الصيدلة وصناعة الأدوية والعقاقير الطبية


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

لم يقف الإسلام متفرجاً أمام الممارسات الخاطئة لطائفة من المتطببين وأدعياء العلم، حيث أقصى المسلمون في دولة العلم والإيمان الكاهنات والعطارين، وشيّدوا أسس علم الصيدلة وصناعة الأدوية والعقاقير الطبية على قواعد علمية راسخة، جنبت المرضى كثيراً من الأخطاء القاتلة، فكان لهم السبق في اختراع هذا العلم، وتأسيس أولى الصيدليات في التاريخ.

 

وواكب تطور علم الصيدلة في دار الإسلام تقدم الطب وازدهاره، من ناحية الترجمة والتأليف والابتكار، وكان للصيادلة المسلمين إسهامات في إغناء هذا العلم وإثرائه لا يمكن إغفالها وجحودها، أما مذهبهم في هذا العلم فيعتمد على البحث والتجريب والمشاهدة.

 

المآثر الصيدلانية للحضارة الإسلامية:

وذكر الدكتور أحمد فؤاد باشا \"أحمد فؤاد باشا\" في كتابه القيم (التراث العلمي والحضارة الإسلامية) طرفاً من المآثر الصيدلية للحضارة الإسلامية على النحو التالي: ترجمة أعمال القدماء، والقيام بشرحها والتعليق عليها، ثم الإقبال على التأليف والابتكار، والاهتمام بالصيدلة كعلم مستقل عن الطب، له قواعده وفروعه ومنهاجه العلمي السليم القائم على المشاهدة والتجربة، واكتشاف العديد من العقاقير، واختراع الآلات اللازمة لتذويب الأجسام وتدبير هذه العقاقير، تحضير أدوية جديدة من أصول نباتية ومعدنية وحيوانية وابتكار المعالجة المعتمدة على الكيمياء الطبية، وتغليف الأدوية المرة بغلاف من السكر أو عصير الفاكهة، والتوصل إلى عمل الترياق بنسب معينة، وإجراء البحوث والاختبارات على الأدوية قبل استعمالها، وتنظيم مهنة الصيدلة وإخضاعها لنظام الحسبة، وإنشاء الصيدليات وإلحاقها بالمستشفيات. (1)

 

ويعود إليهم الفضل في اختراع الكحول، والأشربة، واللعوق، واللزقات، والخلاصات، والمستحلبات، واستعمال الأفيون والخشخاش في الجراحة كمخدر، وتركيب المستحضرات الطبية النافعة، كالأدهان مثل دهن الورد ودهن النرجس ودهن البيلسان، واستخدام المقطرات والمراهم، ومياه الشعير ومياه البذور، وأوجدوا المشروبات المركبة لتصفية المعدة وإخلاء الأمعاء، ويؤثر عن الأطباء المسلمين التداوي بالأغذية لتقوية الجسم على المرض، قبل اللجوء إلى الأدوية.

 

فقد تجاوزوا استخدام العقاقير الأصلية (الأدوية المفردة) ذات المنشأ النباتي أو الحيواني أو المعدني، إلى (الأدوية المركّبة) والمستحضرات بأشكالها المختلفة من دهون وشراب وأقراص، وتوصلوا إلى الفوارات والحقن والسفوفات والسعوطات واللعوقات والمعاجين والمغليات.

 

وتحفل كتب العشابين العرب بوصف الأعشاب والنباتات الطبية التي استخدموها في علاج الأمراض، وشرح خصائصها العلاجية كالزعتر، والخروع، والراوند، والكافور، والخلة، والزنجبيل، وجوزة الطيب، والشيح، والكافور.

 

ذكر ابن أبي أصيبعة \"ابن أبي أصيبعة\"، صاحب عيون الأنباء، أن رشيد الدين الصوري، بدأ عمل كتاب في النباتات والأدوية المفردة أيام الملك المعظّم الأيوبي \"المعظّم الأيوبي\"، فكان يستصحب مصوّراً ومعه الصباغ، والأوراق على اختلافها وتنوّعها، ويتوجّه إلى المواضع التي بها النباتات، مثل جبال لبنان، وغيره من المواضع التي قد اختص كل منها بشيء من النبات، فيشاهد النبات، ثم يحققه، ويريه للمصور، فيعتبر لونه، ومقدار ورقه وأغصانه وأصوله، ويصوّر بحسبها، ويجتهد في محاكاتها. (2)

 

ونقل الأستاذ جلال مظهر \"جلال مظهر\"، عن حضارة العرب أن المسلمين تخيّلوا طرقاً لتناول الأدوية عاد إليها العصر الحاضر، بعد نسيانها زمناً، على أنها مستكشفات حديثة، ومن أمثلة ذلك أنهم كانوا يجعلون هذه الأدوية تمتص بواسطة النباتات كما فعل ابن زهر \"ابن زهر\" الذي كان يشفي الإمساك، بأن يجعل المريض يتناول ثمار العنب الذي روي كرمها بمادة مسهلة. (3)

 

وذكر ابن أبي أصيبعة \"ابن أبي أصيبعة\" أن سائر الصيدليات الخاصة كانت خاضعة للتفتيش الحكومي الدقيق، ويتولاّه مفتش الصيدليات (رئيس العشابين) ولذلك كان يوجد قيد خاص بأسماء الصيادلة، وثبت بالإجازات والرخص لفتح هذه الدكاكين.

 

وكان تطبيق العرب للكيمياء في مجال العلم الطبي أعظم قيمة من هذا كله للعالم، ويمكن أن يسمى المسلمون بحق مؤسسي الكيمياء الطبية، وهم لم يطّلعوا فحسب بكشوف متميزة في استعمال العقاقير لعلاج الأمراض الباطنية، بل إنهم أنشأوا أيضاً أول مدرسة للصيدلة في العالم. (4)

 

وذكر المستشرق (موريس لومبار \"موريس لومبار\"): أن من نتائج التقدم في الدراسات الكيميائية والصيدلية، ظهور إمكانيات جديدة لصنع الكماليات مثل ماء الورد والبنفسج والقرنفل ومختلف أنواع الدهان والمراهم والمساحيق والروائح العطرية والمشروبات.

 

وربط بين هذا التقدم وبين ازدهار تجارة العقاقير ومنتجات الزينة، ومنها تجارة: الشب المصري، والبورق الأرميني، والكبريت الصقلي، والراتنج الجاوي، وغيرها من المواد الصيدلانية كصمغ البلسم، والنعناع، والأهليج، والراوند، والسنا، والخروع. (5)

واستفادوا من خصائص أعضاء الحيوان، فقد ذكر الدميري \"الدميري\" في كتابه الحيوان فوائد كل عضو من أعضاء الحيوان في علاج الأمراض، ومنها منافع رئة الثعلب لعلاج أمراض الصدر، بعد ملاحظته أن الثعلب لا يلهث إذا جرى.

 

ويعود الفضل إلى محمد أبي بكر \"أبي بكر\" الرازي \"الرازي\" في إدخال استعمال المليّنات، وتطبيق المركبات الكيميائيّة على الطب.

 

وعرف المسلمون أهميّة الغذاء وخواص المأكولات من لحوم وألبان وفاكهة وبقول، للمحافظة على الصحّة، واعتنوا بغذاء المرضى والناقهين، ووضعوا لهما القوانين، وصنّفوا في هذا الباب كتباً عديدةً، ذكروا فيها النافع والضار من المأكولات، وعالجوا الداء بالغذاء.

 

ترجمة كتب العقاقير إلى العربية:

 استفاد علماء المسلمين من المؤلّفات القديمة في علم العقاقير وترجموها إلى لغتهم، ومنها كتاب (الأدوية المفردة) المشهور بكتاب الحشائش، ل(ديوسقوريدس \"ديوسقوريدس\") الذي قام بترجمته من اليونانية إلى العربية (اصطفن بن باسيل \"اصطفن بن باسيل\") في أيام الخليفة المتوكل \"المتوكل\" ببغداد. (6)

 

 وأعيدت ترجمته في الأندلس \"الأندلس\"، عندما ورد هذا الكتاب إلى قرطبة \"قرطبة\" هديّة من إمبراطور بيزنطة (أرمانوس \"أرمانوس\") إلى الخليفة الناصر \"الناصر\"، مع هدايا أخرى، فاعتنى به جميع من ألّف في المفردات الطبية عناية كبيرة ما بين شرح وتفسير واستدراك وتصحيح من الأندلسيين، منهم ابن جلجل \"ابن جلجل\" في كتاب (تفسير أسماء الأدوية المفردة من كتاب ديسقوريدس \"ديسقوريدس\") وابن وافد الأندلسي في كتابه (الأدوية المفردة) الذي جمع فيه بين كتابي (ديسقوريدس) و(جالينوس \"جالينوس\") والشريف الإدريسي \"الإدريسي\" في كتابه (الجامع لصفات أشتات النبات) واستدرك فيه على ما أغفله (ديسقوريدس) وضياء الدين بن البيطار، الذي استوعبه في كتابه (الجامع في الأدوية المفردة) جميع المقالات الخمس. (7)

 

 التأليف في علم الصيدلة:

 صنف العلماء المسلمون في علم الصيدلة كتباً ورسائل عديدة لا تحصى، نذكر طرفاً منها ونحن بصدد رسم صورة الحركة العلميّة، من خلال التأليف العلمي في ظل دولة الخلافة، فقد ألف ابن البيطار \"ابن البيطار\" المالقي كتاب (جامع مفردات الأدوية والأغذية) وصف فيه نحو ألف وخمسمائة عقار طبي، بين نباتي وحيواني ومعدني، وذكر طريقة استعماله، وجعلها مرتّبة طبقاً لحروف المعجم ليسهل الرجوع إليه، واشتهر كتابه (المغني في الأدوية المفردة) وألف أبو بكر \"أبو بكر\" الرازي \"الرازي\" كتاب (منافع الأغذية) و(صيدلية الطب) و(الحاوي في التداوي) الذي وصفه ديورانت: إنه ظل عدة قرون أعظم الكتب الطبية، وأهم مرجع للطب في بلاد الرجل الأبيض، وألف علي بن العباس المجوسي \"علي بن العباس المجوسي\" كتاب (كامل الصناعة الطبية) و(الملكي) الذي قصر جزأه الثاني على الصيدلة، وجعله في ثلاثين باباً، وألف أبو القاسم خلف بن عبّاس الزهراوي \"خلف بن عبّاس الزهراوي\" كتاب (التصريف لمن عجز عن التأليف) خصص منه باباً للعقاقير، وداوود الإنطاكي كتاب (تذكرة أولي الألباب والجامع للعجب العجاب) وكوهين العطار (منهاج الدكّان ودستور الأعيان) وابن زهر الأندلسي كتاب (الجامع في الأشربة والمعجونات) وألف أبو عبد الله محمد الإدريسي \"الإدريسي\" (الجامع لصفات أشتات النباتات وضروب أنواع المفردات من الأشجار والأثمار والأصول والأزهار) وأحمد بن محمد الغافقي (جامع الأدوية المفردة) وللكندي اثنين وعشرين كتاباً في الطب والصيدلة، ويعتبر (فردوس الحكمة) أهم كتب الطبري \"الطبري\" في الصيدلة، وأقدم كتاب جامع لفنونها.

 

* * * * *

المراجع:

1 ـ التراث العلمي للحضارة الإسلامية ص 195 د. أحمد فؤاد باشا \"أحمد فؤاد باشا\".

2 ـ صور \"صور\" ومشاهد من الحضارة الإسلامية ص 306 عبد القادر الخلادي \"الخلادي\".

3 ـ أثر العرب في الحضارة الأوروبية ص 276 جلال مظهر \"جلال مظهر\".

4 ـ المسلمون في تأريخ الحضارة ص 48 ستانوود كب \"ستانوود كب\".

5 ـ الإسلام في مجده الأول ص 287 موريس لومبار \"موريس لومبار\".

6 ـ تراث الإسلام ص 119 شاخت وبوزورث.

7 ـ بحوث ندوة الأندلس \"الأندلس\" ص 425 محاضرة د. محمد أحمد أبو الفضل \"محمد أحمد أبو الفضل\".

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply