أناشيد الطفل المسلم .. من الميلاد إلى الاستشهاد ( 2 - 2 ) الشعر التربوي..وتهمة الوعظ والإرشاد


بسم الله الرحمن الرحيم 

عندما أقام أدباء العروبة وشعراؤها مهرجاناً عاماً لمبايعة أحمد شوقي بإمارة الشعر، وذلك في حفل بدار الأوبرا، في 29 أبريل عام 1927م، تمرد جماعة من الشعراء على هذه الإمارة، بزعامة الشاعر المرحوم محمد الهراوي (1885 1939م)، حيث رأوا أن إمارة الشعر بدعة، وأن لكل شاعر مكانته ووضعيته وامتيازه وخصوصيته، وعلى هذا أخذ الهراوي يحرض الشعراء على مقاطعة مهرجان شوقي (1870 1932م)... والحيلولة دونه والإمارة.. وكتب ساخراً من قصيدة شوقي:

 

مال واحتجبوا دعى الغضب *** ليت هاجري يعرف السبب

 

فكتب الهراوي قصيدته الهزلية:

شال وانخبطوا دَّعى العبط *** ليت صاحبي يبلع الزلط

وأخذ الحاضرون يجيزون ويزيدون على هذا المنوال، حتى بلغوا بالقصيدة ستين بيتاً.

ليت هذا المدخل يضع أيدينا، على أن الهراوي لم يكن واحداً من عرَض الناس، ولا شاعراً من جموع الشعراء، بل كان واحداً من الواعين لرسالتهم، المعتزين بأنفسهم، المدركين لدورهم ووزنهم... حتى إنه جعل رأسه يوماً ما، من رأس أمير الشعراء أحمد شوقي...

من هنا ندرك إلى أي مدى وضع الرجل يديه على قيمة ما يؤديه من رسالة ثقافية نذر نفسه لها، وهي شعر الأطفال.. فقدم لهم:

سمير الأطفال للبنين (3 أجزاء).

وسمير الأطفال للبنات (3 أجزاء).

وأغاني الأطفال.

وديوان الطفل الجديد.

والسمير الصغير.

وديوانه الإسلامي القيم للأطفال \"أبناء الرسل\" محاولاً في كل ما قدم الجمع بين الترفيه والتربية، والتعليم والترفيه، والتهذيب والتأديب..

فمن منا لم يحفظ يوماً:

أنا مسلم وتحيتي

عند القدوم إليكم

وإذا رأيت جماعة

قلت السلام عليكم

ولقد صال الهراوي وجال في حقل التربية والتوجيه الخاص بالأطفال، فكتب عن العلاقات الاجتماعية والسلوكيات والآداب المحمودة والمذمومة، وكتب عن مخترعات عصره من الطيارة والسيارة، والمسرة والآلة الكاتبة، والدراجة والقطار.. كما كتب عن كل ألعاب الطفل المتاحة في عصره.. وتدرج مع الطفل في أعماله وأقواله... بدءاً من تعليمه حروف الهجاء:

وأحرف الهجاء

من ألف لياء

عندي لها أمثال

يفهمها الأطفال

وكل حرف آت

في أول الكلمات

فألف في \"أرنب\"

قد اشتراها لي أبي

والباء مثل \"بقرة\"

تأكل تحت الشجرة

إلى تداوله وتناوله لأدواته وملابسه، من لبس الحذاء، إلى تجهيز حقيبة المدرسة... إلى سلوكياته المدرسية إلى ألعابه وتساليه، وترانيمه وأغانيه، وثقافته ووطنيته، ودينه وأخلاقه.. وتمثيلياته ومسرحياته.

وبالإجمال.. نستطيع أن نقول: \"إن الهراوي هو الشاعر الأول في ميدان تربية الطفل وثقافته الأدبية والدينية.. لا سيما أن الرجل كان واعياً أيما وعي بشمول رسالته.. من سقف العقيدة وحتى وداعة المهد.. كل ذلك في بساطة شديدة، وسهولة ممتعة..

فالرجل كان رائداً بكل المقاييس، ومبدعاً أصيلاً بكل معنى الكلمة.. في الأنشودة والأغنية والمسرحية، التي تعاملت مع الطفل من خلال لغة بسيطة موحية، تحمل الإيقاع الرشيق والمعنى الدقيق..

 

ثم جاء الأمير

ثم جاء أحمد شوقي أمير الشعراء (1870 1932م) الذي يعتبر بحق، قطب الرحى وخط الاستواء في مادة الشعر العربي المعاصر... ما كان منه للكبار وما كان للصغار... قصيدة كانت أو مسرحية.. وإن كان البعض قد سبقه كعثمان جلال الذي أصدر الطبعة الأولى من \"العيون اليواقظ\" ما بين عامي (1848 و1854م) أي قبل ميلاد شوقي (16-10-1870م) بخمسة عشر عاماً تقريباً... إلا أن أحمد شوقي قد امتاز على شعراء عصره، بأنه قام بكل واجبات الإمارة تقريباً، من سعي ورعي، وشمول ووعي.. فنسق بستانه الشعري بكل الأزاهير والرياحين، وغرس فيه كل الألوان والأشكال... ومن ثمَّ انت حركته القوية، تحدث أثرها في كل فن تناوله قلمه الذي كان يغمسه في وادي عبقر.. فيخرج المعجب والمطرب من فنون القول، وسبائك الأناشيد، ومرصوف القصائد.

ويحسب لشوقي أنه توفر بعناية على شعر الأطفال، وعد ذلك إحدى أمنياته: \"وإني كنت أتمنى.. ولا أزال ألوي في الشعر على كل مطلب، وأذهب في فضائه الواسع في كل مذهب\"... \"والمأمول أن نتعاون على إيجاد شعر للأطفال والنساء، وأن يساعدنا سائر الأدباء والشعراء على إدراك هذه الأمنية\". (1)

ثم يقول شوقي: وجربت خاطري في نظم الحكايات على أسلوب \"لافونتين\" الشهير، فكنت كلما فرغت من وضع \"أسطورتين\" أو ثلاث، أجتمع بأحداث(2) المصريين، وأقرأ عليهم شيئاً منها، فيفهمونه لأول وهلة، ويأنسون إليه، ويضحكون من أكثره، وأنا أستبشر لذلك، وأتمنى لو وفقني الله لأجعل لأطفال المصريين مثلما جعل الشعراء للأطفال في البلاد المتمدنة، منظومات قريبة التناول، يأخذون الحكمة والأدب من خلالها على قدر عقولهم. (3)

ومن هذا الإدراك الواعي، يقدم في ديوانه بابين خاصين بالأطفال هما: \"ديوان الأطفال\"، \"باب الحكايات\"... على أن أهم إضافات شوقي التي رسخت أصالته الفنية.. وليس التاريخية هي:

1 توظيفه الفني الجيد للرمز.

2 فنية التناول الإبداعي لنشيد الطفل.

3 الاتكاء على القصة الشعرية الملتزمة بالضوابط الفنية للقصة.

4 التضمين القيمي للقصة الشعرية.

5 التوفيق الجيد للقاموس اللغوي للطفل.

6 استهواء الطفل واستمالته من خلال الحكايات الشعرية على ألسنة الطير والحيوان.

7 المهارة الانتقائية لنماذج البطولة والحكمة.

8 الرشاقة الإبداعية، والسلاسة العروضية.

ومن أبرز النماذج الشوقية التي سارت بين جماهير الأطفال.. فشرقت وغربت.. حكاية \"الثعلب والديك\":

برز الثعلب يوماً

في ثياب الواعظينا

فمشى في الأرض يهدي

ويسب الماكرينا

ويقول الحمد لله

إله العالمينا

يا عباد الله توبوا

فهو كهف التائبينا

وازهدوا في الطير إن

العيش عيش الزاهدينا

واطلبوا الديك يؤذن

لصلاة الصبح فينا

فأتى الديك رسول

من إمام الناسكينا

عرض الأمر عليه

وهو يرجو أن يلينا

فأجاب الديك: عذراً

يا أضل المهتدنا

بلغ الثعلب عني

عن جدودي الصالحينا

عن ذوي التيجان ممن

دخلوا البطن اللعينا

أنهم قالوا وخير ال

قول، قول العارفينا:

مخطئ من ظن يوماً

أن للثعلب دينا

 

 

الأب الروحي

ثم جاء الرائد المجنح كامل كيلاني (1897 1959م) ليمد الطفل بأول مكتبة عربية شاملة، عنيت بتنشئته على أسس علمية تربوية صحيحة، حيث كان الرجل معنياً بفتح السبل، وارتياد الطرقات التي لم يرتدها أحد من قبل... فأبدع ونقل، وترجم وصقل، وقيَّد وفصل، وبسط وأجمل.. ونزل من سقف أبي العلاء(4) ودوزى(5) وابن الرومي(6) وموازين النقد الأدبي(7)، وابن زيدون(8)، ونظرات في تاريخ الأدب الأندلسي(9).. إلى حكايات بهلول والفيل الأبيض، وشنطح وشطربة.. إلى القصص الإسلامي في \"من حياة الرسول\" في 37 جزءاً... إلى النحلة العاملة التي تنشدنا.

أنفع الناس وحسبي

أنني أحيا لأنفع

أنفع الناس ومالي

غير نفع الناس مطمع

ولقد كان كامل كيلاني في أدبه كله \"مسلماً مؤمناً.. حاول بأدبه أن يغرس القيم الدينية في نفوس الناشئين\"، على حد تعبير عبدالتواب يوسف الذي حقق وقدم ديوان كيلاني للأطفال، عن الهيئة المصرية العامة للكتاب عام 1988م.

والحق، أن كامل كيلاني نزل حقل أدب الأطفال \"قصة وشعراً\" بكل ثقله... بل نذر له نفسه واستجمع له وقته ومواهبه الكبار.

ومر بهذا الموكب الرائد \"إبراهيم العرب\" الذي قدم \"آداب العرب\" عام 1911م، وضمنه تسعة وتسعين نشيداً في صورة قصص شعرية على ألسنة الحيوان.

ثم أخرج \"جبران النحاس\" ديوان تطريب العندليب عام 1940م، وبه سبع وتسعون قصة شعرية مقتبسة من \"حكايات لافونتين\". كما قدم محمود أبوالوفا (1900 1979م) مجموعات شعرية صغيرة للأطفال، فقدم \"أناشيد دينية\" عام 1937م، و\"أناشيد عسكرية\" 1939م، وأناشيد وطنية\" 1956م(10)، كما اختارت لجنة تربوية من وزارة التربية والتعليم مجموعة من أشعاره الخاصة بالأطفال وطبعتها عام 1934م في كتاب المحفوظات المختارة.

ولكن أشعار محمود أبوالوفا الخاصة بالطفل المسلم، لم يكتب لها الحياة، إلا بعد أن اتخذتها بعض المدارس التربوية كأناشيد لأشبالهم في مدارس الجمعة وغيرها من وسائلهم التربوية.

الملاحظة العامة على هذا الامتداد التاريخي لأنشودة الطفل طوال السياق السابق، أنها ظلت في الأغلب الأعم منها تقليداً بحتاً، ومحاكاة باهتة، لأناشيد الطفل الغربي، حتى في الكثير من المضامين والأغراض، وقد قرر ذلك كثير من الرواد دون خجل، مما يفتح الكثير من الأسئلة الخاصة، بالأصالة والتطور، والخصوصية والمحاكاة، خاصة في رحيق أدب الطفل المتمثل في أغنيته وأنشودته، وأغاريده وأهازيجه، التي تعد بمثابة السلم المتحرك إلى مكونه الحيوي الخاص، والقانون الحاكم للكثير من سلوكياته ومفاهيمه وحركته في الحياة.

 

 

الهوامش

 

 

(1) انظر: \"الحكايات على لسان الحيوان في شعر شوقي\"، د. سعد ظلام، دار التراث العربي، 1982م.

(2) أحداث: أطفال.

(3) كان شوقي حينئذ يعيش في فرنسا.

(4) قدم كامل كيلاني تحقيقاً لرسالة الغفران، مكتبة الآداب، القاهرة، 1939م في ثلاثة أجزاء، وقدمها بالإنجليزية بالاشتراك مع برا كنبري.

(5) ملوك الطوائف ونظرات في تاريخ الإسلام للعلامة دوز، ترجمة كامل كيلاني.

(6) ديوان ابن الرومي، تحقيق كامل كيلاني.

(7) موازين النقد الأدبي، كامل كيلاني، مطبعة حجازي، القاهرة، ديسمبر 1932م.

(8) ديوان ابن زيدون، تحقيق كامل كيلاني وعبدالرحمن خليفة.

(9) نظرات في تاريخ الأدب الأندلسي، محاضرات ألقاها كامل كيلاني بالجامعة المصرية.

(10) أناشيد وطنية 1937 مطبعة مصر، القاهرة، طبعة أولى.

أناشيد عسكرية 1939، مطبعة مصر، القاهرة، طبعة أولى.

أناشيد وطنية 1956م، دار الكاتب العربي، القاهرة، طبعة أولى.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply