القصة القصيرة جدا .. قراءة في التشكيل والرؤية ( 1- 2 )


 

بسم الله الرحمن الرحيم

القسم الأول(1)

يقول الأديب والعالم الفيزيائي الدكتور أحمد زكي «ليس ألذ في أحاديث الناس من قصة، وليس أمتع فيما يقرأ الناس من قصة، والعقول قد تخمد من تعب، ويكاد يغلبها النوم، حتى إذا قلت قصة ذهب النوم، واستيقظت العقول، وأرهفت الآذان... » (2).

 

وإذا كان «فن القصة القصيرة» ـ كما يرى جابر عصفور ـ فنا صعباً «لا يبرع فيه سوى الأكفاء من الكتاب القادرين علي اقتناص اللحظات العابرة قبل انزلاقها علي أسطح الذاكرة، وتثبيتها للتأمل الذي يكشف عن كثافتها الشاعرية بقدر ما يكشف عن دلالاتها المشعة في أكثر من اتجاه» (3).

 

إذا كانت القصة القصيرة كذلك، فإن فن القصة القصيرة جداً أكثر صعوبةº لأنه مطلوب من القاص أن يُحقق ذلك في أقل عدد من الكلمات. وهو فن ظهر في السنوات الأخيرة، ينتمي إلى الفنون السردية، ويُحاول مبدعه من خلاله أن يقدم نصا سرديا مكتنزاً في عدد قليل من الكلمات لا يتجاوز مائة كلمة في غالبية الأحوال.

 

وهذا الفن ليس جنساً أدبيا جديدا مستقلا عن القصة والقصة القصيرة اللتين عرفهما الأدب.. كما أنه ليس تحديثاً لفن المقامات أو ألف ليلة وليلة بطريقة «حداثوية ومعصرنة جدا»(4)، كما يشير أحد الكتاب.

 

إننا نراه تطويراً لفن الخبر في تراثنا، وبخاصة تلك الأخبار التي كانت تجمع بين السخرية والمُفارقة، ومنها هذه الأخبار الأربعة التي وردت في كتاب «المستطرف في كل فن مستظرف» للأبشيهي:

 

وقد وضعنا للخبر الأول عنوان [أحمقان، وثالثهما]، وهذا نصه:

 

حُكي أن أحمقينِ اصطحبا في طريق، فقال أحدهما للآخر: تعالَ نتمنَّ على الله، فإنَّ الطريقَ تُقطعُ بالحديث.

 

فقال أحدُهما: أنا أتمنّى قطائع غنم أنتفعُ بلبنِها ولحمها وصوفِها.

 

وقال الآخر: أنا أتمنّى قطائعَ ذئابٍ, أرسلُها على غَنمِكَ حتى لا تتركَ منها شيئاً.

 

قال: ويحكَ! أهذا من حقِّ الصحبةِ وحُرمة العشرةِ؟!.

 

فتصايَحا، وتَخَاصَما، واشتدّت الخصومةُ بينهما حتى تماسكا بالأطواق، ثمَّ تراضَيَا أنَّ أولَ من يطلعُ عليهما يكونُ حكَماً بينهما، فطلع عليهما شيخٌ بحمارٍ, عليهِ زقَّانِ من عسل، فحدّثاه بحديثِهما، فنزل بالزّقّين وفتحهما حتى سال العسل على التراب، وقال:

 

صَبَّ اللهُ دمي مثلَ هذا العسلِ إن لم تكونا أحمقين! » (5).

 

وأما الخبر الثاني فقد وضعنا له عنوان [مجنون بني عجل]، وهذا نصه:

حُكِي أن الحجاج خرج يوما متنزها، فلما فرغ من نزهته صرف عنه أصحابه وانفرد بنفسه، فإذا هو بشيخ من بني عجل، فقال له: من أين أيها الشيخ؟ قال: من هذه القرية. قال: كيف ترون عمالكم؟ قال: شر عمالº يظلمون الناس، ويستحلون أموالهم. قال: فكيف قولك في الحجاج؟ قال: ذاك، ما ولى العراق شر منه، قبحه الله، وقبح من استعمله! قال: أتعرف من أنا؟ قال: لا. قال: أنا الحجاج! قال: جُعلت فداك! أو تعرف من أنا؟ قال: لا. قال: فلان بن فلان، مجنون بني عجل، أصرع في كل يوم مرتين. قال: فضحك الحجاج منه، وأمر له بصِلة»(6).

 

وأما الخبر الثالث فقد وضعنا له عنوان [فجعله عذابي!]، وهذا نصه:

قال الأصمعي: رأيتُ بدويّةً من أحسنِ الناسِ وجهاً، ولها زوجٌ قبيح، فقلتُ: يا هذه! أترضينَ أن تكوني تحتَ هذا؟ فقالت: يا هذا! لعلَّهُ أحسنَ إلى اللهِ فيما بينه وبينَ ربِّه، فجعلني ثوَابَه، وأسأتُ فيما بيني وبين ربِّي فجعله عذابي، أفلا أرضى يما رضي اللهُ به؟ »(7).

 

والخبر الرابع وقد وضعنا له عنوان «مثل هذا! » يقول:

«قال الجاحظ: ما أخجلتني إلاَ امرأة مرت بي إلى صائغ، فقالت له: اعمل مثلَ هذا، فبقيتُ مبهوتاً، ثم سألتُ الصَّائغَ، فقالَ: أرادت هذه المرأةُ أن أعملَ صورةَ شيطان، فقلتُ: لا أدري كيفَ أُصوِّرُهُ، فأتَت بكَ إليَّ لأصوِّرَهُ على صورتكَ».

 

***

والقصة القصيرة جدا مع اعتمادها على عناصر القص من شخصيات وأحداث وزمان ومكان وحبكة ونهاية نراها تمتاز بقدرتها على التكثيف الدلالي، وإثارة التأويلات المختلفة، وعنصر المفارقة فيها يُحكٍ,م استراتيجية النص التي يبغي الكاتب أن يُبرزها بوعي، وتستطيع فاعلية القراءة لاحقاً أن تُشارك الكاتب في تفعيل النص وإثراء دلالاته، اعتماداً على تقاطع المقروء مع مخزون الذاكرة، وما يُثيره من غنى دلالي، في ضوء النص / الزمان / المكان / القارئ.

 

وقد ظهر هذا الفن بعد سقوط الإيديولوجيات الكبرى، ليعبر عن الإنسان العادي (الذي كان يعبر عنه الخبر في التراث)، ويؤكد على القيم الإنسانية التي تنطوي عليها الكتابة الصادقة، التي تتشوق للعدل والحرية، وتنحاز إلي المظلومين والهامشيين، وتحاول أن تغمس مدادها في جراح مجتمعها لتكشف عن الأدواء السياسية والاجتماعية التي تستشري، وتصور الهامشيين الذين آن لهم أن ينتصفوا في شعرية شفيفة، أو سخرية مُخادعة تستطيع أن تنجو بهما دائماً من القمع والمصادرة.

 

وليست القضية ـ كما ينبغي أن تكون ـ قضية تغيير حجم النص المقروء فحسب من الحجم الكبير إلى حجم أقل في القص «فالرغبة الملحة في التغيير لا بد أن يكون وراءها دوافع جوهرية نابعة من متغيرات الحياة التي نعيشها»(9).

 

ولا تؤدي النماذج المتفوقة من القصص القصيرة جدا ما تريده علي نحو مباشر، وإنما تشف عنها بأدوات سردية مقتدرة، وبراعة تؤكدها الخبرة والممارسة. ولذلك فكتاب القصة القصيرة جدا الناجحون في الساحة هم من تمرسوا سابقاً على كتابة القصة الموباسانية أو القصة الجديدة، وأكثرهم سوءاً هم من دخلوا هذا الفن بلا تجربة سابقة في التعامل مع فنون السرد.

 

يقول أحد المبدعين المجيدين هذا اللون، وهو عدنان كنفاني:

«وفي سبيل الوصول إلى ذلك لا بد أن نقرر أن الصعوبة تكون مضاعفة، فالكاتب المبدع عليه أن يحمّل نصّه كل تلك الشروط.. \"الفكرة، والحدث من خلال التقاط لحظة الومضة، والشخوص، والمكان، والزمان، والعقدة الدرامية، ثم تصاعدها للوصول بها إلى الحلّ.. ويقدح شرارة المفاجأة والإبهار والدهشة في مخيّلة المتلقّي، إضافة إلى الجمل الوصفية، والكلمات الرشيقة، واختيار المواضيع التي تهمّ المتلقّي…الخ ما هنالك من شروط إضافية محببة ومشوِّقة\" كل ذلك في جمل قليلة، ومضغوطة لا تسمح باستئصال كلمة واحدة، وإلا تفكك النص..

 

هي قصّة قصيرة إذن، تنطبق على فنيّتها ذات الشروط التي تنطبق على أيّ قصة قصيرة عاديّة أخرى، وما جاءت كلمة \"جدّاً\" إلا زيادة في التعريف، وهذا ليس أمراً جديداً مبتدعاً، وليست ولادة لمسخ يدخل على الأدب، كما أنها ليس نتاج عولمة، ولا خصخصة، ولا مستوردة من أسواق الجات أو غيرها، كما جنح البعض في الاتهام.. »(10).

 

إن فن القصة القصيرة جدا يتطلب من كاتبه الصدق في الطرح، مع العمق حتى يغني نصه بإشراقات تضع الضوء على دلالات النص مباشرة، وترينا ما غرسه في الميدان الأدبي من رايات تخفق بقيم الحق والخير والجمال، ومن خلال إشاراته إلى الحرية والدعوة للتضامن مع هم الإنسان و صراعه مع قيود زمنه، وتصوير إحباطاته المتنوعة وهمومه الكثيرة، وأفراحه الصغيرة، من خلال نصوص ينبغي أن تزهو بفنيتها وقدرتها على التعبير السردي المكتمل الموجز.

 

إن أهمية القصة القصيرة جدا تكمن في أن نصوصها الجيدة تكشف عن تعدّد حقولها الدلالية، وتُساعد القارئ على إعادة إنتاج الرمز الذي ينهض به وعليه، أي فيما يتصل بحال الرسالة التي يُريد المبدع إيصالها إلى المتلقي (أو المتلقين) سواء أكانوا أفراداً، أم مجتمعات، ويُغني النص ـ في حالته هذه ـ عن نصوص سردية طويلة، وإن كان بالطبع لا يمثل إشباعاً فنيا كالقصة الطويلة أو الرواية، إنما حسبه أن يُمتعنا فنيا وجماليا ـ في لحظات ـ بالإضافة إلى المستوى المعرفي اليسير.

 

فقد يبتعد الإنسان قليلاً أو كثيراً عن النص السردي الطويل فهما لمراميه أو تذوقاً لجمالياتهº لأنه يحتاج إلى ساعات طوال، قد لا يكون تركيزه أثناء القراءة على الدرجة نفسها من الانتباه والتيقظ من بداية النص إلى منتهاه، لكن قصر نص القصة القصيرة جدا، الذي يجعل القارئ يطالعه في دقيقة واحدة ـ أو بضع دقائق ـ إذا أعاد تأملها أو قراءتها، يُتيح لـه التعايش مع النص، وتذوقه تذوقاً أقرب إلى الاكتمال.

 

يقول غسان كنفاني:

«لنتفق أولاً [على] أن مصطلح القصة القصيرة جداً وما يندرج تحت هذا العنوان لا يعني أن \"من طرحوه\" يبتدعون لوناً أو منهجاً أو جنساًً أدبياً جديداً. ولو عدنا إلى كثير من النصوص القديمة بدءاً مما جاء في (القرآن الكريم)، وكتب السلف، ومواقف الظرفاء، والشعراء، وأصحاب الحاجات في بلاطات الأمراء، وما تمخّض عنها من حكايات لم تكن تتجاوز الجمل القليلة، ولعل كتاب \"المستطرف في كل فن مستظرف\" لمؤلّفه الأبشيهي خير مثال.. وكذلك بعض النصوص التي جاءت في كتب الخلف وأكثرهم من الكتّاب الكبار محلياً وعالمياً، لوجدنا عشرات من النصوص أمثلة تصلح لتكون قصصاً قصيرة جداً، سمعناها أو قرأناها، وقبلناها، لأنها ببساطة حملت إلينا متعة القصّة مستوفية الشروط الفنيّة، ووصلتنا سهلة... دون أن يفرضها علينا أحد تحت عنوان \"قصّة قصيرة جدّاً\" وكأنه مصطلح يوحي بابتداع جنس أدبيّ جديد.. ولعل الكلمة الوحيدة المبتدعة، والتي أثارت جدلاً بدأ ولم ينته هي كلمة \"جداً\"(11).

 

وبعيداً عن التنظير للقصة القصيرة جدا، حيث يرفضها البعض، بينما بعض النقاد يميل إلى «هذا النوع الأدبي القادر على حمل الهموم المختلفة اجتماعيةً ووطنية وقومية وإنسانية»(12)، سنحاول أن نحدد بعض سمات هذا الفن المراوغ، موضوعيا وفنيا:

 

ــــــــــــ

الهوامش:

(1) ورقة ألقيت في قسم الأدب بكلية اللغة العربية بالرياض، في يوم السبت 26/4/2003م، وقد زيدت فيها بعض الفقرات قبل نشرها هنا.

(2) د. أحمد زكي: في السماء، كتاب الهلال (العدد 603)، مارس 2001م، ص5.

(3) د. جابر عصفور: \"أوتار الماء\" عمل يستحق التقدير، الأهرام ـ العدد 42470، في 17/3/2003م.

(4) نزيه الشوفي: نظرة ما... القصة القصيرة جدا... والتنظير الفاقع جداً، دمشق الأسبوعي، ثقافة الثلاثاء 4 أيلول 2001م.

(5) الأبشيهي(شهاب الدين محمد بن أحمد): المستطرف في كل فن مستظرف، تحقيق: د. مفيد محمد قميحة، دار الكتب العلمية، بيروت 1986م، 1/40، 41.

(6) السابق، 1/135.

(7) السابق، 2/57.

(8) السابق، 2/57.

(9) د. نبيلة إبراهيم: مستويات لعبة اللغة في القص الروائي، مجلة «إبداع»، س 2، ع 5، مايو 1984م، ص7.

(10) عدنان كنفاني: القصّة القصيرة \"جدّاً\" إشكالية في النصّ، أم جدليّة حول المصطلح. !، موقع «عدنان كنفاني» على الإنترنت.

(11) السابق.

(12) د. يوسف حطيني: القصة القصيرة جدا عند زكريا تامر، الأسبوع الأدبي، العدد (778)، في 6/10/2001م، (من موقع المجلة على الإنترنت).

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply