الكتب الصفراء


 

بسم الله الرحمن الرحيم

لم تزل أحب البقاع إلى ضميري في أي أرض عربية أو أعجمية، بقعة بني على أرضها مكتبة عامرة، فما زالت تتناقلني البلدان وتقاذفني المدائن، فما أنزل في شيء منها إلا ذهبت أسائل أهلها عن مكتبات المدينة، وقطعت أزقتها صعودا وهبوطا وتسرحت في سككها بحثا عن هذه التي تحوي عقولا وعلوما ترقد في أجداث من الكاغد ما أن تنبش دفائنها حتى تنبعث منها أرواح أهلها، لكأن صاحبها لم يرفع قلمه عنها ولكأن حبات المداد لم تجف بعد. فتسارع حروفها السوداء وتطاير معانيها إلى مقلتيك - في شوق ولهفة كأنها ملاقاة بين حبيبين طال فراقهما فلا يكاد يملك أحدهما زمام نفسه.

 

ولم أعرف في الأرض لذة أمتع ولا ألطف ملمسا ولا أرق وأروح على النفس، ولا أرفق وأعذب صوتا، ولا أبدع هيئة من إمساك سبابتك و إبهامك بدفة الكتاب وتقليبك صفاحاته ذات اليمين وذات الشمال وتسريح نظرك في مضمونه.

 

وأقرب هذه الكتب-عندي- وأشدها اتصالا بالقلب وفلقا للقريحة وجلبا للإلهام، وإحياء للحس-تلك الأسفار العتيقة والمجلدات القديمة البالية، والذي نفسي بيده-إني لأجد أثرها في النفس قبل أن أجد معناها في الذهن، وإني ليقع لي الكتابان المتماثلان أحدهما عتيق أوراقه صفراء خفيفة ومداده كالليل إذا خالطه إسفار، والآخر جديد الثوب جيد التجليد ناصع الصفحة قشيب سواد مداده أشد من سواد الغراب، فيه الأحمر والأصفر وما شئت من الألوان والتزاويق، فأطرح هذا وأنفر منه، وأقبل على ذلك إقبل الإلف على إلفه. وهذا الأمر يجري مني على عرق فلا أستطيب من الأدب إلا قديمه، مثل ما كان من الجاحظ وابن قتيبة وغيرهما من سلف الأدب الأصلاء ومن شاكلهم بعض المشاكلة من أدباء المتأخرين كذالك الرافعي و الطنطاوي ومن كان منهما بسبيل.

 

وهذه حال نفسية تختلف باختلاف العارض والمحل فالأمر في الآداب وما شابهها يختلف عن الحال في الثياب وما كان في معناها، فليس البالي والقديم من الثياب والنعال، في منزلة البالي والعتيق من الأسفار، وقس على هذا.

وهذه معاني كلما أطلت فيها الحديث وزدتها بيانا كلما اتسعت وتشتتت.

وقد سمعت غرا بليدا ممن ابتلي بهم زماننا يزري على هذه المجلدات ويعيرها بقوله: هذه الكتب الصفراء.

ويحك يا مسرف وهل الذهب السبيك إلا أصفر.

وما مثله في حماقته إلا كسائس قرد يتكسب به أمام جامعة عظيمة فكان كلما غربت شمس يوم وأقفل عائدا التفت إلى الجامعة وصعد فيها نظره متمعرا متحسرا وقال لنفسه لو أن لي من الأمر شيء لهدمتها وجعلت مكانها مسرحا للقردة. ثم..ثم مضى وقرده على كتفه.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply