بسم الله الرحمن الرحيم
إن ما أوجهه للقائمين على التعليم \"بنين وبنات\" هو أمل وثقة في أن ينال تعليم الإسعافات الأولية للبنين والبنات على السواء الاهتمام الذي يليق به وعلى أيدي متخصصين في الإسعافات الأولية.
حادثة وقعت على أرض الوطن في صباح أحد أيامنا الدافئة، كان من المحتمل أن تنتهي بمقتل زوج وأب شاب، اندفع بحب بغية رفع طفله ابن خمسة الأعوام من أمام سيارة متهورة، جلس خلف مقودها صبي طائش لم يكد يبلغ الحلم، اندفاع نفس مذعورة كان وراء اصطدامه ومن ثم إصابته باختناق ونزيف حاد...
قصة كآلاف القصص تروى علينا بين الحين والآخر، نستشف من معظمها حب الآباء والأمهات تجاه فلذات أكبادهم، قصه قد نرى أدوارها تحدث في عالمنا الأرضي بين البشر وبين غيرهم، حب لا ندرك أبعاده ولن ندرك، ولكننا ندرك عمق هيمنته على صاحبه، لهذا كله كانت ردة فعل الأب هذه بالنسبة لنا تلقائية وطبيعية، ومن ثم فهذا ليس حديثنا...
هذه الحادثة كانت ستنتهي كما بدت ذلك اليوم بموته.. بيتم ابنه.. بترمل زوجته، بفجيعة أسرته، لولا فضل من الله تغمدهم، إذ أوجد المولى الكريم في ذلك الموقع... وفي تلك اللحظة سيدة سعودية اندفعت بتلقائية وشجاعة لإنقاذه، لقد اندفعت ما إن رأت المارة قد تسمرت أرجلهم أمام الحادث، ما إن رأت أجسادهم قد يبست أمام مصاب ترك مرمياً على الأرض غارقاً في دمائه يرتعش من الاختناق... ما إن رأت استغاثة الطفل المذعور أمام والده يرتجي بنظراته مد يد العون لإنقاذ أبيه، لقد اندفعت هذه السيدة السعودية أمامه، جلست على دمه الذي غطى الأرض من حوله،... فتحت فمه... ومن ثم قامت بتعديل مسار لسانه لحالته الطبيعية، وهكذا وبهذه الحركة البسيطة تم إنقاذه من الاختناق، ولم تكتف بذلك بل طلبت من الحشود المكتظة حوله المساعدة في رفعه، بعد تأكدها من استرجاعه لقوته وقدرته على الحركة، ولكن مع الأسف لم يتقدم أحدهم - وأنا هنا لا أوجه اللوم لهؤلاء، أما لمَ، فسأبين الأمر لكم بعد قليل - المهم أن المصاب تمكن من السير باتجاه المبنى القريب بمساعدة هذه السيدة التي بادرت برفع حذائه المستلقي بعيداً، وسارت معه غير آبهة بعباءتها التي اغرورقت بدمائه، ولتتركه في أيد أمينة في مبنى قريب... ريثما يصل الإسعاف...
اعتقدت وأنا أسمع هذه الحادثة أن تقديراً رسميا من القطاع العام وجه لها، أو أن الصحافة على الأقل أشادت بفعلها، إلا أن ذلك كله لم يحدث بل وصل لمسامعها لوم، أو لنقل عتاب كما تحب هي أن تصفه.. على إنقاذ رجل كانت حياته في خطر.
سألتها: من أين لك هذه الثقة... ؟ ألم تخش على نفسك لو أصابه مكروه أو مات معاذ الله، وأنت كما أعلم لست متخصصة في المجال الطبي؟
أجابت: لقد قدر لي أن أتلقى دراستي في المرحلة المتوسطة خارج الوطن، في دولة نظامها المعمول به يلزمنا بدراسة الإسعافات الأولية كجزء من إحدى المواد، وهكذا تمكنت من إدراك العلة التي أصابته، كما أدركت ما كان يجب علي القيام به لإنقاذه..
تساءلت: لو قدر الله لها وشاهدت حادثاً مماثلاً هل ستبادر لنفس الفعل... فلم تجب... وحق لها ألا تجب... فهي لن تتمكن من الجزم... وقد وضعت أمامها تناقضات لا تحسن تفسيرها... فقد تعلمت في طفولتها أن إنقاذ الحياة ولو كانت لحيوان فيه أجر عظيم، ولكنها في ذلك اليوم سمعت أصواتاً - من خارج أسرتها ولله الحمد - حاولت تغيير مسار عقارب ميزان أخلاقها باتجاه اللامبالاة، وكأننا في مجتمع لا ينتمي لهذا الدين العظيم... الذي يدعو لرفع الأذى من الطريق خشية أن يتضرر أحد... الذي علمنا أن سقاية حيوان قد تكون سبباً في دخول الجنة...
وقبل أن أنهي كلامي اليوم أود أن أذكر القارئ الكريم بصحابية جليلة لقيت تقديراً مميزاً من رسولنا الكريم محمد بن عبد الله - عليه الصلاة والسلام -، وثقة عظيمة، كان لا بد أن أذكركم بـ(رفيدة بنت سعد الأسلمية) - رضي الله عنها -، التي سمي باسمها أول مشفى ميداني عسكري نصب في الإسلام، واختار رسولنا الكريم المسجد النبوي ليكون موقعاً له، ولتعالج فيه وبإيعاز من رسولنا الكريم - عليه الصلاة والسلام - سيد الأوس في الجاهلية والإسلام سعد بن معاذ - رضي الله عنه -، إثر إصابته في غزوة الخندق، بسهم قطع أكحله (عرق في اليد) فقد قال - عليه الصلاة والسلام - لأصحابه: (اجعلوه في خيمة رفيدة حتى أعوده من قريب)...
إذاً فليس هناك مسوغ شرعي لتوجيه اللوم لتلك السيدة السعودية، أو حتى لعتابها لإقبالها على العمل الاجتماعي، فليس في ذلك خدش لحيائها أو تفريط في دينها، فالإسلام لم يحرم على النساء إنقاذ حياة الرجال وتمريضهم، خاصة لو تعذر وجود الرجال المؤهلين لذلك، وعليه كان جديراً بنا أن نقدم لتلك السيدة وساما بدل لومها... لعلها تكون مثالاً يحتذى به في العمل الاجتماعي التطوعي الإيجابي.
أما لِمَ لم أوجه لوماً أو حتى عتاباً للرجال الذين امتنعوا عن إمداد يد العون له، فلأنهم وبكل بساطة لا علم لهم بكيفية ذلك، فلم يسبق لهم أن تلقوا دروساً تتعلق بالإسعافات الأولية إلا من خلال نشاطات مدرسية تحوي عدداً ضئيلاً من الطلبة ويديرها مدرسون غير متخصصين، أو من خلال درس أو أكثر ذي طابع عملي يعطى للطالب بشكل نظري وبأسلوب لا يليق بأهميته...
إن ما أوجهه للقائمين على التعليم بنين وبنات وعلى رأسهم معالي الدكتور محمد بن أحمد الرشيد وزير المعارف هو أمل وثقة في أن ينال تعليم الإسعافات الأولية للبنين والبنات على السواء الاهتمام الذي يليق به وعلى أيدي متخصصين في الإسعافات الأولية، لعل قرار معاليكم بتدريس هذه المادة بالشكل المطلوب يسعفنا فنرى أبناءنا وبناتنا مدركين كيفية التعامل مع الملمات والحوادث، ولو بشكل مبدئي ريثما يصل الإسعاف الطبي لإكمال اللازم، لعلنا ننمي في أنفسهم دعم العمل التطوعي، لعلنا - بإذن الله - ننقذ حياة إنسان...
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد