أنين الفصحى


 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحديث عن لغة القرآن حديث قديمٌ جديد، فأسلافنا قَدَروا هذه اللغة قَدرَهَا، وانتشَوا بالانتساب إليها، وقضَوا أوقاتهم في التفتيش عن عجائبها، واستخلاص دُرَرِهَا، واعترفوا أنَّهم مع جهودهم العظيمة لم يرشفوا من الشَّهدِ إلا لَعقَة، ولم يحوزا من البحر إلاّ كما تحوز الإبرة من ماء المحيط، يقول سهل بن عبد الله: \"لو أُعطي العبد بكل حرف من القرآن ألف فهمٍ, لم يبلغ نهاية ما أودَعَ الله في آيةٍ, من كتابهº لأنه كلام الله، وكلامه صفته، وكما أن ليس لله نهاية، فكذلك لا نهاية لفهم كلامه\".

والمتصفح لكتب التراث يقرأ عجائب من اهتمام العلماء والحكام والبسطاء بلغتهمº فعبد الملك بن مروان يرى أنَّ اللحن في منطق الشريف أقبح من آثار الجدري في الوجه، وأقبح من الشقِّ في الثوب النَّفيس، وكثير بن أبي كثير البصري أراد الحجاج أن يكرهه على عملٍ, فتخلَّص منه بلحنٍ, قبيح، وقد بذل العلماء في سبيل تنقيح اللغة من شوائب اللحن المتسرِّب من بعض الأعاجم جهوداً عظيمة، فالكسائي (ت 189هـ) ألف كتاب \"ما تلحن به العوام\" وثعلب (ت291هـ) ألَّف كتاب \"ما تلحن فيه العامة\"، وأبو هلال العسكري ألف كتاب \"لحن الخاصة\"، وهكذا كان القوم.

واليوم وبعد حقب مديدة تبقى اللغة، وستبقى بإذن الله- صامدةً أمام المتحذلقين، شامخةً رغم أنوف المعتدين، شائقة للمتذوقين، زاخرةً بالجواهر، مليئةً بالعجائب، ولكن الحال يقتضي أن أعرض لقضيتين مهمتين:

الأولى: شيوع العامية، والدعوة إلى إحلالها محلَّ الفصحى، وتولَّى كِبر هذه الدعوى المستعمرون وأذنابهم من أغبياء العرب. ومن أولئك الغزاة المستشرق الألماني (سبيتا ت 1883م) الذي كان يغشى أحياء مصر ليتعلَّم العامية، وكان يكتب على قميصه خوفاً من ملاحظته، ثمَّ نَعَقَ بأن اللغة الفصيحة صعبة، وأنها معيقة للتقدٌّم الحضاري، ومواكبة العصر، ومن الأجدر بالمصريين أن تكون العامية لغة أدبهم وفكرهم.

وبعد أن نفث هذا المستشرق سمَّه الناقع جاء المستشرق (وليام ويلكوكس ت1932م) ليكمل حلقة المكر والحقد على لغة القرآن، وزعم أنّ الفصحى أعاقت المصريين عن الاختراع والاكتشاف، ورمتهم بالجمود والعقم، ولا سبيل إلى اللحاق بركب الأمم المتحضرة إلاّ بالانتِفَاض من اللغة الفصيحة، والتأليف بالعامية، وقال معللاً هجر الفصحى: \"أما اللغة الفصيحة فهي لغة مصطنعة، يتعلمها المصري كلغةٍ, أجنبية إن وَصَلَت إلى الرأس فهي لا تصل إلى القلب\"، وقد بلغت الوقاحة بهذا المسكين أن دَعَا المصريين إلى تقديم أبحاثٍ, باللغة العامية، ووضع جائزة مقدارها أربعة جنيهات لمن يكتب بحثاً بالعاميةº لكنه انقلب خاسئاً، ولم يتقدَّم له أحد.

وأذناب المستشرقين دندنوا بأصوات أسيادهم، وكرَّروا دعوتهم، واندفعوا - بلا ضميرٍ,- ينادون بإقصاء الفصحى، وهم في دعواتهم تلك يستخدمون اللغة الفصيحة، ومن أولئك الغيورين على مصالح زعمائهم: سلامة موسى، ولويس عوض \"الذي مكث ثلاثة عشر عاماً لا يقرأ بالعربية إلاّ عنوانات الصحف\"، وسعيد عقل الذي قال: \"إني عدو الفصحى، وأعتبر التمسٌّك بها سبباً للتخلف\".

إنَّ هذه الدعوى العقيمة لونٌ من ألوان الغزو الذي وصفه حارس العربية محمود شاكر-- يرحمه الله - بقوله: (نعم كان هذا غزواً، ولكنه غزوٌ خفي الوطء، بعيد المرمى، طويل الأجل، لم يكن غزواً بالمعنى الذي كان الناس يعهدونه يومئذٍ,...لم يكن جيوشاً وجحافل لها صليل يقعقع، ونقعٌ يثور).

ويبقى ارتباط اللغة الفصيحة بالدين مقلقاً للأعداءº إذ لو لم تكن العربية لغة القرآن والنبي - صلى الله عليه وسلم - لما خاصموها، وناصبوها العداء، فمتى ما عُزِل المسلمون عن القرآن والسنة والتراث، وعاشوا على فتات موائد الآخرين، بقوا في استرقاق وضعف وبُعدٍ, عن منابع الدين، وهنا تتحقق إرادة الأعداء. يقول المستشرق (وليم جيفورد بلجراف): \"متى توارى القرآن، ومدينة مكة من بلاد العرب يمكننا حينئذٍ, أن نرى العربي يتدرَّج في سبيل الحضارة التي لم يبعده عنها إلاّ محمد وكتابه\".

القضية الثانية: ارتباط اللغة الأجنبية (وبالذات الإنجليزية) بالرقي والثقافة والعلم في أذهان بعض أبناء العربية، فقد فشا في مجتمعاتنا العربية هوس باللغة الإنجليزيةº فأضحت أسماء الأسواق، والمحلات، ومراكز التدريب، والإعلانات التجارية... لا تروق لبعض القوم إلاّ باللغة الإنجليزية، حتى إنك لتعجب من البائع والمشتري (وكلاهما عربي) يتكلمان لغة إنجليزية، وترى الشاب يتكلم بكلمات عربية يدسٌّ في طياتها كلمة أجنبية إشعاراً بذوقه وتقدمه، وإنك لترى بعض القوم يتوارى عن الأنظار، ويرتبك عند اللقاءº لأنه لا يعرف من الإنجليزية إلاّ اسمها، والإعلام العربي بقنواته العديدة ساهم في تعميق الجراح، وزيادة الخرق، ولك أن تخرج اليوم في شوارع الرياض مثلاً- لتبصر أسماء المحلات والأسواق، التي حسب أصحابها أن بعدهم عن لغتهم الثَّرّة سببٌ لزيادة زبائنهم، وكثرة أرباحهم (من ذلك مثلاً: مول/ هايبر/ ماركت/ كوفي/ سنتر/... ) وتزايد هذه الظاهرة يقلقني كثيراً، فحين اعتزَّ أقوامٌ بلغتهم، وفرضوا الضرائب على المتحدثين بغيرها، اعتقدنا أنَّ رقينا في البعد عن لغةٍ, صمدت عبر العصور والأزمان بفضل ارتباطها بالقرآن الكريم.

وأنا لا اُقَلِّل من تعلم اللغة الإنجليزيةº فمنطق القوة والهيمنة يملي على الشعوب اعترافاً بالقوي، لكنّني أدعو إلى الحديث بها عند الضرورة، وترشيد استخدامها، وعدم الاعتقاد أنها أداة من أدوات التحضر والثقافة، واستنقاص غير الناطقين بها، يقول المبشر (تكلي): \"يجب أن نشجع إنشاء المدارس، وأن نشجع على الأخص التعليم الغربي. إن كثيرين من المسلمين قد زُعزِع اعتقادهم حينما تعلموا اللغة الإنجليزية\".

إنَّ عبث العابثين لن يضير لغة القرآن، وسيبقى التحسٌّر من أجلها والحماسة للدفاع عنها ميسماً لأهل الدين، أمَّا الهارفون بما لا يعرفون، والمتباكون بدموع التماسيح فإن سيوفهم راجعة إلى صدورهم وتأبى الحقيقة إلاّ أن ترفع رايتها.

وأختم مقالتي بمقولة للأديب المحقق أحمد عبد الغفور عطار عاشت معي حين قرأتها كثيراً، وأرجو أن تقرع آذان القرَّاء، وتنسرب إلى قلوبهم، يقول - يرحمه الله -: \"اللغة ترتبط بصاحبها قوةً وضعفاًº فعندما كان العرب أقوياء كانت لغتهم قوية، ابتكروا آلاف الكلمات والمصطلحات، ومئات العلوم، واتسعت لغتهم لكل جديد مهما كان مصدره... ولمَّا ضعف العرب أصاب لغتهم عدوى ضعفهم، وفقدت شيئاً كثيراً من قوتها وحيويتها، وزاد من ضعفها محاربة أعدائها إياها\".

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply