عانت في دفع عودها الذابل المنحني انحناء العرجون القديم..وشردت عيناها العمياوان في حزن كأنهما ترثيان دهرا عاشتا فيه تنعمان بمعاينة الدنيا بين عشية وضحاها..وقد افترشت جوالا بلاستيكيا وراحت تقطع الشارع زاحفة على يديها العجوزين المغضنتين.. ولا يلف جسدها سوى جلباب خلق رقم الراقم فيه ورودا تحدث عن عهد الشباب البائد.. وعلى رأسها منديل وردي سلت به عن نضرة الوجنات وانغضاض الإهاب اللذين أضحيا أثرا بعد عين..
كانت العجوز المقعدة التي سلبتها الدنيا نور حبيبتيها.. ودفء سكنها.. ولم يمن عليها البشر القساة بعصا أو كرسي متحرك.. تعبر الشارع الرحب في معاناة.. وهي وإن كان البشر قد نسوا كونها واحدة من بني جلدتهم.. فإنهم أيضا لم يألوا جهدا في إغفال وجودها على قارعة الطريق.. فها هو سائق السيارة الأجرة يكاد يدوسها بسيارته وهي من عكرت عليه مزاجه إذ يريد أن يوقف سيارته حيث تزحف هي.. وهي المسكينة لم تملك سوي أن تتوقف حيث انتهى بها المقام.. وماذا عساها تصنع وقد ارتقت عنها الهوام بعين ترى وأرجل تعدو.. فلو كانت قطة أو كلبة لراعى المراعي وجودها.. إنها لو كانت حتى صندوق قمامة لخشي هذا السائق أن يصدمها لئلا ينكسر مصباح سيارته الغالية..
\"كل هذا اختلج بصدرك يا غاليتي؟!.. آه.. ما أكذبني لو كانت غالية ما ودَعتها خلفي كمن يرمي من مخلفاته ما احتقر أن يسكن جيب سرواله.. آه.. ترى أين أولادك؟؟.. ترى ما كل هذه الظروف التي أخنت عليك وقد كنت يوما فتاة نضيرة تدل بحسنها وتعدو تسابق النسيم؟؟.. \"
انفتح باب السيارة لينزل منها من كراها.. ودفع للسائق نظير كرائها.. وانطلق السائق يشق الإسفلت الصلد.. وهي.. وهي أكملت زحفها.. يبدو أنها رأت من طينة هذا السائق خلقا كثرا.. لم تسمح بإرسال الدموع محاجرها.. ولم يكن لها لسان مقال تحكي به.. وإن كان فلمن تحكي؟؟.. ألعجلات السيارة؟؟.. أم لأحجار الرصيف التي أخذت بيدها تساعدها.. أم للأرض تئن بها من تحتها.. وهي العمياء المقعدة العجوز.. تلك التي كان من حقها على البرايا أن يفوها أجرها أن طاقت الدنيا عقودا طوال ولم تشك.. هكذا بأن بعينيها العمياوين المفتوحتين في براءة لا تبين عن شيء بل تبين عن كل شيء..
حكت عنها عيناها الصامتتان توقها إلى دفء من حضن ولد يأخذ عنها برد صدرها في خريف الشمال البارد.. أو يد تأخذ بيدها التي مات جلدها زحفا على الإسفلت الذي لا يحتمله الحفاة فيجتازونه اجتياز الوجي الوحل.. \"آه.. ماذا أقول؟؟.. ماذا عساك تقولين يا نفس يوم يقوم الناس لرب العالمين؟؟.. لقد استهللت العجوز تقلبين صفحات الجريدة مجتازا الشارع.. وخلفتيها وراءك مقلبة ما بقي من صفحات الجريدة.. ألم تكن العجوز تمثل لك إلا صفحة في جريدة بكيت لأجلها ثم قلبتيها؟؟.. آه.. ما أقساك إذن!! \"..
ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا.. ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا.. ربنا ولا تحملنا ما طاقة لنا به.. واعف عنا.. واغفر لنا.. وارحمنا.. أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين..
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد
التعليقات ( 1 )
اسيرة الصفحات
23:57:15 2015-03-19