بسم الله الرحمن الرحيم
كم كان عظيماً أن يُعلّق إبراهيم الخليل - عليه الصلاة والسلام - النجاة من الخزي، والنجاح الأعظم للإنسان على سلامة القلب والوجدانº فيعبّر عن ذلك بقوله - صلى الله عليه وسلم -: (ولا تُخزني يوم يُبعثون يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون إلا من أتى الله بقلبٍ, سليم)(1)! وكم كان مُعجزاً أن يؤكّد النبي صلى الله عليه وسلم هذا المعنى في حديث: ((الحلال بيّنٌ والحرام بيّنٌ)) بقوله: ((ألا وإنّ في الجسد مضغةً إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله. ألا وهي القلب))!(2)
وحينما يتأمّل رجل الإدارة تربية النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه، ويتذكر كيف كان يعلّمهم التفاني في العمل، والاعتراف بالخطأ، ويغرس محبّة الحق في قلوبهم وإن كان مُرّاًº يَعِي الفرق بين السّلف والخَلَف!
لا تعرضنَّ بذكرنا مع ذكرهم *** ليس الصحيح إذا مشى كالمُقعَدِ!
فقد كانت المدرسة الإدارية للصحابة الأخيار - رضي الله عنهم - تتميّز بالوعي بعظمة الأمانة، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ((إنّ الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال، ثم علموا من القرآن، ثم علموا من السنة))(3). فليت شعري هل ترون اليوم مدرسةً في العالم الإسلامي كله مثل مدرسة محمد - صلى الله عليه وسلم - في النجابة والنباهة والنزاهة؟ وفي الوعي والسعي؟ وفي التخطيط والتنفيذ؟ وفي العلم والعمل؟
فقد ربّى القائد الأعظم في تاريخ الإسلام - صلى الله عليه وسلم - جنوده على التشوّق إلى الإحسان في كل شيء. كما قال - صلى الله عليه وسلم -: ((إنّ الله كتب الإحسان على كل شيءº فإذا قتلتم فأحسنوا القِتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذِّبحة، وليُحِدَّ أحدكم شفرته، وليُرِح ذبيحته)!(4) وقد عدّ ابن رجب من ذلك الإحسان في الإتيان بالواجبات الظاهرة والباطنة، والإحسان في ترك المحرّمات، وفي الصبر على المقدورات، وفي معاملة الخلق ومعاشرتهم، وفي ولايتهم وسياستهم.(5)
ولا ريب أنّ هذا الإحسان في العمل راجعٌ إلى صفة الإحسان التي يتخلّق بها المسلم في أداء كلّ عملٍ, يعملهº لأنه يَعِي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنّ ((الإحسان أن تعبد الله كأنّك تراهº فإن لم تكن تراه فإنّه يراك)).(6) وقد قال كعب بن مالك - رضي الله عنه - في حديث توبته في غزوة تبوك:\"والله لقد علمتُ لئن حدّثتك اليوم حديث كذبٍ, ترضى به عنّي ليوشكنّ الله أن يُسخطك عليّ، ولئن حدّثتك حديث صدقٍ, تجد عليّ فيهº إنّي لأرجو فيه عفو الله. لا والله ما كان لي من عذرٍ,! والله ما كنت أقوى ولا أيسر منّي حين تخلّفتُ عنك!\".
تلكم هي تربية الصحابة - رضي الله عنهم -: أن يقولوا الحق، ويلتزموا الصدق، ويعترفوا بالخطأ. وذلك ما عجزت عنه الأنظمة الإداريّة المعاصرة بلا استثناءº لأنها لم تستطع أن تغرس في العاملين روح الرقابة الداخلية على أنفسهمº وهذا سرّ الفضائح الأخلاقيّة والمادّيّة في العالم الغربي التي تكشف عنها وسائل الإعلام الغربية، والتي يتورّط في بعضها رؤساء الدول.(7) وحسبك في إدراك هذا الوعي في الموروث الإداري الإسلامي أن تقرأ ما رواه مالك في الموطأ:\"أنّ عمر بن الخطاب مرّ بامرأةٍ, مجذومةٍ, وهي تطوف بالبيتº فقال لها: يا أمةَ الله لا تؤذي الناسº لو جلستِ في بيتكِ. فجلست. فمرّ بها رجلٌ بعد ذلك، فقال لها: إنّ الذي نهاك قد ماتº فاخرجيº فقالت: ما كنتُ لأطيعه حيّاً وأعصيه ميّتاً\"!(8)
فلا بدّ للإدارة في العالم الإسلامي أن تحذو حذو المدرسة النبوية الشريفة التي اعتنت بتنقية القلوب، وتصفية النفوس، وتزكية معادن الناس والسموّ بها، وغرس الرقابة الذاتيّة فيهاº بحيث تباعدها عن التقصير.كما قال الله - عز وجل -: (إنّ الذين اتقوا إذا مسّهم طائفٌ من الشيطان تذكّروا فإذا هم مُبصرون)! وقد أدركت بريرة سرّ نقاء عائشة وسلامتها من ظلمات الشائعات والافتراءاتº حين ردّت الأمر إلى تربية النبي - صلى الله عليه وسلم - لها وتزكيته معدنها الأصيل. فقالت رحمها الله حينما سألوها عن عائشة:\"سبحان اللهº والله ما علمتُ عليها إلا ما يعلم الصائغ على تبر الذهب الأحمر\"! قال النووي:\"وهي القطعة الخالصة\".(9)
وإنّ من أكثر ما يُعيق النهضة الإداريّة في العالم الإسلامي اليوم، تصوير المشكلة في نقص في العوامل المادية والاقتصادية، وإغفال المعضلة التربويّة التي يعيشها العالم الإسلامي اللاهث وراء الغرب والمتتبع لآثاره شبراً بشبرٍ, وذراعاً بذراعٍ,º فلا مخرجَ لعالمنا إلا بالخروج من (جُحر الضبّ) الذي قتلت فيه مواهبها، وخنقت فيه أنفاسها، وضيّعت فيه ثرواتهاº لأنّ الذي ينقص العالم الإسلامي اليوم هو العناية بالإنسان الرسالي الذي يحمل همّ إنقاذ العالم. كما قيل:
وتحسب أنّك جِرمٌ صغيرٌ *** وفيك انطوى العالم الأكبر!
وإنّ المناهج الماديّة التي تحكم العالم الإسلامي لن تفلح أبداً في إصلاح الأحوال السياسية والاقتصادية والاجتماعية وستظلّ تخبط خبط عشواء ما لم تغيّر مناهجها التربوية بما يتوافق مع حضارة أمّتها وهويّة إنسانها وعراقة تاريخها! كما قال الله - عز وجل -: (إنّ الله لا يغيّر ما بقومٍ, حتى يغيّروا ما بأنفسهم).(10)
وإن تعجب فعَجَبٌ ممن يطمح إلى نهضة أمّتنا وهو لا ينتسب إليها إلا بالاسم، بل يجهل أمجادها، ولا يعرف عظماءها، ولا يكاد يقرأ كتابها الذي أنزله الله، ولا يعلم وظيفته الرسالية في الحياة، ولا يسمع آيات الله البيّنات (محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم)، (ولتكن منكم أُمةٌ يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون)، (ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين).
وليت شعري إذا توقف نجاح الفرد على صفاء قلبه، و نقاء سريرته، ونبوغ عقلهº فهل تقوم الحضارة إلا على طائفةٍ, من هؤلاء الرجال الذين يحملون همومها، ويرفعون لواءها، ويسعَون إلى مجدها؟ (لا يضرّهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس)!(11)
وإن لنا في فقه علمائنا ووعي أمّتنا ما يؤكّد أنّ الحضارة يصنعها الإنسان، وأنّ الأمة تقوم على الأفراد الصالحين الذين يُحفظ بهم الدّين. كما قال علي بن المديني:\"إنّ الله أيّد هذا الدّين بأبي بكر الصدّيق يوم الرّدّة، وبأحمد بن حنبل يوم المحنة\"(12). وذكر الذهبي في ترجمة سفيان الثوري من (سِيَر أعلام النبلاء) قول شعيب بن حرب:\"إني لأحسب أنّه يُجاء غداً بسفيان حجّةً من الله على خلقهº يقول لهم: لم تُدركوا نبيّكم؟ قد رأيتم سفيان\"(13).
وما ظنّك بأمّة نما فيها هذا الوعي، وترعرع فيها الحياء من الرحمنº حتى إنّ المقصّرين من عُصاتها لا تُقرّهم قلوبهم على الذّنوبº بل يُكدّر النّدم عليهم حياتهم، ويُنغّص الشعور بالخطأ والتفريط أفراحهم، ويهدّ أركان قلوبهمº فلا يرون لهم راحةً إلا بالتوبة والتطهير. كما جاء في قصة ماعز والغامديةº حيث آثرا عذاب الدنيا على عذاب الآخرة.
ولله درّ الشيخ محمد الأمين المصري حيث قال:\"النفوس الكريمة إذا أصابها مسّ الخطأ، أو ما يُشبه الخطأº كان ذلك عاملاً في دفعها إلى الخيرº ذلك أنّ النفوس التي أُرهف إحساسها، وشُحذ وجدانها، ونما اعتبارها لذاتها في جانب الحق يُؤلمها إيلاماً شديداً أن يبدوَ منها في ساعةٍ, من ساعات انفعالها ما ينزل بها عن المستوى الرفيع الذي وضعت نفسها فيه. ومثل هذه النفوس لا تنسى خطأها أبداًº ولكنّه يؤرّقها ويسهدها، ويجعلها تتقلّب على عتاب الضمير، وتتلظّى بنار حسابه. وكل ذلك يُنشيء لديها يقظةً غريبةً، ويُباعد بينها وبين الفتور الذي تشعر به النفوس عادةً إذا رضيت عن سعيها\"(14).
ــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة الشعراء: 87-89.
(2) رواه البخاري ومسلم.
(3) متفق عليه.
(4) رواه مسلم.
(5) جامع العلوم والحِكَم: 200.
(6) طرف من حديث جبريل في الإسلام والإيمان والإحسان، عند الشيخين.
(7) وما فضيحة الرئيس الأمريكي بيل كلينتون في قضيّة مونيكا ببعيدة!
(8) الموطأ. كتاب الحج. باب جامع الحج.
(9) شرح النووي على مسلم: 17/115.دار إحياء التراث العربي. بيروت.
(10) سورة الرعد: 11.
(11) رواه أحمد والشيخان عن معاوية. كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس. للعجلوني: 2/378. دار الكتب العلمية. 1408هـ.
(12) تذكرة الحفاظ للذهبي: 1/432.
(13) السِّير: 7/182.
(14) من هدي سورة الأنفال، محمد الأمين المصري: 56، دار الأرقم، الكويت.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد