بسم الله الرحمن الرحيم
التفكير أمر مألوف لدى الناس يمارسه كثير منهم، ومع ذلك فهو من أكثر المفاهيم غموضاً وأشدِّها استعصاءً على التعريف. ولعلَّ مردَّ ذلك إلى أن التفكير لا يقتصر أمرُه على مجرد فهم الآلية التي يحصل بها، بل هو عملية معقدة متعددة الخطوات، تتداخل فيها عوامل كثيرة تتأثر بها وتؤثر فيها. فهو نشاط يحصل في الدماغ بعد الإحساس بواقع معيَّن، مما يؤدي إلى تفاعلٍ, ذهنيٍّ, ما بين قُدُرات الذكاء وهذا الإحساس والخبرات الموجودة لدى الشخص المفكر، ويحصل ذلك بناءً على دافعٍ, لتحقيق هدف معين بعيداً عن تأثير المعوقات.
يتضح لنا من هذا العرض أن التفكير عملية ذهنية لها أركان وشروط، وتدفعها دوافع ومثيرات، وتقف في طريقها العقبات. كما نلاحظ تعدد الجوانب وكثرة العوامل المتداخلة والمؤثرة والمتأثرة بالتفكير، ولعلَّ هذا ما يُفسّر كثرة التعريفات الواردة على التفكير، وكثرة التقسيمات المتعلقة به وبعملياته ونواتجه.
بناءً على ذلك يمكن صياغة التعريف التالي للتفكير:
التفكير عملية ذهنية يتفاعل فيها الإدراك الحِسّي مع الخبرة والذكاء لتحقيق هدف، ويحصل بدوافع وفي غياب الموانع.
حيث يتكون الإدراك الحسي من الإحساس بالواقع والانتباه إليهº أما الخبرة فهي ما اكتسبه الإنسان من معلومات عن الواقع، ومعايشته له، وما اكتسبه من أدوات التفكير وأساليبهº وأما الذكاء فهو عبارة عن القدرات الذهنية الأساسية التي يتمتع بها الناس بدرجات متفاوتة. ويحتاج التفكير إلى دافع يدفعه، ولا بد من إزالة العقبات التي تصده وتجنب الوقوع في أخطائه بنفسية مؤهلة ومهيأة للقيام به.
يلجأ الناس في محاولتهم فهم التفكير أو العقل إلى مصادر ثلاثة هي:
أ- الفلسفة
ب- علم النفس
جـ- علم الأعصاب
ولكنهم يهملون عن عمد مصدراً آخر على جانب كبير من الأهمية والفائدة، أو يتجنَّبونه عن غفلةٍ, واستحياء، ألا وهو:
د- الفكر الإسلامي
والمتمثل في الكتاب والسنة وآثار الصحابة والكم النوعي الهائل من الفكر الذي نشأ لخدمتها جميعا، مثل علوم القرآن والحديث واللغة وعلم الفقه وأصوله وغيرها. لقد آن الأوان لنفض الغبار عن هذا المارد الفكري العملاق لتقديمه بديلا فكريا لما هو موجود، ليُزيل الظلمة الحالكة والتخبط الفكري الذي يَلُفٌّ العالم اليوم، وليعيد إلى الناس الطمأنينة والسعادة الأبدية المنشودة. إن في هذا المصدر العظيم كنوز تحتاج إلى التشمير عن السواعد، واستنهاض الهمم، من أجل العمل الجاد المُثمر للكشف عنها، والعمل بها، وتطبيقها، وتقديمها سائغةً للشاربين.
لقد قُمتُ بصياغة هذا التعريف بناءً على أبحاث علم النفس، وعلم الأعصاب، والفكر الإسلامي , وعلى بحث أقوم به حول التفكير في نصوص القرآن الكريم والسنة المطهرة، نرجو الله أن ييسر نشره قريباً، حيث أُبين فيه تَميٌّز القرآن الكريم وسبقه في موضوع التفكير بشكل يمكن اعتباره من قبيل الإعجاز الفكري أو العقلي للقرآن الكريم. كما اعتمدت هذا التعريف في إعداد برنامج لتحسين مهارات التفكير لدى طلاب الهندسة الكيميائية في المختبرات والمعامل , ونُشر هذا البحث في المجلة العالمية للتعليم الهندسي، المجلد 17 رقم 6 (http://www.ijee.dit.ie). (يمكن الحصول على نسخة إلكترونية باللغة الإنجليزية من هذه البحوث بالكتابة مباشرة إلى الكاتب على عنوانه الإلكتروني).
ما هي مهارة التفكير وهل يمكن تَعلٌّمها؟
مهارة التفكير هي القدرة على التفكير بفعالية، أو هي القدرة على تشغيل الدماغ بفعالية. ومهارة التفكير - شأنها في ذلك شأن أي مهارة أخرى - تحتاج إلى:
1. التعلٌّم لاكتسابها بالتمرين.
2. التطوير والتحسين المستمر في الأداء.
3. الممارسة والاصطبار على ذلك.
إن تَعلٌّم مهارة التفكير أمر مؤكد قائم فعلاً على الرغم من التشكيك المُثار حول ذلك، والذي مردٌّه إلى أن التفكير عملية طبيعية تلقائية يقوم بها أي إنسان. ولكن الإنسان يقوم بعمليات تلقائية كثيرة ومع ذلك فهو بحاجة إلى تعلٌّمها وتطويرها، كما أن فطرة الإنسان لم تعد بمنأى عن التغيير والتحريف حتى في أمور الغرائز. ناهيك عن التعصب والانحياز الأعمى والغشاوات الكثيرة القابعة على منافذ التفكير. وعليه فان الحاجة إلى تعلٌّم التفكير وتعليمه تتأكد بأمرين:
1. اعتبار التفكير مهارة , وأية مهارة تحتاج في اكتسابها إلى التعلٌّم.
2. أن التفكير عملية معقدة متعددة الجوانب تتأثر بعوامل كثيرة وتقف في طريقها العقبات.
ومما يؤكد صدق هذا التوجه ما تقوم به الكثير من المعاهد المتخصصة والمؤسسات التعليمية من تطبيق ذلك فعلاً على ارض الواقع، في أماكن مختلفة من العالم. وسوف أبين جوانب مما طبقته بنفسي على طلاب الهندسة الكيميائية أثناء أدائهم التجارب المعملية في المختبرات التعليمية.
تميل معظم التوجهات إلى إدخال التفكير ضمن المناهج لاتخاذه سبيلاُ للتحصيل المعرفي وإنتاج الأفكار. وهذا أمر مُلحّ لا بد أن تتبناه كافة المؤسسات التعليمية وتُدرجه في مناهجها لتواكب التقدم الهائل في التعليم ووسائله، وليكون لدى المتعلم القدرة على متابعة الكم المتسارع من المعلومات المتدفقة بغزارة. ولكن لا بد من الحرص على أن لا يصير مآل التفكير إلى مادة دراسية لها كتاب مقرر وتُعَد لها الامتحانات. حينها سيفقد التفكير أهميته ومهمته، ولن يتجاوز كونه معرفة جديدة تضاف إلى لائحة المعارف الموجودة. فإنه مما يُؤخذ على التعليم تركيزه على إعطاء المعلومات وكثرة الواجبات والأعباء الملقاة على المتعلمين، مما قد يعيق عملية التفكير أثناء التعلٌّم بسبب التركيز فقط على تحصيل المعرفة.
تنمية مهارات التفكير
بالنظر إلى التعريف السابق للتفكير يمكن تلخيص مهارات التفكير فيما يلي:
أ- مهارات الإعداد النفسي والتربوي.
ب- المهارات المتعلقة بالإدراك الحسي والمعلومات والخبرة.
ت- المهارات المتعلقة بإزالة العقبات وتجنب أخطاء التفكير.
حيث يتمثل الإعداد النفسي فيما يلي:
إثارة الرغبة في الموضوع، وتُعرف بحب الاستطلاع وإثارة التساؤلات والتعمق.
الثقة بالنفس وقدرتها على التفكير والوصول إلى النتائج.
العزم والتصميم، ويتمثل في: السعي لهدفº تحديد الوجهة وطريقة العمل والمتابعة الدءوبة الذاتية لذلكº الحرص على النتائج المفيدة.
المرونة والانفتاح الذهني وحب التغيير: الإقرار بالجهل أن لزمº الاستماع إلى وجهة نظر الآخرين (فتأخذ بها أو ترفضها)º استشارة الآخرينº الاستعداد للعدول عن وجهة نظرك ولتغيير الهدف والأسلوب إن لزم الأمرº التريٌّث في استخلاص النتائج.
الانسجام الفكري، ويتمثل في تجنب التناقض والغموض، وسهولة التواصل مع الآخرين بأفكار مُقنعة وواضحة ومفهومة.
أما المهارات المتعلقة بالإدراك الحسي والذاكرة فيمكن تلخيصها كالتالي:
توجيه الحواس حسب الهدف والخلفية العلمية أو الفكرية. وهذا يعني التمرس على توجيه الانتباه.
الاستماع الواعي والملاحظة الدقيقة وربط ذلك مع الخبرة الذاتية، أي تمحيص الاحساسات والتأكد من خلوها من الوهم والتخيلات.
توسيع نطاق الإدراك الحسي بالنظر إلى عدة اتجاهات ومن عدة زوايا.
تخزين المعلومات وتذكرها بطريقة منظمة واستكشافية: إثارة التساؤلات، استكشاف الأنماط، استخدام الأمارات الدالة والأشياء المميزة، اللجوء إلى القواعد التي تسهل تذكر الأشياء، مناقشة الآخرين والتحدث معهم علهم يثيرون فيك ما يؤدي إلى التذكر.
أما المهارات المتعلقة بالواقع والمعلومات فهي كالتالي:
إعادة ترتيب المعلومات المتوفرة: التركيب، التصنيف، اتباع المنهج الملائم.
جمع المعلومات: استخراجها من مصادرها، السؤال عنها، البحث التجريبي.
تمثيل المعلومات بصورة ملائمة: في جدول أو رسم بياني أو مخطط أو صورة.
استكشاف الأنماط والعلاقات فيما بين المعلومات: ترتيب، تعاقب، سبب ومسبب، نموذج، مثل، تشبيه، مجاز.
اكتشاف المعاني: الاشتقاق، التلخيص، التخيل للكشف عن المضمون.
وحتى تنطلق عملية التفكير لا بد من وجود الدوافع، والحوافز المشجعة على القيام بالأعمال، والدعم المادي والمعنوي من الآخرين، كما لا بد من إتاحة الفرصة لاستثمار ما اكتسبه الفرد من مهارات بالممارسة والتطبيق في مناحي مختلفة.
معوقات التفكير وأخطاؤه يمكن أن تحُول دون التفكير أو أن تحرفه عن مساره , لذا ينبغي التنبٌّه لها وتجنٌّبها والتغلب عليها. ولتنمية ذلك في نفوس الدارسين فانه ينبغي أن يتوصلوا إلى ذلك بأنفسهم عن طريق التساؤلات المتبادلة بينهم وبين المدرسين، وعن طريق التفكٌّر فيما حصل بعد كل تجربة. يمكن حصر المعوقات والأخطاء في ثلاثة أمور هي: الإدراك الحسي والمعلومات والحالة النفسية لدى الشخص المفكر.
تتمثل معوقات الإدراك الحسي في عدم القدرة على رؤية الوضع مثل رؤية العوارض دون المشكلة الحقيقية، وفي رؤية جانب واحد من الموضوع وترك الجوانب الأخرى مثل رؤية حل واحد لا غير، وفي اعتبار جانب من الزمن فقط كالماضي. وينطبق على ذلك كثير من الفروض المسلمة وهي في حقيقة الأمر ليست كذلك. فقد وجد أن الأنماط الفكرية السائدة في الدماغ تؤثر على طريقة التفكير مما يؤدي إلى صرف الانتباه عن الوضع الصحيح، لذا لا بد من تدريب الانتباه على ذلك.
أما معوقات وأخطاء المعلومات فتتمثل في نقص المعلومات، واستخدام معلومات خاطئة، أو وجود معلومات زائدة عن الحاجة تؤدي إلى الإرباك.
في حين تتمثل معوقات الوضع النفسي في فقدان الرغبة في العمل والدراسة، وعدم الاستماع للآخرين والأخذ بآرائهم، وعند اخذ الأمور على علاتها أو كمسلَّمات، وعند فقدان الثقة بالنفس والعزم والتصميم والانفتاح الذهني.
ولا بد من إضافة اثر البيئة أي ما يحيط بالطالب من تأثير على طريقة تفكيره من توفير الجو الملائم للتفكير. علاوةً على أن التفكير مرتبط بالبيئة الاجتماعية والثقافية والجسدية وبالمثيرات من حوله. فالجو العائلي والمجتمع مثل المدرسة لها تأثير بالغ قد يكون مشجعا وقد يكون مدمرا.
التنفيذ
التفكير عملية نشطة وفاعلة، ولكن تنمية مهارات التفكير بطيئة وتحتاج إلى الصبر والمصابرة، وينبغي الحرص على أن تجري بطريقة متكاملة تسهِّل اكتساب المعرفة والمهارات الأخرى. ويُفضَّل أن يكون ذلك عن طريق العمل الجماعي، وذلك بتنظيم الطلاب في مجموعات صغيرة، وإعطائهم الفرصة لإجراء التجارب بأنفسهم ليكتسبوا الثقة والجرأة، وبتدريبهم على حل المشاكل بأنفسهم، وعلى ممارسة أدوار إدارية وقيادية، ثم التنويع في المشاريع المعطاة لهم بحيث تتراوح ما بين ما هو متوفر فيه المعلومات وآخر يحتاج إلى معلومات وآخر يحتاج إلى طريقة العمل وهكذا.
إن مثل هذه الأعمال تقوي النفس وتؤهلها للعمل الجاد وتَحمٌّل المسؤولية، فالعمل الجماعي يتطلب أن يُسهم كل واحد برأيه في استخلاص النتائج، وان يستمع للآخرين، وان يتجنب الوقوع في الأخطاء أمام زملائه، كما يرفع من مستوى الكسالى ويحثهم على التقدم. كما أن المشاريع والتجارب تعني وجود أهداف لا بد من تحقيقها، ولا بد من إنجاز العمل في وقت محدد، وإنهم لا بد أن يحصلوا على الدرجة المناسبة. كما يساهم الطلاب في اتخاذ القرارات وحل المشاكل وفي تقييم أداء بعضهم بعضا، ثم الاستفادة من ذلك في حياتهم العملية.
دور المدرس وعملية التقييم
يتمثل دور المدرس في تسهيل عمل الطلاب بالحرص على توجيههم الوجهة الصحيحة، ومراقبة أعمالهم، ومتابعتها للحصول على نتائج سليمة. كما يترتب عليه إثارة روح التساؤل فيهم وتشجيعهم على ذلك وان يعمل هو بنفسه على استكشاف الخلفية التي لديهم عن طريق الأسئلة وذلك ليتمكن من البناء عليها. وهذا يعني التفاعل المستمر ما بين الطالب والمدرس لا سيما عن طريق التغذية المرتدة. كما يمثل المدرس دور المستشار حين الضرورة، ويعمل أساساً عمل المدرب لا عمل المدرس الذي يصب المعلومات فقط. ولتحقيق ذلك لا بد أن تتوفر لديه روح التدريب، والإشراف، والتوجيه، وحب العمل بالإضافة إلى الخلفية المناسبة لذلك.
التقييم هو قياس مستوى الأداء وتوجيهه. لا بد من تقييم أداء الطلاب وذلك للتمكن من معرفة المستوى الذي وصل إليه الطلاب. ومن الضروري أن تستند عملية التقييم على المستوى الشخصي والجماعي أي على قدرات الطالب الذاتية وأدائه في الفريق. كما ينبغي أن تستند إلى كل من المحتوى والطريقة أي إلى المعرفة والمهارات. ويكون ذلك بالنظر إلى الأهداف هل تحققت؟ وبالنظر إلى أداء الطلاب بشكل مفصل لمعرفة نقاط الضعف والقوة في الأداء وفي اكتساب المعرفة والمهارات وفي الإعداد النفسي. وهذا يتطلب المتابعة المستمرة من قبل المرشدين والتغذية المرتدة الآنية والتفكر فيما حصل.
يمكن تقييم الأداء عن طريق التأكد من فهم الطالب بتركه يُعبِّر عن الموضوع بعباراته وشرحها أمام المدرس والطلاب، وان يُعطى المجال لتدريب زملائه، وان يقيِّم بعضهم بعضاً، وان يقوموا بكتابة المذكرات والتقارير وأوراق البحث، والكشف عن مدى استفادة كل عضو في الفريق من الآخر وتأثير كل عضو على الفريق ككل.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد