منهج النبي في إدارة الخلافات


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

إذا كانت سنة المصطفى تمثل لنا نحن المسلمين المصدر الثاني من مصادر التشريع، والتطبيق العملي لأحكام القرآن وتشريعاته. فإنها ما زالت إلى الآن المعين الذي لا ينضب للقدوة العملية للدعاة في كيفية تحركهم بدعوتهم بين الناس كل الناس مسلمين وغير مسلمين، مؤثرين فيهم بفعلهم قبل قولهم.

وإذا كان المصطفى هو القدوة لنا لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا (21) (الأحزاب) فإنه يتعين علينا أن نحسن التعامل مع السيرة فنحسن قراءتها ودراستها ومدارستها، لنعرف كيف نستخرج منها العبر والعظات ولنعرف كيفية تعامل المصطفى مع الأحداث، والأساليب المختلفة التي اتبعها لعلاج المشكلات وحل الخلافات.

 

فقضية الخلاف وأسسه وآليات حله داخل الصف الإسلامي، قضية مهمة وحيوية. وينبغي أن تكون في دائرة اهتمام جميع العاملين في الحقل الإسلامي. قد تكون هذه القضية شائكة في بعض الأحيان، لكنها تحتاج وقفة للدراسة والتأمل لتجنب أي آثار سلبية قد تنجم عن عدم سلامة آليات حل ذلك الخلاف. وفينبغي أن يظل الخلاف طبيعياً ما دمنا نتفق على الأسس والثوابت الشرعية اللازمة لإدارة الخلاف بصورة صحيحة.

ومن هنا يبرز السؤال الأهم: ما الأسس الشرعية لحل الخلاف داخل الصف الإسلامي؟ وأعني بالصف الإسلامي، العمل الإسلامي بشكل عام. إن الصف الذي يعمل لوجه الله وابتغاء مرضاته ويسعى لهدف سامٍ, هو تحكيم الإسلام في الأرض ونشره، الصف الذي فيه أو يفترض مجموعة من خيرة المجتمع عقائدياً وأخلاقياً وعلمياً وفكرياً، لهو في حاجة ماسة لمستوى رفيع في حل خلافاته سواء بين الأفراد بعضهم البعض أو بين الأفراد والقيادة أو حتى بين القيادات وبعضها.

إن هذه القضية تعد من أهم وأخطر قضايا العمل الإسلامي وتحتاج منا للدراسة المتأنية، لنضع الأسس والثوابت والآليات، حتى تكلل الجهود بالنجاح وتؤتي أفضل النتائج. وحتى توحد الصفوف والجهود. فلنتدارس سيرة المصطفى ونأخذ منها العبر والعظات لتكون لنا نبراساً يضيء الطريق.

سنتحدث هنا عن ثلاثة مواقف للنبي مع بعض الصحابة  لنرى كيفية تعامله الأمثل لحلها ووضعه للأسس الصحيحة التي يُحل عليها الخلاف. ويبقى علينا الاستفادة من هذه الأسس وتجذيرها وتأصيلها في النفوس، فالحديث سيكون عن الأسس والثوابت التي اتبعها المصطفى في إدارته للخلاف لنتعلم منها ونقتدي بها.

 

الموقف الأول (غنائم حنين):

وهو موقف بعض الأنصار من غنائم حنين ووجدهم (حزنهم) في أنفسهم من توزيع النبي وعطائه الجزيل لقريش وبعض قبائل العرب وعدم إعطائهم منها، حتى قالوا: إن هذا لهو العجب. يُعطي قريشاً ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم.

\"لما أعطى رسول الله ما أعطى من تلك العطايا في قريش وفي قبائل العرب ولم يكن في الأنصار منها شيء وجد هذا الحي من الأنصار في أنفسهم حتى كثرت منهم القالة حتى قال قائلهم: لقد لقي والله رسول الله قومه فدخل عليه سعد ابن عبادة فقال يا رسول الله: إن هذا الحي من الأنصار قد وجدوا عليك في أنفسهم لما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت قسمت في قومك وأعطيت عطايا عظاماً في قبائل العرب ولم يكن في هذا الحي من الأنصار منها شيء، قال فأين أنت من ذلك يا سعد؟ قال يا رسول الله: ما أنا إلا من قومي، قال: فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة. قال فخرج سعد فجمع الأنصار في تلك الحظيرة فجاء رجال من المهاجرين فتركهم فدخلوا وجاء آخرون فردهم فلما اجتمعوا له أتاه سعد فقال: قد اجتمع لك هذا الحي من الأنصار فأتاهم رسول الله فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال: يا معشر الأنصار، مقالة بلغتني عنكم، وجدة وجدتموها علي في أنفسكم، ألم آتكم ضلالاً فهداكم الله وعالة فأغناكم الله وأعداءً فألف الله بين قلوبكم؟ قالوا بلى لله ورسوله المن والفضل ثم قال ألا تجيبونني يا معشر الأنصار؟ قالوا بماذا نجيبك يا رسول الله؟ لله ولرسوله المن والفضل قال: أما والله لو شئتم لقلتم فلصَدَقتم ولصُدّقتم أتيتنا مكذباً فصدقناك ومخذولاً فنصرناك وطريداً فاويناك وعائلاً فآسيناك. أوجدتم يا معشر الأنصار في أنفسكم في لعاعة من الدنيا تألفت بها قوماً ليسلموا ووكلتكم إلى إسلامكم؟ ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير وترجعوا برسول الله إلى رحالكم؟ فوالذي نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت امرءاً من الأنصار ولو سلك الناس شِعباً وسلكت الأنصار شعباً لسلكت شعب الأنصار اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار قال فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم وقالوا رضينا برسول الله قسماً وحظاً ثم انصرف رسول الله وتفرقوا (السيرة النبوية ج5 - ص 176 - 177 بتصرف يسير).

لقد اتبع المصطفى في حل هذه القضية منهجاً غاية في الرقي والسمو والشفافية، ولابد لنا من وقفات مع هذا المنهج الفريد لنتعلم كيف يُحل الخلاف مهما كان حجمه. فالموقف جد خطير أن يجد بعض الصحابة في أنفسهم من فعل للرسول وهم الذين آمنوا به وصدقوه وناصروه. ولكنها الطبيعة البشرية التي تعامل معها الرسول الكريم بأحسن ما يكون. وسنذكر هنا بعض الأسس المستفادة من هذا الموقف لنتبعها عند حل خلافاتنا.

أولاً: الاستماع الدقيق للرأي الآخر وعدم تسفيهه أو الحكم عليه قبل سماعه:

فلقد استمع الرسول من سيدنا سعد بن عبادة القضية كاملة ثم اتخذ قراره بجمع الصحابة ليناقشهم فيما قالوا. فلا ينبغي على القائد أن يتخذ قرارات من مصدر معلومات دون التأكد من صاحب القضية. إنها قضية التبين والتحقق. بالرغم من أن سيدنا سعد بن عبادة - رضي الله عنه - يُعد من أطراف القضية ومن أصحابها، ولكنه الدرس النبوي الكريم لوضع الأسس السليمة لحماية المجتمع. فهذا فعل النبي فأين نحن منه. فهو يتخذ هذه الخطوات ليعلمنا ويرشدنا ويرسم لنا خطوط النجاة. فلابد من تقبل الرأي الآخر والتعامل معه باهتمام وعدم إهماله وذلك كبداية للحل.

 

ثانياً: سعة صدر القيادة:

فلم يغضب رسول الله ولم يصفهم بأي صفة تنقص من إيمانهم أو حتى تشكك فيه ووضح بنفسه ما يمكن أن يجول بخاطر أي منهم \"أما لو شئتم لقلتم، فلصدقتم ولصُدقتم\" فأي سعة صدر وأي عظمة هذه؟ إنها عظمة محمد . فلم نسمع أنها عدم ثقة في القيادة وقراراتها. إن الاختلاف في رأي أو قرار ما لا يعني عدم الثقة في القيادة مهما كان هذا الرأي، ما دام في دائرته الشرعية ولم يخرج عنها.

ثالثاً: التزام أدب الخطاب والرقي فيه:

حيث بدأ المصطفى بعرض ملخص للقضية من وجهة نظر الأنصار \"يا معشر الأنصار مقالة بلغتني عنكم... \" ثم ذكرهم بفضل الله عليهم \"ألم آتكم ضلالاً فهداكم الله؟!\" ثم بدأ الحوار \"ألا تجيبوني يا معشر الأنصار.. \"؟ فما دام الحوار بهذا الرقي فلابد أن يكون الرد مناسباً له \"لله ورسوله المن والفضل\" فالرسول بدأ بتذكيرهم بفضلهم وذلك لنزع ما قد يكون في صدورهم من بذور الخلاف. ثم يأتي دور إبراز الحقيقة وتجليتها لهم. فيكون الرد الطبيعي والمنطقي لهذه المقدمات \"رضينا برسول الله قسماً وحظاً\".

إن التزام أدب الحوار في حل المشكلة سيسرع في إيجاد الحل الفوري لها. فلا مجال للصراخ والصوت المرتفع.

 

رابعاً: التذكير بالمسلّمات كبداية للحل:

فعندما ذكرهم المصطفى بفضل الله عليهم ثم بفضله عليهم وبعد ذلك جهودهم في نصرة الله ورسوله، أظهر لهم الحقيقة، فكانت كل هذه الخطوات متدرجة للنفس لتقبل الحل وتنحي المجادلة العقيمة.. فلنبدأ أولى خطوات الحل بالمسلمات ونقاط الاتفاق ثم نقاط الاختلاف، حتى نجد أرضية مشتركة للتفاهم على الحل.

 

خامساً: التذكير بالفضل وعدم نسيانه:

فلنأثر قلوب إخواننا ببعض محاسنهم ومناقبهم في بداية الحل، حتى نهيئ النفوس لتقبل الحل ولرسوخه في ذات الوقت. فإذا بدأنا بالسلبيات سواء عامة أو شخصية، توسعت دائرة الخلاف وتباعدت الرؤى.

 

سادساً: سرعة الحل:

فلقد حدد الرسول موعداً في الحال للاجتماع بهم ومناقشة الأمر معهم، وهذا ما ينبغي عمله تجاه أي مشكلة في بدايتها وعدم تمييعها أو الاستهانة بها. إن التهاون في سرعة حل الخلاف في بدايته يتسبب في خلل قد يكون أكبر من الخلاف ذاته. أما سرعة اتخاذ خطوات الحل فسوف تئد أي فرصة لتصعيد الخلاف.

 

سابعاً: الإيجابية والمصارحة من كل الأطراف:

إيجابية سيدنا سعد بن عبادة عندما ذهب إلى المصطفى لنقل الصورة بغرض الحل. فلابد من إيجابية الجندي والقائد لسرعة الحل. كما في موقفه عندما سأله الرسول \"فأين أنت من ذلك يا سعد\"؟ قال يا رسول الله ما أنا إلا من قومي، أي روعة وعظمة يسطرها التاريخ بأحرف من نور، فمن يجامل إذا لم يجامل الرسول المصطفى؟ ولكن المسألة هنا ليست مجاملة، إنها تحديد موقف ومصارحة ومكاشفة من الجندي لقائده.

 

الموقف الثاني (صلح الحديبية)

في صلح الحديبية، كان معظم الصحابة رضوان الله عليهم غير راضين، وضاقت صدورهم بشروط قريش المجحفة. ولنر كيفية تعامل المصطفى مع هذا الحدث...

أولاً: استقراء الأحداث وبعد النظر:

فكل الشروط كانت ظالمة للمسلمين. ولكن المصطفى كان يرى بفراسته وبُعد نظره أموراً أخرى تلوح في الأفق ويمكن استغلالها والاستفادة منها لنشر الدين. وهنا نزل قوله - تعالى - إنا فتحنا لك فتحا مبينا (1) (الفتح) فلقد سماه الله فتحاً وفي هذا تأييد لموقف النبي ولفراسته.

ثانياً: احتواء الموقف:

فعندما اعترض سيدنا عمر - رضي الله عنه - وقال: يا رسول الله، ألست رسول الله؟ قال: بلى. قال: أولسنا بالمسلمين؟ قال: بلى. قال: أوليسوا بالمشركين؟ قال: بلى. قال: فعلام نُعطي الدنية في ديننا؟ قال: أنا عبد الله ورسوله، لن أخالف أمره ولن يضيعني.

فحرص الرسول على احتواء الموقف وعدم تصعيده، جعله يجيب عن كل أسئلة سيدنا عمر برحابة صدر، ثم رده للثوابت والحقائق التي لا خلاف عليها، وذلك حفاظاً على وحدة الصف وعدم تشعب المواقف.

ثالثاً: قبول المشورة:

فعندما أشارت السيدة أم سلمة - رضي الله عنها - بالحل أخذ به، فقالت \"اخرج يا رسول الله وابدأهم بما تريد فإذا رأوك فعلت اتبعوك. فقدم - عليه الصلاة والسلام - إلى هديه فنحره ودعا الحلاق فحلق رأسه فلما رآه المسلمون تواثبوا على الهدي فنحروه وحلقوا\" فالرسول استمع للمشورة وأخذ بها دون أدنى غضاضة في نفسه وكان في هذه المشورة الخير والفلاح.

 

رابعاً: إيجابية الجندي:

فعندما ذهب سيدنا عمر إلى سيدنا أبي بكر وقال له: أوليس برسول الله؟ قال: بلى. قال: أولسنا بالمسلمين؟ قال: بلى؟ قال: أوليسوا بالمشركين؟ قال: بلى. قال: فعلام نُعطي الدنية في ديننا؟ قال أبو بكر: يا عمر: الزم غرزه (أي أمره) فإني أشهد أنه رسول الله. قال عمر: وأنا أشهد أنه رسول الله.

فهنا واجب الجندي المخلص، أن يسمع لأخيه ويحتويه ويُخرج الشحنة التي بداخله ثم يرده إلى الأصول التي لا خلاف عليها.

 

الموقف الثالث (فتح مكة):

تعلمون ما حدث من سيدنا حاطب بن أبي بلتعة عند فتح مكة. فلو صُنف هذا الموقف باصطلاحات العصر الحديث لكان الخيانة العظمى وإفشاء أسرار عسكرية. وهاتان التهمتان هما أقصى ما يمكن أن يُحاكم عليه إنسان في العصر الحديث ولهما أقسى عقوبة. فلنر كيف تعامل معها المصطفى الأمين ونستخلص منها بعض العبر:

أولاً: التحري الدقيق وعدم الأخذ بالشبهات:

وهذا ما أراده النبي حين أرسل بعض الصحابة لإحضار الخطاب من المرأة. فلقد أعلمه ربه بالحقيقة والجميع على يقين من ذلك ولكنه الدرس الذي أراد الرسول أن نتعلمه، فلابد من التحري الدقيق وعدم الأخذ بالشبهات وأن تكون البينة على من ادعى.

ثانياً: إبداء الرأي والدفاع عن النفس:

لقد سمع المصطفى من حاطب دفاعه كله وأعطاه الفرصة الكاملة لذلك. وما كان في حاجة لذلك ولكنه القدوة يرسم لنا الطريق. فلنستمع جيداً من صاحب المشكلة وليقل كل ما يريد ليدافع عن نفسه ويبرر ما قام به من عمل من وجهة نظره دون حجر عليه.

ثالثاً: أخذ العذر مأخذ الجد:

فإذا اعتذر فرد عن خطأ ما وأبدى عذراً تقبله القيادة فليُفتح له باب الرجعة ولا نوصد في وجهه الأبواب.

رابعاً: عدم نسيان الفضل والسبق:

فإذا أخطأ إنسان فلابد أن يقدر الخطأ بقدره، خصوصاً إذا كان له فضل وسبق. لا نريد أن نقلب ظهر المجن لمن يُخطئ وأن ننسى كل ما قدم وذلك ما دام الخطأ لم يتكرر ولم يُصر عليه. ولا بد من اعتبار لحظات الضعف البشري وعدم تجاهلها. فليس الأفراد بملائكة أخيار ولا أنبياء معصومين. ويظل للخطأ دائرته التي لا ينبغي تجاوزها.

هذه بعض المواقف من السيرة النبوية المطهرة لعلنا نتأسى ونقتدي بها في حياتنا، ونتبع منهج النبي  في معالجته لبعض الخلافات التي نعدها الآن من منظورنا جسيمة وربما مستعصية على الحل. فإذا بالمصطفى يتعامل معها بشفافية وروح المربي الملهم، ويرسخ فينا بعض الجوانب التي يجب علينا اتباعها في مختلف جوانب حياتنا.

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply

التعليقات ( 1 )

شرح جميل بوركم

-

بيان

19:40:01 2024-02-25

بحث مفيد