استيقظ من نومه على جرس منبهه الذي ضبطه قبل النوم..أيقظ زميل غربته: حمد، حمد، هيا! هيا!
توضأ سعد، واستغرق وضوؤه فترة طويلةº فقد كان بحاجة إلى الحمام، والماء يتقطع من الصنبور..لقد كان الماء في نهايته.
عاد سعد إلى غرفته ليهيئ نفسه لصلاة ركعتين اعتادهما، ولكن الوقت لم يسعفهº فلم يبقَ إلا القليل على إقامة الصـلاة. وأثناء تصفيف شعره أمام المرآة أخذ ينشد:
أخيَّ توضأ وقم للصلاه
وصلِّ لربك تكسب رضاه
حمد.. حمد.. ستقام الصلاة الآن، أسِرع!
لبس ثوباً خصصه للصلاة يزيد طيبَه طيبُ سريرته، وانطلق إلى المسجد في لهفة ليحضر إقامة الصلاة فيه، وبالفعلº عندما قدّم رجله اليمنى داخل المسجد أقيمت الصلاة. لمح جمالاً وجميلاً في مكانهما الذي يغبطهما عليه خلف الإمام، ولكنه وجد ثغرة في الصف الأول فتقدم وسدّها.
ومـا إن كبَّر الإمام حتى سالت دموع الفرح على وجـنتيهº حيـث راجـع فـضل اللـه علـيه إذ اخـتاره للصــلاة ـ وأي صلاة؟! ـ صلاة الفجر في المسجد في الصف الأول يشهد مع المسلمين تكبيرة الإحرام.
نفض سعد رأسه مجاهداً نفسهº فقد كاد يسرح عن مناجاة مولاه بالسبع المثاني خلف الإمام، واستحضر قول ربه: حمدني عبدي، أثنى عليَّ عبدي، مجَّدني عبدي، هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل. ويزداد الدمع، ويقشعر البدن، ويستجـمع قوى فكره: لا أعبد إلا أنت ولا أريد سواك.
وينتهي الإمام من الفاتحة ويؤَمِّن سعد مع الجماعة تأمين الخاشع الراجي هداية ربه، وتبتهج النفس ويُحسِنُ الظن عندما بدأ الإمام بالقرآن: {وَاصبِر نَفسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدعُونَ رَبَّهُم بِالغَدَاةِ وَالعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجهَهُ وَلا تَعدُ عَينَاكَ عَنهُم تُرِيدُ زِينَةَ الـحَيَاةِ الدٌّنيَا وَلا تُطِع مَن أَغفَلنَا قَلبَهُ عَن ذِكرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمرُهُ فُرُطًا} [الكهف: 28].
يغالب سعد شرود ذهنهº فقد شغله حق صديقه عليه وكيف تركه محروماً من هذه النفحات، ويتذكر وكأنه لم يغلق صنبور المياه.. أخذ يغالب شروده ويجاهد نفسه في جمع جـوانبها على تسبيـحاته وتحمـيداته وتكـبيراته وقراءة إمامه، وظـل كـذلك حتى سلم بعد تسليمة الإمام.
تردد سعد برهة: هل يأتي بركعتي السنة القبلية أم يقرأ القرآن؟ فقد عزم على أن يحوز فضل حجـةٍ, وعمرة تامتينº فاليوم عيده الأسبوعي.
وبالفعل صلّى الركعتين، ثم تابع بقراءة القرآن متنقلاً بين رياض ورده، لا يصرفه عنه صارف ولا يشغله عنه شاغلº فلم يبقَ في المسجد سوى أربعة.. كلٌ قد عقد عزمه على الغدوة والزاد. وتسمو الروح، وتخشع الجوارح، وتخفت الأضواء.. وإذا بالأيادي تُرفع مع لهث اللسان بالثناء على الحي القيوم الحنان المنان.
تغلـق المصاحف، ويحــسن الابتـهـال، وتبـتل اللـحى.. كـل له شــأنه وحـاجتـه، ويسـتمر الدعاء ويستمر حتى يروي ظمـأ الـروح، وتـسكن النـفس، ويطمئن القلب، وينشرح الصدر.
يُنزِل سعد يديه، ويلمح الساعة تقترب من السادسة، وينظر حوله وكأنه قد رجع من رحلة المعراج.. فإذا بالمسجد قد خلا إلا منه، وآخر المصلين خرج لتوه.
وقف سعد يصلي ركعتي الضحى وهو يحتسب عـلى الله أن يثبـت أجـره، وأن لا يحـرمه غـدوته هـذه حتـى المـمـات.
ويعود إلى غرفته.. فإذا بصديقه حمد ما زال نائماًº فيشفق عليه، ويستشعر تقصيره في حقهº حيث لم يجهد في إيقاظهº فأيقظه يعتذر له عن تقصيره في ذلك.
ولكن حمد يفاجئه: ولِم هذا الإزعاج؟! أليس اليوم يوم جمعة؟!
سعد: ولكن الصلاة.. ؟!
حمد: نحن نفزع إلى الصلاة كل يوم.. ألم تعلم أن لبدنك عليك حقاً؟!
سعد: نحن نفزع إلى الدوام ومعه الصلاة.. فهلا فزعنا اليوم للصلاة بدون الدوام؟! هلا فزعنا لصلاة الجماعة في المسجد بالصف الأول نشهد مع المسلمين تكبيرة الإحرام.. ؟! ألا إن المحروم حقاً من حُرِم!
يستلقي سعد على سريره يقلِّب فكره في جوامع كلمة - صلى الله عليه وسلم -: «ذاك رجل بال الشيطان في أذنيه»، «أثقل الصلاة على المنافقين الفجر والعشاء»، «لو تعلمون ما في النداء والصف الأول... »، «من صلّى الفجر في جماعة فهو في ذمة الله».
ثم انتفض يفكر بصوت مسموع: ولكن هؤلاء إخوتي! هـؤلاء صحبتـي! كيـف أنقـذ إخـواني؟ كـيف أكـرم خـلاني؟!
وسرعان ما هدأ روعه وسكنت نفسهº حيث قرر أن يعلِّق هذه النصوص النبوية لوحات في المجمع السكني الذي يقطنه.
وذات يـوم أكمل صديقه حمد صلاته ـ كعادته ـ بعد تسليمة الإمام ـ فنادراً ما كانت تفوته تسليمة الإمام ـ وأثناء عودته، ودون أن ينـاقشه أحد، أخـذ يجادل نفسه التي بـدأت تـؤنبه: ومـا علـيَّ إلا أن ألتــزم السكيـنة والـوقـار.. فـما أدرك أصـلِّيه وما فـاتنـي أتـمه؟ أليــس ذلـك قـول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟!
وفي المدرسة، وفي الحصة الأولى، هيأ حمد طلابه لشـرح درسه.. وقبيـل النهـاية طُـرق البابº وإذا حمد بطـالب تبـدو علـيه السكـينة والوقار، نظر إليه لحظة ثم سـأله باستنــكار: ومـاذا تفـعـل فــي ما فـاتـك مـن شرح أو استفهام؟!
ويجيب الطالب ببرود واسترخاء: لا عليكº ما أدرك أفهمه، وما فاتني أتمه بعدك إن شاء الله.
وهنا أخذ حمد ينظر إليه ولا يراه! إنه بفكره يراجع جداله وشريط حاله مع الصلاة، ولم يزد على قوله:
ما أحلمك عليَّ ربي! ما أحلمك!
أعاهدك ربي أن أزاحم جمالاً وجميلاً وسعداً في الصف الأول خلف الإمام.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد