إسلامية الأدب .. لماذا وكيف ؟ ( 2 )


 

بسم الله الرحمن الرحيم

الشبهة الثانية:

يدعي بعضهم أن الأدب الإسلامي يحول بين الأديب وبين الإبداع الفني الذي يحقق المتعة للقارئ فهو أدب وعظ وإرشاد فقط، وأقول: إن الذين يطلقون هذه المقولة لا يبحثون عن الحقيقة بحثاً علمياً جاداً وإنما يتأثرون - غالباً - بما يشاع ويقال.

وأذكر أن دكتوراً وأديباً وشاعراً من بلد عربي قال لي ذات يوم: إن نجيب الكيلاني يفتقر في قصصه ورواياته إلى الإبداع الفني، إنه كاتب سردي فقط وبعد نقاش بيني وبينه تبين لي أنه لم يقرأ لنجيب الكيلاني شيئاً، وإنما قرأ عنه بعض ما كتب نقاد غير منصفين ممن يختلفون مع الكيلاني في المنهج، واتفقنا أن يقرأ ذلك الدكتور رواية (عمالقة الشمال) للكيلاني، وقرأها ثم قرأ رواية (عذراء جاكرتا) للكاتب نفسه فتغير حكمه على نجيب الكيلاني من النقيض إلى النقيض..

هذه قصة حدثت أحببت أن أقدمها في بداية الرد على هذه الشبهة.

 وأعود إلى صلب الموضوع فأقول: الأدب الإسلامي راعى في التعريف الموضوع له جانب الإبداع الفني، فقد مر معنا في تعريفه أنه (التعبير الفني الهادف) فكلمة الفني شرط في الأدب، إذ أن من أهم الفوارق بين النص الأدبي وغيره (الإبداع الفني الذي يحقق المتعة)، وهذا الإبداع لا يخضع لشروط مقننة محددة، وإنما هنالك إطار عام متعارف عليه في مجال الأدب يتكون من سلامة اللغة، وحسن الأسلوب، وصدق التجربة الشعورية، وجمال التصوير، ثم إن للكاتب أو الشاعر بعد ذلك أن يتفنن في أدبه بما يحقق المتعة الفنية، طولاً وقصراً، رمزاً وإيحاء أو وضوحاً ومباشرة وهذا الجانب الفني ليس وقفاً على أحد بل هو مشاع بين الأدباء على اختلاف مشاربهم ولغاتهم، يبدع فيه من يبدع ويخفق فيه من يخفق،  وإذا تحقق في النص الأدبي ذلك الإطار العام للإبداع الفني فليس من حق أحد من النقاد أن يلغي هذا الجانب في نص ما بسبب اختلاف في المنهج والفكر.

  وعندما يعني الأدب الإسلامي بجانب الإبداع الفني فإنه لا ينطلق في ذلك من التقليد للآخرين، وإنما يعتمد على رؤية إسلامية أصيلة، عُني بها القرآن الكريم في أسلوبه المعجز.

كما عني بها أشد العناية الرسول - عليه الصلاة والسلام - أما القرآن الكريم فهو واضح لكل مسلم يقرؤه بتدبرٍ, ولا يهجر تلاوته وتدبره منشغلاً عنه انشغالاً كلياً أو جزئياً بنصوص الأدب وأحكام النقاد قديماً وحديثاً.

ولعل في كتاب (التصوير الفني في القرآن الكريم) لسيد قطب - رحمه الله - ما يغني ويشفي.

 أما عناية الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالجانب الفني فتؤكدها الروايات الصحيحة في هذا المجال.

ومن ذلك ما ورد في صحيح مسلم من أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - دعا الشعراء إلى المنافحة عن الإسلام، فأنشده عبد الله بن رواحة فلم يُرضِ وأنشد كعب بن مالك فلم يُرضِ، ثم بعث إلى حسان ودعا له وقال: إن روح القدس - يعني جبريل - عليه السلام - يؤيدك [1]، ونتساءل هنا، ما الذي جعل الرسول - عليه الصلاة والسلام - يختار حسان ويفضله على صاحبيه، مع ما نعلم من حبه - صلى الله عليه وسلم - لعبد الله بن رواحة وكعب بن مالك؟ إن الإجابة الشافية على هذا السؤال موجودة في كتب الأدب التي جعلت حسان بن ثابت فحلاً من فحول الشعراء، فهو من الشعراء البارزين في سوق عكاظ، وقصصه في التنافس مع فحول الشعراء معروفة، وقد ذكر ابن سلام الجمحي في طبقات فحول الشعراء أن حسان يعد أشعر أهل القرى يعني بذلك مكة والمدينة والطائف، وشعر حسان دليل على قدرته الفنية.

 إذن فاختيار الرسول - صلى الله عليه وسلم - لحسان بن ثابت لم يكن اختياراً عشوائياً وإنما كان مبنياً على رؤية نقدية واضحة، كيف لا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو الخبير بمواطن القوة والضغف في اللغة العربية أليس هو الذي قدّم حسان عندما جاء إليه وفد تميم، وكان حسان حينها غائباً فانتظره حتى جاء فألقى قصيدته المعروفة: إن الذوائب من فهر وإخوتهم قد بيّنوا سنَّةً للناس تتَّبع حتى قال وفد تميم: إن هذا الرجل المؤتى له، لخطيبه أبلغ من خطيبنا وشاعره أشعر من شاعرنا [2]، ومما يؤكد عناية الإسلام بالجانب الفني في الأدب ما رواه جلال الدين السيوطي في كتابه (الدر المنثور) حيث ذكر أن الصحابة قالوا لعلي -رضي الله عنه-: أهج شعراء المشركين، فقال لهم: استأذنوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاستأذنوه فقال لهم - عليه الصلاة والسلام -: ليس بذاك، ابعثوا إلى حسان.

لماذا حسان؟ ؟ لأنه شاعر فحل قادر على تصريف الكلام وصياغته بأسلوب فني رفيع.

ليس هناك تفسير غير هذا، ولو لم يكن مقياس الاختيار فنياً، لما اختار الرسول - عليه الصلاة والسلام - حسان وفضله هنا على عليّ، فإن ابن عمه أحب إليه وأقرب من حسان، ولكنها الإجادة في الشعر قدمت حسان بن ثابت هنا.

إذن فالإبداع الفني شرط رئيس لا يمكن التنازل عنه من قبل الأديب المسلم، وهذا الإبداع متوفر في الأدب الإسلامي قديمة وحديثة وإنما تجاهله من تجاهل، وعمي عنه من عمي، خاصة بعد أن استحكمت (الشللية) في ساحة الأدب فأصبح التصنيف مبنياً على آراء شخصية، نصيب العدل والإنصاف فيها قليل.

 

 أما قضية الوعظ والإرشاد فهي من القضايا التي يظلمها كثير من النقاد المعاصرين، فهي ليست عيباً فنياً في ذاتها، وإنما تكون عيباً حينما يقف عندها الأديب فلا يتجاوزها، أو عندما يقدمها إلى الناس خالية من التصوير الفني، والأدب الإسلامي ينظر إلى النصوص الأدبية التي تحمل وعظاً وإرشاداً بمنظار فني دقيق، فإذا توافر فيها الإبداع الفني صياغة، وخيالاً وصدقاً في التجربة فهي أدب جميل، وإن كانت وعظاً، وإذا لم يتوافر لها ذلك الإبداع فهي غير مقبولة فنياً.

 ومما ابتلي به الناس في ظل الآراء النقدية المذبذبة بين المقاييس الغربية والعربية، أنهم إذا سمعوا حكماً نقدياً تعلقوا به دون تدقيق وتمحيص.

وإلا فإن من الأدب الوعظي ما هو في قمة الإبداع الفني، وما شعر أبي العتاهية عنا ببعيد، وفرق كبير بين شاعر يتحدث عن الموت حديثاً جامداً جافاً، وبين آخر يصور لنا وقع الموت على نفسه تصويراً يدفعنا إلى التفاعل معه والتأثر به.

 إن الذي دفع بعض نقاد هذا الزمان إلى مواجهة فكرة الأدب الإسلامي بالرفض هو تأثرهم بالآراء النقدية الغربية والانشغال بها كلياً عن حقيقة الأدب الإسلامي، فيكون استقراؤهم للنصوص ناقصاً.

ومن ثم تكون أحكامهم النقدية غير سليمة، لأنه يريدون أن يكون شاعر أو روائي إسلامي نسخة مكررة من شاعر أو روائي غربي، وهذا أمر مخالف لطبيعة البشر.

 إني أرى في حكم عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- على شعر زهير بن أبي سلمى رؤية نقدية جديرة بالاهتمام، وهي مرتبطة بالجانب الفني حيث وصفه بقوله: كان لا يعاظل في كلامه ولا يأتي بوحشي اللفظ ولا يمدح أحداً إلا بما فيه.

 

ففي هذه المقولة إشارات نقدية فنية.

 فكلمة (عاظل) في مدلولها اللغوي تعني الاضطراب وعدم التنسيق فهي في القاموس تعني تراكم الأشياء فوق بعضها دون ترتيب، فأنت تقول: عظل الجراد، أي ركب بعضه بعضاً، وعاظل فلانٌ في كلامه، أي: عقّده ووالى بعضه فوق بعض وكرَّره، وتقول: عاظل الشاعر في القافية: أي علَّق قافية البيت بما بعده على وجه لا يستقلٌّ بالإفادة، وتقول عاظل في الكلام: أي أتى بالرجيع من القول.

فمعنى المعاظلة هنا إخلال بفنية القول، وذلك ما لا يقع فيه الأديب المبدع أو الشاعر المجيد، فهنا مراعاة واضحة للجانب الفني من قبل عمر بن الخطاب - رضي الله عنه-، ومثل ذلك قوله: ولا يأتي بوحشي اللفظ.

إنها عبارة دقيقة تدخل في صلب الإبداع الأدبي، ثم يشير عمر بن الخطاب إلى قضية أدبية مهمة تحدّث وما يزال يتحدّث عنها النقاد كثيراً، ويعدونها شرطاً من شروط الإبداع في النص الأدبي ألا وهي (صدق التجربة الشعورية) فكلمة (لا يمدح أحداً إلا بما فيه ) توحي بهذا الجانب الفني المهم [3].

 

 ومن هنا كانت قضية (الإبداع الفني) أصيلة في الأدب الإسلامي إنها تنبع من الرؤية الإسلامية الناضجة للأدب بصفة عامة، وليس قضية عابرة، ولا أمراً وافد علينا، والأدب الإسلامي يرى أن الإبداع الفني ينبثق من التراث الإسلامي أصلاً، ثم يفيد من التجارب الحديثة، أي أنه يُبنى على قاعدة أصيلة، فهو ليس قفزاً في الهواء.

 وأقول: أن شبهة إهمال الأدب الإسلامي للإبداع الفني باطلة، وإنما روج لها أدونيس وأمثاله الذين لا ينظرون إلى الماضي ولا يرتبطون بتراثهم إلا بما يخدم وجهة نظرهم المحددة القائمة على التساؤل الرافض لكل شيء يمت إلى أصالة الأمة الإسلامية القائمة على الدين بصلة، وبهذا يقولون بوجوب تبني المشروع الحداثي الذي يعني أن نتساءل عن الدين والشعر ما هما، أي دين وأي شعر؟ ؟ [4]، [*]  أما الأدب الإسلامي فهو يعرف الدين تماماً، ويعرف الشعر والأدب.

ولهذا فهو يشكل نقطة الضوء التي يمكن أن يستدل بها الجيل في سراديب الأدب المعاصر المظلمة.

 

(1) انظر صحيح مسلم، باب فضائل حسان بن ثابث -رضي الله عنه-.

(2) انظر الجزء الرابع من سيرة ابن كثير، ص 82 وما بعدها.

(3) انظر لمعرفة الخبر بتمامه، كتاب جمهرة أشعار العرب لأبي زيد القرشي، 1/188.

(4) راجع صدمة الحداثة لأدونيس ص 258 وما بعدها.

(*) ونحن نقول: بل إن أدونيس هذا وأمثاله ينظرون إلى الماضي وينظرون إلى الدين ولا ينكرون تأثيره ولكن أي دين؟ دين القرامطة ودين الحلاج وغيره من المارقين - البيان -.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply