لدينا في حياتنا الثَّقافية مقولات شائعة مثقلة بالإحباط وإن كان ظاهرها التَّبجيل والثَّناء. من هذه المقولات مقولة فلان من شعراء السَّبعينيات، أو الثَّمانينيات الميلادية. وظاهر هذه العبارة أن الشَّاعر الفلاني أثبت نفسه في جيله وأصبح ممن يُشار إليه بالبنان بينهم، فإذا ما عُدّ الشعراء في ذلك الجيل عُدَّ منهم، وهذه ميزة يُفرح بها. ولكن التَّبعات السيئة لهذه العبارة كثيرة، منها ربط إبداع المبدع بمفهوم التَّاريخ أو الزمن الماضي فلا حماس لما سيأتي به فهو معروف الموقع عند النٌّقاد الذين يتشوقون لغيره من المبدعين الجدد الذين سيصبحون عمَّا قريب في ذمة التاريخ مثله حسب هذا التَّصنيف العجيب. كأن لسان حال من يصنِّف المبدعين على هذا النَّحو يقول: لو كان في عمل هذه المبدع ابداع لبرز في زمنه في الثمانينيات أمَّا وقد تجاوز مرحلته فما عساه أن يقدِّم للنِّاس اليوم. وهذا جهلٌ بطبيعة الإبداع وواقعه ومحركاته وشؤونه وشجونه، وجهل بقدرات الإنسان وثَّقافته. وترى المبدع أصبح رهن هذا التَّصنيف الضَّيق الصَّارم، فهو بدلاً من أن ينطلق في ميادين الإبداع أصبح يُقارن نفسه بفئة قليلة جدًا قد لا تمثِّل في واقعها واقع الإبداع في حياة الأمَّة. وعوار مثل هذه المقولة ظاهر، أما ترى الشَّاعر الجاهلي ابن أبي سلمى يقول:
سئمتُ تكاليف الحياة ومن يعش *** ثمانين حولاً لا أبالك يسأم
والشَّاعر الجواهري المعاصر يقول:
مرَّت ثمانونٌ وأربعةٌ *** وتحجَّر النَّبع الذي انبجسا
فهذان شاعران عبرا الثمانين وهما يبدعان بل ويتوهج ابداعهما، ومثلهما جموع غفيرة من المبدعين على مرِّ العصور والأزمنة إلى يومنا هذا. أفهل يجرؤ أحدٌ أن يقول أنَّ زهيرًا كان من شعراء التِّسعينيات قبل البعثة، أو يقول أنَّ الجواهري كان من شعراء الثَّلاثينيات في القرن الماضي حتى لو أنَّه بدأ تجربته في الثلاثينيات مثلاً. إن عطاء هذين الشَّاعرين، وفكر من يتلقاه ممن يفهم معنى الإبداع لن يسمحا بمثل هذا التحجيم القاسي حتى لو لم يُقصد به الإساءة.
والحقيقة أنَّ سعد البواردي بإنتاجه الثَّر يُعد أحد النَّماذج الكثيرة التي تحطِّم مثل هذه المقولة الجامدة، وتجعل أصحابها في حيرة من تصنيفهم. فهو يعطي بدون توقٌّف، تجده في الشعر، وتلقاه في النَّثر يزيد عطاؤه مع الزَّمن ويتطلَّع إلى التأثير في الحركة الثقافية في بلاده، وما جاورها من بلدان. فيده والقلم متلازمان وهذا التَّلازم بحد ذاته سعيٌ نحو الإبداع الذي يتأتى للمرء بدوام المثابرة، وصدق النَّوايا، بإرادة الله. ولقد قرأت له قصيدة ألقاها في نادي جيزان الأدبي من أبياتها:
بغداد هل تستطيعي الصَّبر بغدان *** وفي الجوارح تجريحٌ ونيران
أراك بغـداد في عينيَّ فجر غـدٍ, *** يزهو على صبحه أمنٌ وبنيان
بغـداد أنت لنا مثل الرِّياض لنا *** أهلٌ وسـهلٌ وتاريخٌ وإخوان
فذكرتني بقصيدة كتبتها في ولاية أوهايو الأمريكية في أواخر الثمانينيات الميلادية من القرن المنصرم من أبياتها:
هل يا ترى الجنّ في شرقي لهم هدفٌ *** أم يا ترى اندثر الإنسان والجان
لا ينهض الشَّـرق إلاَّ بعـد مهلكـةٍ, *** يجثو على سورها بومٌ وغربان
فقال من قال آنذاك: دع التَّشاؤم فالدٌّنيا بخير، قلت: هذا ما أراه وليس من التَّشاؤم في شيء، ومن لم ير أُمَّة التَّقنية على حقيقتها فهو أعمى. واليوم ليست مهلكة واحدة، بل هي مهالك متتالية يرقِّق بعضها بعضا حتى لقد اختنقت البوم والغربان على أسوارها فلم تستطع أن تعبِّر عن فرحتها.
وسعد البواردي همٌّه من همِّ أمته، وكتبه وكلماته تقول أنَّه رجلٌ متواضع يسعى نحو الفلاح، ويُسعده نمو حياة النَّاس من حوله فهاهو يكتب عن تجربة من يختاره من الشعراء المبدعين ويدوِّن عطاءهم فيما سمَّاه \"استراحة داخل صومعة الفكر\"، فالكلمة عنده فكر تقود الفكر وبه تُقاد وليست مجرَّد أحاسيس وعواطف لا يُعوَّل عليها.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد