الدكتور عدنان النحوي يعرفه متذوِّقو الشعرº باعتباره شاعرًا إسلاميًّا رصينًا، صاحب أسلوب رفيع في التعبير عن أفكاره ورؤاه، وربما لا يعرف الكثيرون أن الدكتور النحوي متخصصٌ في هندسة الاتصالات، لكنه رغم ذلك لم يتعامل مع الآداب والشعر تعامل العابر بل تعامُل المتخصص المدقق، فيراه الناس يتفوق على الكثيرين من المشاركين في الندوات..شعرًا وإلقاءً وأبحاثًا ودراساتٍ, قاربت التسعين مؤلَّفًا في المجالات المختلفة.
وفي كتابه (الشعر المتفلِّت بين النثر والتفعيلة وخطره) يقتحم د. عدنان النحوي مجالَ المواجهة الفكرية الشاملة مع دعاة الحداثة ومدَّعي التجديد والتطوير فيما يتعلق بالشعر العربي.
ويكشف بعمق الباحث كيف أن مثل شعارات التجديد والتطوير المزعومين تقود إلى ضرب ثوابتنا الثقافية والطعن في القرآن الكريم دستورنا الخالد.
إن لجنة الشعر التي كان يرأسها عباس محمود العقاد بالمجلس الأعلى للفنون والآداب بالقاهرة رفضت النظر في أشعار أحمد عبد المعطي حجازي وزميليه وحوَّلتهم إلى لجنة النثرº لأن ما يكتبونه تحت لافتة الشعر لم يكن شعرًا بالمعنى المصطَلَح عليه من قديم الزمان، وإنما كان نثرًا لأنه لا يقوم على قواعد الشعر وإنما هو إلى النثر أقرب.
والآن وبعد مرور نصف قرن تقريبًا على هذه الواقعة أصبح شعر التفعيلة ومن بعده النثر هما القاعدة في اعتبار الكلام شعرًا، وزاد على ذلك الأفكار الهدَّامة التي صاحبت ذيوعَ هذَين النوعَين من الكتابة، وهو الأمر الذي دفع د. النحوي أن يكتب في مواجهة هذا التيار الهدَّام كتاباتٍ, رائدةً تمثل الطليعة المنتصرة للأصالة في هذا الميدان.
فكان كتابه (الحداثة في منظور إيماني) و(تقويم نظرية الحداثة وموقف الأدب الإسلامي منها) و(الأسلوب والأسلوبية والأدب الملتزم بالإسلام)، ثم كتابه هذا الذي نعرضه (الشعر المتفلت بين النثر والتفعيلة وخطره).
اللغة العربية:
يؤكد المؤلف أن اللغة العربية ليست لغةً صنعها العلماء أو ابتدعها الفقهاء أو وَهبت لها خصائصَها لجانٌ أو كانت ثمرةَ دراسات وأبحاث، ثم يوضح أنها اللغة التي بنتها السنون، ومرت بأطوار حتى بلغت الصورة التي استقرت عليها نثرًا وشعرًا عند العرب، فنظَم بها الشعراء شعرَهم سليقةً وطبعًا، دون أن يكون لديهم تحديد للأوزان أو لعلم العروض، وألقى بها الخطباء خطبَهم، واستقرت بها قواعد البيان والبلاغة في النثر والشعر، دون أن يعرفوا الاستعارة وأنواعها والبديع وأشكاله ومصطلحات هذه المجالات.
وقد استقر كل هذا عند العرب نثرًا وشعرًا، سليقةً وطبعًا، وتحدد النثر ومعناه بصورة حاسمة، وكذلك تحدد الشعر ومعناه بصورة حاسمة، وبعد هذا الاستقرار اختارها الله- سبحانه وتعالى -- لغةً للوحي والنبوة والدعوة والبلاغ للعالمين.
الفتن الثقافية:
لكنَّ واقع المسلمين يشهد بالفتن تِلو الفتن، وترِد عليهم غزواتٌ قادمةٌ من عقول العدو الفكري والحضاري لأمتنا لإجراء عمليات غسيل المخ، وأخذ هذا الخطر ينتشر ويشتد ويتسلل إلى مواقع كثيرة وميادين عديدة، بدت وكأنها خاليةٌ من فرسانها وحُماتها، فانتشرت نظريات الغرب من حداثة وبنيوية وتفكيكية وأسلوبية، وانتشر الشعر المتفلِّت نثرًا أو بالتفعيلة في مرحلةٍ, هبط فيها مستوى اللغة العربية الفصحى بين الناس، وغلبت العامية، وكثر اللحن بين المتعلمين، وامتد الضعف في الكلمة والأسلوب، فجاء الشعر المتفلَّت كما يسميه د. النحوي ليَجِدَ القبول بين عزائم قد وهنت، وقلوب قد جهلت، ونفوس قد رضيت، وتسلل الشعر الحر أو ما يسمى شعر التفعيلة إلى صفوف الأدباء الإسلاميين وشعرائهم.
الغارة على اللغة نثرًا وشعرًا:
يوضح المؤلف أن أهم ما ركَّزت عليه وسائل المكر والكيد هو إبعاد المسلمين عن دينهم ودفعهم لهجر الكتاب والسنة، ومن أهم الوسائل لتحقيق ذلك تجهيلهم باللغة العربية، بالإضافة إلى العبث في المناهج التي أصبحت قيدَ تصرفاتهم يتحكمون فيها، فشنٌّوا حربًا خبيثةً على اللغة العربية استهدفت حروفَها وقواعد نحوِها وصرفِها، وقواعدَ البلاغة والبيان والأسلوب فيها وقواعد عروضها.
ومن خلال ذلك وفدت الحداثة ومذاهبها، داعيةً في جملة ما تدعو إليه إلى (الشعر المتفلِّت) دون توافر أي حجة منطقية إلا ادعاء التطوير، وظهر دعاةٌ من مجتمعاتنا يحملون لواء هذه الحرب الإجرامية، ويكفي في هذا الصدد الإشارة إلى ما يكتبه أدونيس بصورة وقِحَة مكشوفة في حرب ضد اللغة العربية والدين في وقت واحد، وكذلك كمال أبو ديب وغيرهما.
وتسللت الحداثة إلى بعض المسلمين وأدبائهم، ووقعت الفتنة، وامتدت الدعاية للشعر المتفلت، تتبناه الصحف والمجلات ثم بعض الصحف والمجلات الإسلامية، وادعى رواد الحداثة عندنا أنهم هم الذين اخترعوها، وتسابق كل واحد منهم يزعم لنفسه هذه \"السيئة\" وكأنها فضيلةٌ.
ويؤكد الدكتور النحوي أن الحقيقة هي أنهم جميعًا كانوا مقلِّدين تقليدًا على غير أساس ولا حجة، سواءٌ بأفكار الحداثة كلها أو الشعر المتفلِّت، وقد أخذوا ذلك عن الغرب وادعوه لأنفسهم ذاتيًّا، ويخرج من ذلك بنتيجة أن هذا التطوير المزعوم ليس تطويرًا ذاتيًّا نابعًا من أنفسهم أو من حاجة اللغة العربية أو الواقع، وإنما هو تقليد وتبعية واضحة لما بدأت به الحركة المستقبلية الإيطالية التي تزعَّمها \"مارينتي\"، الذي دعا إلى الشعر المتفلت كما تقول الموسوعة الأمريكية إن \" والت وايتمان\" اشتهر في القرن التاسع عشر بهذا اللون من الشعر المتفلت، وانتشر في فرنسا في أواخر القرن التاسع عشر من الحركة الرمزية المستقبلية وزاد انتشارُه في إنجلترا وأمريكا في القرن العشرين.
ولم يقتصر الشعر المتفلِّت على تغيير الشكل، وإنما أغرق في الرمزية والغموض والتناقض والأسلوب الأسطوري المنقول عن الأدب اليوناني القديم، حتى أصبحت الأسطورة أساس الأدب الحداثي.
مغالطات وادعاءات:
ويفند د. عدنان النحوي المزاعمَ والادعاءاتِ والمغالطاتِ التي يروِّج لها الخارجون على تيار الأصالة في الأدب، موضحًا أنه من خلال الشعر المتفلِّت منثورًا وتفعيلةً انتشرت معانٍ, متفلِّتة من الأخلاق وقيَمِها، فاستباحَ بعضُ أدباء الحداثة الأعراضَ وتحدثوا عن الجنس بصورة مكشوفة، ومع انتشار ذلك وتكرارِه أثَّر في بعض الأدباء المسلمين، فاستخدم بعضهم تغييراتٍ, غير كريمة وأساليب غير منضبطة، وأخذوا يبحثون عما يسوغ لهم ذلك في الإسلام، فقالوا: إن الفقيه الفلاني كتب بصورة مكشوفة، وإن الشاعر الفلاني كتب كذا وكذا، وضربوا أمثلةً كثيرةً يلتقطونها من بطون التاريخ.
ويرد على ذلك الدكتور النحوي قائلاً: إن هؤلاء كلهم ليسوا حجةً على الإسلام، وليسوا النموذجَ الذي يُتبع في هذا البابº لأن النموذج الذي يُتبع هو ما نتعلمه من الرسول- صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- الذي قال عنه الله- سبحانه وتعالى -: (لَقَد كَانَ لَكُم فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كَانَ يَرجُو اللَّهَ وَاليَومَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً) [الأحزاب: 20]، إنه الأسوة الحسنة للمؤمنين على مدى الدهر، وكذلك ما نتعلمه من الأدباء والشعراء والخطباء في عصر النبوة ومن الصحابة - رضي الله عنهم -.
ومن أمثلة هذه المغالطات اتخاذ ما ورد في القرآن الكريم من قصة سيدنا يوسف - عليه السلام - دليلاً على الأدب المكشوف الذي اتخذوه سبيلاً لهم، ومن المغالطات أيضًا اتهام الأدب الإسلام بالتقريرية والخطابية والمباشرة، مع أن التقريرية والخطابية لا تعنيان الانفصال عن الجمال، فالقرآن الكريم والسنة النبوية وخُطب العرب لا تخلو من التقريرية والمباشرة، ومع ذلك كانت من أروع البيان وأجمله.
وفي الختام يورد المؤلف نماذجَ من الشعر المتردِّي الذي كتبه دعاةُ الحداثة، ويضعه على مشرحة النقد، ويكشف بأنه ليس إبداعًا بأي حال.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد