتعجزه عن الجواب ولكنك لا تقنعه! أو تسكته بقوة حجتك، ومع ذلك يسلم لك، لأنك أحرجته، فيرفض التسليم لك بعاطفته، حتى وإن كان عقله معك.

 

أما إذا تلطفت معه فسوف يقتنع بوجهة نظرك، إن عاجلاً أو آجلاً. فإذا أنهيت ما تريد قوله، وأدليت بدليلك، فاترك صاحبك، وإن لم يوافقك، فهو مع مرور الزمن سيقتنع برأيك، بل ربما يتبناه ويدافع عنه بعد حين، فالوقت هنا له قيمته، وهو جزء من علاج الأفكار والنفوس.

 

ولنفرض أنك خرجت من المعركة منتصراً، فليكن انتصاراً مملوءاً بالتواضع حتى لا تجرح مشاعر صاحبك وتذله، إذ يكفيه ذلاً أنه هزم أمامك في عقله وعلمه. وراقب نيتك مراقبة شديدة، حتى لا يعتريك العجب والزهو، فيضيع أجرك ويحبط عملك.

 

والداعية الحكيم عليه أن يحاول استلال ما في قلوب الآخرين من غيظ وكراهية، وأن يقودهم إلى الهداية ليسعدوا بها كما سعد هو بها من قبل.

 

على أن هناك حالات تستثنى من ذلك يحسن بالداعية أن يلجأ فيها إلى الإفحام وإسكات الطرف الآخر، وعلى سبيل المثال يمكن افتراض الحالة التالية:

 

رجل فاسد النية والطوية، يعادي الحق وهو يعرفه، ولا يبتغي الوصول إلى الحقيقة والوقوف عند الحجة واحترام الدليل، جمع عدداً من الشبان الصغار وأخذ يثير أمامهم مجموعة من الشبهات والأكاذيب، فهذا قد يكون الأفضل أن يوقعه الداعية في تناقض فكري أمام الآخرين بحيث يحرجه ويفحمه ويسكته ويهون من قدره لديهم فيقطع عليه طريق إفسادهم.

 

إذن ففي بعض الأحيان يكون الهجوم الحاد المركز على الخصم، وإحراجه وتسفيه رأيه - ضمن حدود الآداب الإسلامية - مطلباً مقصوداً من المناقشة أو المناظرة، وذلك إذا أساء إلى الفكرة وأهانها، أو تجاوز حدود الأدب، أو إذا اقتضت المصلحة إحراجه، فيكون إفحامه عقوبة له.

 

فالله - سبحانه - أمرنا بالتلطف في المناقشة حتى مع الكفار، فإذا طغوا واعتبروا اللطف ضعفاً، فالشدة هو الدواء1، قال - تعالى -: \" ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أُنزل إلينا وأُنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون \". (العنكبوت: الآية 46).

 

ويحسن هنا، بعد هذا التطواف في هذه المعاني السامية، أن نضرب بعض الأمثلة الحية على حسن الإفحام، فإليك هذه الأمثلة الأربعة:

 

1. من طرائف الأجوبة المسكتة أن أحد الدعاة كان يحاضر في جمع من النساء عن تعدد الزوجات في الإسلام، وأفاض في الحديث بموضوعية وإتقان واستيعاب، واستعان بالأرقام والإحصاءات، وأورد الحجج العقلية والنقلية، لإثبات فوائد تعدد الزوجات، إلا أن عدداً من الحاضرات لم يقتنعن، وأخذن في اللجاج والجدال العقيم.

 

  فرأى المحاضر أن يسكتهن بطريقة أخرى، فقال لهن: في الحقيقة إن المسؤول الحقيقي عن تعدد الزوجات هو المرأة لا الرجل، فلما استغربن ذلك، وأنكرن عليه، قال لهن: لو أن كل امرأة رفضت أن تكون زوجة ثانية لرجل لما كان هناك تعدد زوجات.

 

2. وفي التاريخ أن رجلاً ناظر مجموعة من الملاحدة الذين يقولون بالصدفة وينكرون وجود الله - عز وجل -، فلما طالت المناظرة وكثر الجدل دعاهم إلى لقاء آخر لإكمالها على أن يكون هناك شهود يحكمون من تكون له الغلبة.

 

  ولما جاء موعد اللقاء الجديد، جاء متأخراً، والجمع ينتظر، فأخذوا يلومونه، فقال لهم: دعوني أشرح لكم ما الذي أخرني فلعل لي عذراً، تعلمون أني أقيم في الطرف الآخر من المدينة حيث يفصل النهر بيننا، وحين وصلت النهر لأعبره إليكم لم أجد سفينة تحملني فكان هذا هو سبب التأخير.

 

 فقال له قائل: وكيف جئت بعد أن لم تجد سفينة؟ فقال: أتاني الحظ وأسعفتني الصدفة، مر لوح خشب يطفو على النهر فتوقف أمامي، ثم جاءت مجموعة ألواح أخرى التقت باللوح الأول من جهاته الأربعة بشكل عمودي، ثم قذف النهر بحبال غليظة التفت حول الألواح بإحكام حتى ثبتتها، وألقى بعض الناس بعض الزفت السائل فدخل في الشقوق بحيث منع دخول الماء، وهكذا وجدت نفسي أمام سفينة صغيرة عبرت بها النهر إليكم.

 

 قالوا له: ويحك، أتضحك علينا؟ إن هذا أمر مستحيل. قال لهم: خسرتم وأقررتم على أنفسكم، أبت عقولكم أن تصنع الصدفة السفينة الصغيرة، وسمحتم لها أن تصنع هذا العالم المعجز، وهو أعقد من السفينة وأحكم وأكبر وأتقن.

 

3. وكان أحد الرجال شديد العناية بالمأثورات الشعبية (الفولكلور) من لباس وطعام وآنية وما إلى ذلك، وفي الوقت نفسه كان يهاجم حجاب المرأة ويعده تأخراً ورجعية.

 

 حاوره أحد الدعاة، فلما أعجزه عناداً وجهلاً وتعصباً، قال له: بصراحة أنت رجل متناقض مع نفسك. قال له: وكيف ذلك؟ قال: لماذا تعني بالأزياء القديمة وبقية المأثورات الشعبية؟ قال له: إنها فولكلور، وكل الأمم الآن تعني بما لديها من فولكلور. فقال الداعية: لا بأس، اعتبر الحجاب من الفولكلور الذي تدعو إلى العناية به، ودع المحجبات وشأنهن.

 

4. وكان أحد المفتونين بالحياة الحديثة يتحدث عن تخلف الأمة، فقال فيما قال: إن الناس وصلوا إلى القمر ونحن لا نزال ندعو إلى الحجاب.

 

 قال له أحد الحضور: وما شأن الحجاب بذلك؟ قال الرجل: إنه تخلف يعوق مسيرة التنمية والتقدم. فقال له طيب: إن في بلاد المسلمين أعداداً هائلة من النسوة خلعن الحجاب ومع ذلك لم تصلوا إلى القمر \" 2

 

_______________________

1 وحدة الدراسات والبحوث بالندوة العالمية للشباب الإسلامي، أصول الحوار، الندوة العالمية الإسلامية، الرياض، ص 43-51

2 وحدة الدراسات والبحوث بالندوة العالمية للشباب الإسلامي، أصول الحوار، الندوة العالمية الإسلامية، الرياض، ص 50-54

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply