الملجأ


 

بسم الله الرحمن الرحيم

شد ما استرعي انتباهي هذا البناء الصغير.. بسقفه المائل ينفض عنه قطر شباط..

كانت قرقعة المطر فوقه أشبه ما تكون بصوت إطلاق الرصاص..

ولأنه كان ملحقا.. فلم يكن يضيرني كثيرا صوت الأمطار تغسله.. فأولا وأخيرا هو ليس إلا مأوى.. مأوى لآلات صماء.. وحاجيات أفقدها الزمان حاجتنا إليها.. فباتت رثة خلقة.. لا تجيد سوى أن تنزعك ثوبك القديم.. فتريك من قشابته وحسنه ما يفري أصابعك بين أسنانك تعضها أن قد ودعت ماضيك إلى هذا الحاضر الخانق.. ولا تعلم أنت ساعتها أن يوما ما سيأتي.. فترى يومك الفائت هذا دهرا من الأغاريد والأفراح..

شيء من البناء كانت تحجبه المدرسة الخاصة.. وهذه الأخيرة لا تني تتقد في كل صباح بلغط الصبية وصراخهم وضحكاتهم.. وهم الكتب المفتوحة لا تعي مخبـّأ.. وقد ضاقت صدورهم الناحلة المضلوعة عن أن تستحفظ سرا.. خبيثا كان أو طيبا..

وحوله انتثرت بضعة نخلات خضراوات.. من نخيل الدوم..

إذن ثمة حياة حوله!.. ففيم الصمت يقتل هذا الكوخ قتلا!!..

لكن..

في مساء الأمس فقط عرفت السر..

حجرتي.. هي واحدة من عشرات الحجرات.. تضمها جميعا بناية جوفاء مع من تضمهم من طلبة الجامعة.. ولما كانت في الطابق الثاني.. فقد منعتني استظهار السر المكنون خلف هذا الجدار الغليظ.. الذي بدا كجدار زنزانة.. إلا أني ارتقيت ثالث الطوابق مساء الأمس.. وبينا أن أرتقي السلم.. وقعت عيوني على مبنى هائل مقبّى.. في أعلاه كوة.. ينبعث منها ضوء أصفر شاحب.. وفي فناء مظلم كان ثمة أطفال يتصايحون.. بين نخيل الدوم.. وكان الكوخ الصغير يرقبهم في صمت.. وهو يلوك في فمه ما استحفظ من أثاث رث..

كانت نوافذه مفغورة.. وهي تطالع في انفعال مفارقة بين حال الصبية وراءها.. وحال آخرين نضرين يصرخون فيُصرخون في المدرسة الخاصة المجاورة..

\"ترى أيكون في هذا القبر الكبير.. بأسرّته المتهتكة.. وأغطيتها المهترئة.. قلب ذهبي يعرف قدر ما هو فيه من بؤس؟! \"..

وتذكرت كيف أني لا أطيق المقام هنا في حجرتي الشحوب لأسابيع..ورثيت لحال هؤلاء الصغار يحيون في هذا الملجأ ولا يحيون..وكيف أن لذة ساعة أو جشاعة هي ما جاءت بهم إلى هنا.. إلى دنيا غير تلك التي نحياها.. دنيا الأطفال الكبار!!.. دنيا تراها في أعينهم يتعانقون لهدف كروي أحرزوه.. وفي صحن من الحساء يتقاتلون عليه!!

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply