الأدب الديني التأسيس والموضوع والمنهج


 

بسم الله الرحمن الرحيم

يعتبر الأدب مرآة الشعوب التي تنعكس عليها حقيقة ثقافتها التي تمثل علامة فارقة لمجتمع يتجه وفق منطق التاريخ وسننه، ومجتمع آخر انكفأ على نفسه داخل شرنقة احتضنته مثل كائن في مرحلة جنينية لا تكاد تبين، وهذا معناه أن الأدب يتعرف عليه من جانب عملي على أنه مجموعة الصفات الخلقية والقيم الاجتماعية التي يتلقاها الفرد منذ ولادته، كرأسمال أولي في الوسط الذي ولد فيه، وعلى هذا الأساسº فالأدب هو المحيط الذي يشكل فيه الفرد طبعه وذوقه وشخصيته، ومن ثمة ما يصدره الإنسان من بعد من فنون وثقافة وآداب لا يعدو في نهاية المطاف أن يكون سوى محصلة لمعطيات المجتمع التي غذت هذا الفرد حتى صار شخصا مبدعا بفنه وأدبه الذي يتحول بدوره إلى أن يصير شكلا من أشكال تعريف هذا المجتمع، وبهذا نريد أن نناقش موضوعا ذا أهمية في عصرنا الحاضر، وهو موضوع الأدب الديني والمثاقفة، مركزين الاهتمام في هذه المداخلة والتي وسماها بـ: \"الأدب الديني، التأسيس، الموضوع والمنهج\"، على تبيان العناصر التي تفصل هذا النوع من الإنتاج الأدبي عن غيره من الآداب الإنسانية، ولماذا ألصقت به صفة (الدينية) هل ذلك راجع لرؤية قائمة على مفهوم التوازي بين ما هو (ديني) وآخر (لا ديني)، كما هو الشأن في موضوع (الديني) و(الدنيوي)، خاصة ونحن نتعامل مع (نص) من إبداع الإنسان بفضل خياله الطافح وذوقه الرفيع، ومن ثمة ما هي الحدود التي لا يمكن لهذا النوع من الأدب ألا يتجاوزها بخلاف (الأدب الآخر) الذي لا يعير اهتماما لهذه القيود، وبذلك يمكننا النظر في مضمون هذا الأدب الديني؟

عندما يحاول أي باحث في أي مجال أن يقف على لبنات الأساس الأولى، فهو بذلك يبحث في الأفكار والنظم والعادات التي شكلت النواة الأولى لذلك العلم أو الفن، والباحث هنا هو أقرب من حيث طريقة التقصي من عمل الأركيولوجي أو الأثري أو الأنثروبولوجي، إذ يقوم بحفريات في مساحة جد محددة وذلك بتقسيمها إلى مربعات صغرى، وكل مربع يوكل مهمة حفره واستخراج محتوياته وتصنيفها إلى مجموعة من الباحثين الذين تتوفر فيهم النباهة والفطنة العلمية والخيال الفياض الذي يعينهم على اكتشاف الحلقات المفقودة في سلسلة البحث عن (الشيء) أو (الكائن) المندرس في الطبقات الجيولوجية.

وأولى الإشكالات المنهجية التي تعترضنا هي إشكالية (المراحلية) والتي لها علاقة وطيدة بـ (التاريخانية) وهذا من أجل تحديد حقل الاشتغال الأدبي لهذا الأدب (الديني) من خلال توضيح الخلفية الفنية أو الفلسفية التي تأسس عليها.

يعتبر المسرح أبو الفنون التي نتجت فيما بعد وتشعبت، كما تعتبر الفلسفة أم العلوم التي تفرعت عن أغصانها، وكلا المجالين صادرين عن الإغريق في وقت مبكر من فجر التاريخ الإنساني، إذ ارتبط ظهور المسرح عند اليونان بالممارسات الطقسية في المعبد الكهنوتي (الديونوزوسي) الذي تتم فيه كافة أشكال العربدة والقصف ألا وهو (المسرح).

لكن الفكر المسيحي في أوروبا القرون الوسطى، حارب المسرح الإغريقي باعتباره فنا إغريقيا وثنياº ولذلك أنشأت- الكنيسة - مسرحا بديلا يعرض دراما (الضمير) البشري انطلاقا من فلسفة (عقدة الذنب) وفكرة (التطهير) أو (التعميد)، بمعنى أن الكنيسة قدمت مسرحا ليس من أجل المسرح وكفى وإنما بقصد التبشير ونشر المسيحية، وبما أن اللاتينية كانت لغة لا يتقنها إلا رجال الكنيسة و(الكتاب المقدس) مكتوبا بها، استعملوا عدة تقنيات بديلة من أجل إيصال الفكرة وتبليغها إلى (المتلقي) المتفرجº فاعتمدوا على قاعدة ثلاثية وهي: منظر (السماء) و(الأرض) و(الجحيم) وعلى قاعدة المنظر التقابلي (السيمتري): (الجنة) و(النار)، ووظفوا لأجل ذلك عدة تقنيات خداعية بصرية من أجل تصوير (مشهد) الجنة والنار الذي كان يستهوي جمهور القرون الوسطى، خاصة فيما يتعلق بمنظر عذاب المخطئين ومنظر (الشيطان) وهو يحترق في (جهنم) أما فيما يتعلق بمصدر المادة المسرحية، كانوا يمتحون من (الإنجيل) مواضيعهم إذ استعملوا مريم العذراء رمزا لـ (الخطيئة الثانية) والسيد المسيح رمزا للتكفير عن أخطاء البشر (عقيدة الفداء) و(الخلاص)، وكذا رواية آدم وقصة نوح (الطوفان) التي كانت عبارة عن منظر دائم الحضور في المسرحيات، كما يجب التنويه إلى أن رجال الكنيسة وظفوا أولا المدائح الدينية كأغاني بصحبة الموسيقى ثم طوروها شيئا فشيئا إلى (حوارات) مسرحيةº التي أخذت عدة أشكال مسرحية مثل (الأسرار) و(المعجزات) و(الخوارق) التي تحولت فيما بعد إلى مسرحية (أخلاقية) في القرن السادس عشر للميلاد بأوروبا.

وفي الفترة التاريخية نفسها وفي حدود جغرافية عالم القرون الوسطى الذي قسمت بحسبه الحدود الزمنية إلى ما يعرف بدار الإسلام كناية عن (العالم الإسلامي) الذي كانت تمتد حدوده الجغرافية من شبه الجزيرة الإيبيرية غربا إلى نهر السند - هند شرقا، وإلى دار الحرب كناية عن العالم المسيحي والوثني الذي كانت تمتد حدوده الجغرافية من بحر الظلمات غربا لتصل إلى ما وراء بحر جيحون شرقا، وبهذه الكيفية انقسم العالم إلى كتلتين سياسيتين متقابلتين ولكل منهما أساسها العقائدي (المسيحية) في مقابل (الإسلام)، وبذلك نحن أمام أطلس لجغرافية مشروعين حضاريين كل منهما يهدف إلى السيادة والهيمنة في الأرض أحدهما وفق فلسفة (القوة) و(السيطرة) و(المركزية) حول الذات الأوروبية والآخر وفق فلسفة (الخيرية) و(الخاتمية) لكافة الرسالات السماوية السابقة مع الإبقاء على (التمايز الثقافي) لكافة الشعوب غير العربية المعتنقة للإسلام، ولذا نجد كل الأعراق لكافة هذه الشعوب استطاعت أن تطعم الحضارة الإسلامية بخصائصها الثقافية والأدبية المختلفة مما أفرز لنا إنتاجا ثقافيا هائلا يعتبر من أغنى ما قدمته البشرية كرصيد روحي وأخلاقي متفرد في تجربته التاريخية وهذا أنتج ما عرف فيما بعد في الأدبيات التأريخية بـ (الأدب الإسلامي). فلأي سبب ترجع هذه التسمية؟

قلنا منذ قليل أن الشعوب غير العربية حافظت على ثقافاتها المحلية وإن كانت عدلت من بعض مظاهرها وما يتماشى وعقيدة التوحيد التي اعتنقوها، ولذا عرفت نقل الآداب الأجنبية خاصة الشرقية منها مثل: كليلة ودمنة، والأدب الكبير والأدب الصغير لابن المقفع وكذلك قصص ألف ليلة وليلة، كما أبدع غير العرب آدابا كثيرة مثل ابن سينا في قصة آسال وأبسال الرمزية، وكذلك شاهنامة الفردوسي (934 - 1020 م) ورباعيات عمر الخيام (ت 1132 م) والإنسان الكامل ومثنوي غولشي راز لمحمود شابستاري (ت 1320 م) وشعر جلال الدين الرومي (1207 - 1273 م) مؤسس جماعة المولوية، وقصيدة منطق الطير لفريد الدين العطار (1140 - 1230 م)، ونفحات الأنس من حضرات القدس لعبد الرحمن الجامي (1414 - 1492 م) آخر أكبر الشعراء الاتباعيين، فما الذي يمكن أن نلاحظه على هذا النوع من الآداب لشعوب غير عربية اعتنقت الإسلام مع إضافة كل المنتوج الأدبي من شعر ونثر وفن المقامة وشعر الموشحات الأندلسية؟

الملاحظة الأولى التي يمكن تسجيلها أن هذه الآثار الأدبية يمكن تصنيفها بحسب انتمائها الجغرافي والزمني والتجنيسي أنها آداب إسلامية وذلك لأنها مكتوبة باللغة العربية واللغة الفارسية التي كانت أقرب اللغات الأجنبية للعرب من حيث الاستعمال.

أما ثاني ملاحظة هي أن إسلامية هذه الآداب مرجعها إلى أنها نمت وترعرعت في بيئة حضارية عربية وإسلامية.

والملاحظة الثالثة نسجل غياب اصطلاح (الدينية) عن هذه الآداب؟ ونرجح أن السبب في ذلك كامن في أن صبغة الوعظ والإرشاد والدعوة إلى تخليص النفس من آثامها وشرورها كان علامة على أن المجتمع الإسلامي كان يمر بمرحلة الضعف السياسي والفساد الأخلاقي وتآكل شبكة علاقاته الاجتماعية بعدما صارت تفتقر للحام داخلي يشد أوصالها المتفرقة المتقطعة، إذن ما هي الحدود الفاصلة بين أن نقول هذا أدب إسلامي وهذا أدب ديني؟

هل نلجأ إلى قاعدة القوانين الثلاثة التي أقرها (تين) Taine والتي يقول فيها أن الأدب في كل أمة يخضع لمقياس الجنس والزمان والمكان، وهو بهذا يتجاهل شخصية الأديب وفرديته وموهبته الأصيلة في أي عمل إبداعي؟

إذا أخذنا بهذه القاعدة نجد فعلا أن للمكان والزمان والجنس دور حقيقي في نشأة الأدب الديني - أي بمفهومه الضيق الذي هو الوعظ والإرشاد والدعوة إلى التوبة والزهد في الدنيا والانقطاع للعبادة - إذا جعلنا نهج البلاغة لعلي بن أبي طالب هو المرجع التأسيسي لهذا الفن الأدبي شكلا ومضمونا؟

لأن جامع ما نسب في نهج البلاغة لعلي ابن أبي طالب هو علي بن أبي حديد أحد المتشيعيين لآل البيت النبوي وقد حظي بأهمية خاصة لدى أتباع علي وشيعته وصار مرجعا في البلاغة رفيعة النسج وذلك بلغة مقتصدة ومضامين كثيرة ومكثفة في النص الواحد، ألا يدل هذا على أنه يمثل علامة فارقة إذ نجد فيما بعد أن كافة من كتب في هذا الباب وبرع يميز بهذه الخاصية الأدبية، والمؤشر الثاني على صحة ما نحن بصدد تسجيله هو أدب الخوارج الذين كانوا مناوئين لعلي وشيعته وكذلك لمعاوية بن أبي سفيان الأموي وأتباعه، إذ تميز شعرهم أيضا بالخصائص ذاتها التي نجدها في آثار أصحاب الكتابة الأدبية الدينية، وإن كان يمكن أيضا تصنيف شعرهم ضمن شعر الحماسة والفخر لارتباطه بمظاهر الفروسية والحرب والنجاز، كما نجد مؤشرا آخر وهو ما عرف في الأدبيات بشعر الزهد (الزهديات) بداية بالشاعر العباسي أبو العتاهية الذي يعتبر أول شاعر تأثر بالحكمة الفارسية والهندية التي ترجمت في العصر العباسيº فأظهرها في شعره وتفنن في شعر الزهديات؟

كما نجد معلما آخر وهو شعر المديح النبوي الذي اكتمل ونضج على يد البوصيري في بردته مما صار مرجعا فيما بعد لأشعار أصحاب الطرق الصوفية على اختلاف نحلهم وطرقهم، وآخر معلم نؤشر به للأدب الديني هو تلك الممارسات الطقسية التي يقوم بها الشيعة في ذكرى كربلاء ومقتل الحسين - عليه السلام -، وما يصاحب ذلك من مظاهر درامية تتم عبر ثلاث مراحل التي تبدأ بطقس العزاء الذي يبدأ من الشارع وينتهي في المسجد، وكذلك مظهر السلاسل وضرب الصدور وجرح الأجساد إلى أن يصل بهم الحماس الديني إلى الذروة مما يصيب بعضهم بعاهات مستديمة أو يؤدي بهم إلى الوفاة؟

وإذا علمنا أن هذه النشاطات تسللت إلى كافة المجتمعات الإسلامية ولكن في مرحلة متأخرة من تاريخهم في فترة التمزق والتشرذم السياسي والفساد الاجتماعي، نفهم لماذا ارتبط هذا الأدب بموضوعات محددة وإن كانت لغة هذا الأدب وظفت الرمز لغة خاصة به، لغة تنطلق من الواقع لتتجاوزه من خلال تجاوز الروح للجسد الفاني لتنعتق من أسر الطين وتنطلق إلى عالم الملكوت الأعلى حيث تتوحد بالذات الإلهية وتشاهد الحضرة القدسية، وعليه نسجل النتائج الأولية:

1- الأدب الديني ليس خاصا بالحضارة الإسلامية فقط بل هو أساسا أدب يرجع بأصوله إلى مظاهر التعبد الإغريقي، وأيضا للكنيسة المسيحية.

2- الأدب الديني يظهر في أي مجتمع لما يكون يمر بمرحلة التمزق والضياع والفقر الروحي، بمعنى عندما تكون دالة الحضارة في أي مجتمع يتجه سهم تقدمها نحو مرحلة الغريزة.

3- الأدب الديني هو حشد لطاقة المجتمع الحيوية وكبحها عن الاندفاع بفعل آلية الارتكاس التي يمارسها أصحابه بغية تحقيق فلسفة التجاوز الروحي لعالم المادة والواقع.

4- الأدب الديني نشأ بفعل الرؤية الإثنية الضدية وفق قاعدة (الديني) و(الدنيوي).

5- الأدب الديني في الثقافة الإسلامية ليس أدبا إسلاميا بالمعنى الحرفي وليس أدبا صوفيا فقط، كما يتم تحديده وفق المنظور الاستشراقي لحضارات الشرق.

6- المثاقفة داخل حقل الأدب الديني تمت من خلال المجالات الإغريقية والمسيحية، ومن خلال المجال الفارسي والإسلامي، وهذا يضعنا أمام عالمين منفصلين من حيث المحتوى الديني للأدب الديني.

7- هل الأدب الديني هو بداية فعلية لنقد الكتاب المقدس عند الغرب، وذلك من خلل تما هي النص الديني بسبب طغيان النص الدنيوي عليه، إذ لم يبقى من النص الديني سوى المعنى الأخلاقي وليس المعنى الوعظي والإرشادي.

8- ألا يعتبر نص الأدب الديني بمختلف مرجعياته الحضارية أول نص عرف التجريب والحداثة سواء على مستوى الشكل أم على مستوى المضمون الأدبي، إذ نجد لغته استعملت الرمز ونظام الأيقونة.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply