العـُــمَـــران
أعني هنا:
عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -
وعمر بن عبد العزيز - رحمه الله -
كلاهما أنكر أمــراً
فما هــو؟
تعال نتأمل هذين الموقفين:
الأول مع عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -
بلغ عمر - رضي الله عنه - أن عَامِلَه النعمان بن عدي تغنّى قائلاً:
فمن مبلغ الحسناء أن حليلها **** بميسان يسقى في زجاج وحنتم
إذا شئت غنتني دهاقين قرية**** وصناجة تجذو على كل منسم
إذا كنت ندمانى فبالأكبر اسقني**** ولا تسقني بالأصغر المتثلم
لعل أمير المؤمنين يسـوءه **** تنادمنا في الجوسـق المتهدم
فكتب إليه عمر:
قد بلغني شعرك، وقد والله ساءني، وعزله، فلما قدِم قال: والله ما كان من ذلك شيء، وإنما هو فضل شعر قلته، فقال عمر: إني لأظنك صادقا ولكن والله لا تعمل لي عملا.
وأما الموقف الثاني فَمَعَ عمر بن عبد العزيز - رحمه الله -
يوم تولّى الخلافة وناء بأعبائها
فوقف الشعراء ببابه كعادة المدّاحين الذين لا يجدون من يحثو التراب في وجوههم!
فلما أفضت الخلافة إلى عمر بن عبد العزيز وفدت إليه الشعراء كما كانت تفد على الخلفاء من قبله، فأقاموا ببابه أياما لا يؤذن لهم في الدخول حتى قدم عدي بن أرطأة عليه وكان مِنه بمكانة فتعرض له جرير وقال:
يا أيها الرجل المزجى مطيته ****هـذا زمـانك أني قـــد خــلا زمني
أبلـــغ خليفتنا إن كنت لاقيه ****أني لدي الباب كالمشدود في قــرن
لا تنس حاجتنا لاقيت مغفرة ****قد طال مكثي عن أهلي وعن وطني
فقال: نعم يا أبا عبد الله.
فلما دخل على عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - قال: يا أمير المؤمنين الشعراء ببابك وألسنتهم مسمومة وسهامهم صائبة..
فقال عمر رضي الله عنه: مالي وللشعراء؟!
فقال: يا أمير المؤمنين إن رسول الله مُدح فأعطى، وفيه أسوة لكل مسلم
قال: صدقت، فمن بالباب منهم؟
قال: ابن عمك عمر بن أبي ربيعة القرشي.
قال: لا قرب الله قرابته ولا حيا وجهه!
أليس هو القائل:
ألا ليتني في يوم تدنو منيتي ***شممت الذي ما بين عينيك والفم
وليت طهوري كان ريقك كله ***وليت حنوطي من مشاشك والدم
وياليت سَلمى في القبور ضجيعتي ***هنالك أو في جنة أو جهنم!!
فليته عدو الله تمنى لقاءها في الدنيا ثم يعمل عملا صالحا! والله لا يدخل علي أبدا.
فمن بالباب غيره ممن ذكرت؟
قال: جميل بن معمر العذري
قال: أليس هو القائل:
ألا ليتنا نحيا جميعا فإن نمت ****يوافى لدى الموتى ضريحي ضريحها
فما أنا في طول الحياة براغب ****إذا قيل قد سُـــوي عليها صفيحهـــا
أظل نهاري لا أراها وتلتقي *****مع الليل روحي في المنام وروحهــا
والله لا يدخل علي أبدا.
فمن بالباب غيره ممن ذكرت؟
قال كثير عزة
قال أليس هو القائل:
رهبان مدين والذين عهدتهم ***يبكون من حذر الفراق قعودا
لو يسمعون كما سمعت حديثها ***خروا لعزة ركعا وسجودا
أبعده الله!
فوالله لا يدخل علي أبدا.
فمن بالباب غيره ممن ذكرت؟
قال: الأحوص الأنصاري
قال: أبعده الله، والله لا يدخل علي أبدا.
أليس هو القائل وقد افسد على رجل من أهل المدينة جاريته حتى هرب بها منه:
الله بيني وبين سيدها يفر مني بها وأتبعه
فمن بالباب غيره ممن ذكرت؟
قال: همام بن غالب الفرزدق.
قال أليس هو القائل:
يفتخر بالزنا..........
والله لا دخل علي أبدا.
فمن بالباب غيره ممن ذكرت؟
قال الأخطل الثعلبي
قال أليس هو القائل:
ولست بصائم رمضان عمري ****ولست بآكل لحم الأضاحي
ولست بزاجر عِيسا بكورا **** إلى أطــــلال مكـــة بالنجاح
ولست بقائم كالعبد يدعو **** قبيل الصبح حي على الفلاح
ولكني سأشربها شمولا **** وأسجــــد عند منبلج الصباح
أبعده الله عني فوالله لا دخل علي أبدا، ولا وطىء لي بساطا، وهو كافر
فمن بالباب غيره من الشعراء ممن ذكرت؟
قال: جرير.
قال أليس هو القائل:
طرقتك صائدة القلوب وليس ذا وقت الزيارة فارجعي بسلام
فإن كان ولا بد فهذا فأذن له.
قال عدي بن أرطأة: فخرجت فقلت: أدخل يا جرير
فدخل وهو يقول:
إن الذي بعث النبي محمدا جعل الخلافة في الإمام العادل
وسع الخلائق عدله ووقاره حتى ارعووا وأقام ميل المائل
إني لأرجو منه نفعا عاجلا والنفس مولعة بحب العاجل
والله أنزل في الكتاب فريضة لابن السبيل وللفقير العائل
فلما مثل بين يديه قال: يا جرير! اتق الله ولا تقل إلا حقا
فأنشأ يقول:
كم باليمامة من شعثاء أرملة ومن يتيم ضعيف الصوت والنظر
ممن بعدلك يكفي فقد والده كالفرخ في العش لم يدرج ولم يطر
أأذكر الجهد والبلوى التي نزلت أم قد كفاني ما بلغت من خبري
إنا نرجو إذا ما الغيث أخلفنا من الخليفة ما نرجوا من المطر
إن الخلافة جاءته على قـــدر كما أتى ربه موسى على قــدر
هذي الأرامل قد قضيت حاجتها فمن لحاجة هذا الأرمل الذكر
الخير ما زلت حيا لا يفارقنا بوركت يا عمر الخيرات من عمر
فقال: والله يا جرير لقد وافيت الأمر، ولا أملك إلا ثلاثين دينارا، فعشرة أخذها عبد الله ابني، وعشرة أخذتها أم عبد الله، ثم قال لخادمه:
ادفع إليه العشرة الثالثة
فقال: والله يا أمير المؤمنين أنها لأحب مال اكتسبته
ثم خرج فقال له الشعراء: ما وراءك يا جرير؟؟
فقال: ورائي ما يسوءكم!
خرجت من عند أمير يعطي الفقراء ويمنع الشعراء، وإنني عنه لراض ثم أنشأ يقول:
رأيت رقى الجن لا تستفزه وقد كان شيطاني من الجن واقيا
أخلص من هذا إلى أن كلاً منهما أنكر على من تغنّى باقتراف الحرام، وإن لم يكن اقترفه.
لأنه لا يجوز التباهي بالمعاصي
ولو كان على سبيل المزاح أو قول الشعر
والله - تعالى - أعلم.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد