حين يلبس الشاعر هموم أمته ويشرع في كتابة واقعها الممزوج بالعرق والدم والمعاناة، فإنه لا شك سيثير الكثيرين وستنعته آلة المستكبرين الإعلامية بكل النعوت التي يرونها شائنة، ويراها الشاعر أوسمة شاهدة على أنه يسير في الطريق الذي يغيظ أعداء الأمة، غير مبال بما قد يعده أولئك من ترغيب وترهيب.
هكذا كان الشاعر الموريتاني، التقي ولد الشيخ الذي حمل لافتاته الشنقيطية مدافعاً عن هموم الشعب، رافضاً منطق الذل والتطبيع، غير آبه بمغريات الحياة التي طالما أسكتت غيره من الشعراء:
لو شئت نادمت أهل المال والأمرا
وكنت ممن لديهم يحضر السمرا
ولو أردت بمعسول الكلام غنى
ما فاتني أبداً أن أدرك الوطرا
لكنني أقتفي في مسلكي هدفاً
ومنهجاً سنه آباؤنا الكبرا
لا أمدح المرء إن أثرى على نشب
ولا أذم على عجز من افتقرا
بل اختار التقي ولد الشيخ أن يكون صوت من لا صوت لهم، وسند من لا سند لهم، رافضاً أن يكون من أبواق السلاطين، بل وقف في زمن الانكسار يحمل هموم أمته، محرضاً بشعره على المقاومة:
وقفت في زمن التطبيع أحمله
هماً وتحمل أشعاري به ضجرا
إن لم يكن حجراً فإن به
ما يجعل الناس طراً تحمل الحجرا
كان يدرك أن عاقبة عناده ورفضه للخنوع والمذلة قد تكون وخيمة بحساب دنيوي قاصر، وأن السجن والتحقيق من طرف أمن النظام بعد التهديد والمضايقة هو مصير كل الأحرار في بلاد شنقيط، بعد أن سرقها الأغراب من أهلها وقدموها بلا ثمن للغرب والصهاينة، لكنه أصر على المواجهة وتحمل العواقب:
قال لي المحقق
في رقة يا أحمق
لأي حزب تنتمي
ومع من تنسق؟
ما لليهود مال..
أعلام اليهود تحرق
ماذا جنوا لقد بنوا..
بلادنا وشققوا؟
قلت: الخنا قال اتئد..
لا يبتلعك النفق
إن كان لا يروقكم..
وجودهم فانطلقوا
إن البقاء هاهنا..
لمن بلا لا ينطق
لكن هيهات، فالشاعر ولد على هذه الأرض، وحفظ مجد الآباء، وقرر المواصلة بشرف لبناء بلده بيده لا بيد أعدائه، ولو تطلب ذلك بذل النفس فداء للوطن والدين.
إلى السماء اجعل جما
جمنا المهيضة سلما
لكن حذار بشهبها
يا سيدي أن تُرجما
وقد امتاز الشاعر التقي ولد الشيخ بأسلوب جميل رقيق، ودقة في التعبير، وسهولة في الألفاظ تقتضيها المرحلة، لأن الرهان كل الرهان، كان الشعب الرافض لكل مظهر من مظاهر الظلم والحيف والتطبيع.
وكان الشاعر يسعى دائماً لحشد المزيد من الأنصار في صفوفه لمواجهة النظام، فاضحاً سياساته الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي دمرت البلاد والعباد:
إن الذي في بطنه
رمي مناجم الحديد
وصاح في شراهة
ونهم: هل من مزيد؟
والتقم الحوت ولم
يعبأ بشعبه الشريد
وصاح في شراهة
ونهم هل من مزيد
هو الذي يا سادتي
سيشرب النفط الجديد
ثم يصيح قائلاً
في نهم: هل من مزيد؟
صرخة وطن:
وحين سلم النظام الموريتاني المهندس محمد ولد صلاحي للولايات المتحدة الأمريكية بعد اشتباهها في ضلوعه في أحداث الحادي عشر من سبتمبر، سكت الجميع، رغم الشعور بالإهانة بعد تسليم المواطن للولايات المتحدة دون دليل، لكن التقي ولد الشيخ رفض السكوت، وطار بين الجموع مردداً فوق كل المنابر:
واضعية الوطن المغلوب إن كانا
يهدي بنيه لأهل الشرك قربانا
ويا تفاهة أهل الدين إن وُزنوا
بأخسر الناس عند الله ميزانا
قد سلموه لأمريكا على طبق
وأحكموا الصمت تطويقاً لشكوانا
حتى إذا كان ما قد كان واتضحت
مشاهد الفلم قالوا: كان ما كانا
أنتم أقل لدينا رهبة وندى
والغرب أكثر ترهيباً وإحسانا
الصرخة التي أطلقها الشاعر التقي ولد الشيخ، جاءت بعد نضال طويل من أجل الحرية والاستقلال، بذل فيه الشعب أعز ما يملك لتباع تلك التضحيات الجسام وذاك الكفاح المرير من طرف تجار الشعب وباعة الضمائر في سوق النخاسة الغربي، تاركين للأحرار الألم والأرق وطول التفكير.
أرقت القلب يا وطني مدادا
وسامرت النجوم بك اعتدادا
أردت لك الرفاه وكل خير
وصيتاً يملأ الدنيا امتدادا
وأرقني بُعيدك أن قومي
وقومك فيه قد لبسوا السوادا
على وطن وآلام جسام
على مر العقود غدت رمادا
ولو رد البكاء إلى بلاد
مهابتها لبكوا بلادا
إلى صف الخنا بين النصارى
وأنجاس اليهود أتت تهادى
ولعل هذا هو بيت القصيد. فبعد أربعين سنة من الاستقلال عن فرنسا إذا أعلام الصهاينة ترفرف في سماء العاصمة نواكشوط، منغصة على الناس فرحتهم بالعيد، وشعورهم بالغبطة والسرور. أعلام شاهدة على أن كرامة الشعب قد ديست، وأن المبادئ قد بيعت، وأننا قد خذلنا إخوتنا في فلسطين بعلاقة مشبوهة لا ترجى من ورائها أي فائدة، إنه الاستلاب الذي حول البهجة إلى حزن، وغير ملامح الطبيعة بعد أن نُهبت خيرات البلاد:
وقد سلبت هويتها وضاقت
مواردها انتماءً واقتصادا
وما عاد النخيل بها نخيلاً
وما عاد القتاد بها قتادا
وقد ساد الفساد فمن لشعب
مع الأيام قد ألف الرقادا؟
آلام الأمة:
ولم يكن التقي ولد الشيخ صاحب نظرة ضيقة ولا وطنية زائفة ولا قومية مقيتة، بل كان يعيش آلام الأمة من فلسطين إلى أفغانستان، كما عاش آلام الشعب الموريتاني.
فحين انعقدت القمة العربية في بيروت بعد اجتياح جنين، ودعا القادة العرب إلى السلام مع الكيان الصهيوني، رأى التقي ولد الشيخ أن الكرامة قد ديست وأنهم باعوا دم الشهداء فثارت ثائرته ووقف في الجموع منشداً:
سلام عليك أبا جندل
سلام على أمة الجندلة
سلام على كل مستبسل
وحيداً يقاوم لا جند له
وأف على من إذا ما بدا
له ظله خف للهرولة
وولى يراش على أمنه
عداة الرسول ومن أرسله
وحتى متى نُدعى إلى قمة
يصافح فيها الفتى قاتله
سئمنا الكلام سئمنا السلام
سئمنا اللجوء إلى الفرملة
سئمنا رجالاً بلا نخوة
كورد المكاتب لا عرف له
وحين حاولت السلطة الفلسطينية اعتقال الدكتور الشهيد عبدالعزيز الرنتيسي في قطاع غزة، وسقط بعض المتظاهرين بنيران الشرطة، انبرى التقي ولد الشيخ شاهراً قلمه للدفاع عن إخوانه الفلسطينيين وقود الانتفاضة ورموزها، ساخراً ممن رضوا لأنفسهم لعب دور الشرطي الصهيوني في الأراضي المحتلة.
تقول لي ما أخدعك
قلبي معك قلبي معك
وكلما دعاك من
أوجعني وأوجعك
لخطة تنسفنا
نسفاً رفعت أصبعك
قلبك لو كان معي
أو كان قلبك معك
لما وضعت ضحوة
في النحر مني مدفعك
أزمة القيادة:
وقد ظلت أزمة القيادة في العالم العربي ظلت شغله الشاغل، ويرى أن الأزمة الحالية بقدر ما هي أزمة ضمير وهوية هي أزمة قيادة كذلك. لذلك طرح التقي ولد الشيخ في وسائل الإعلام بلاغه الشهير:
ولي أمر مختبى
قد ضاع منذ حقب
يؤمن بالله الذي
خلقه وبالنبي
ليس لغرب ينتمي
ولا لشرق يجتبي
ولا يبيع شعبه
بمنصب أو مكسب
فمن عليه عثرا
فليحتسب في الطلب
ثم ليوصله إلى
أقرب قطر عربي
لقد خرج التقي ولد الشيخ من رحم هذه الأمة المستهدفة، مجاهداً بكلمته الجريئة وأسلوبه اللاذع، مع جرأة نادرة وشجاعة في الحق أكسبته ثقة الآلاف من أبناء شعبه وجعلته في مصاف الشعراء العظام الذين ازدانت بهم ربى شنقيط في الماضي والحاضر.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد